الفصل الاربعون 40 ج1
بقلم سيلا وليد
سيبقى كسر قلبي في ذمتك للأبد...
فليت الحياة اختبرت صبري في أشياء اخرى غير قلبي وفلذة قلبي...
فغيابك شبيه بفقدان الام في عز البرد و الوجع..
جميل هو حضنها ..و لو كان فوق الجروح..
ليت الرحيل لم يخلق و لم يسكن دياري..
فوالله لكنت بنيت لك جبلاً من أعذار لن تخلق..
أيا بلسمي صميم جرحي يشتاق لك .....
لم أتعود الضماد بعد ..فجراحي لازالت تنزف...
شتـّاااااان بين ألمي بين انفاسك....و ألمي بعد فراقك
أصبحت غريبة أهلي و نفسي و وبيتي
.....غيابك شبيه بفقدان الام في عز الوهن
حزينة مدني و أريافي ....و كل ليلة تشيع جنائز سكاني....
تتكلم أركاني و تعلق صورك على جدراني و كأنك غائبي بينما انت نصفي و كل كلي...
كيف أمكنك هجري و في كل شبر تركت لي عطرك...
كنت اول نبض و اول شوق لو فـُرّق على الخلق لكان لهم حياة بعد الموت.......
......صرت اليوم ضر.بة كسرت قلبي
❈-❈-❈
فتح عيناه عدة مرات وهمس
-أنا فين !!
امال أحدهم بجسده ونظر لمقلتيه واردف ساخرًا:
-ايه نستني ولا ايه ؟!
أغمض عيناه مرة أخرى عندما شعر بآلام تفتك برأسه يهمس بخفوت
"انا مش فاكر حاجة، انا مين وانتوا مين"
رفع عزيز نظره بصدمة للطبيب، الذي حقنه قائلاً
-اهدى وارتاح وان شاءالله هتفتكر انت مين ..قالها ينظر لعزيز ثم تحرك للخارج
توقف خارجًا ونظرات متسائلة، اقترب الجيار يوزع نظراته عليهما
-ايه الواد مات ولا ايه !!
ارجع عزيز خصلاته بغضب كاد أن يقتلعها من شدة غضبه، ثم لكم الجدار خلفه:
-يعني ايه ؟! اوعي تقولي فقد الذاكرة
هز الطبيب رأسه مردفًا، احتمال، واحتمال..توقف عن الحديث إلى أن اطبق عزيز على عنقه
-لا فوق وأكدلي كدا، أن كان حقيقي ولا لا ..تدخل الجيار يدفع عزيز بعنف
ثم اتجه للطبيب متسائلًا :
-ايه اللي يخليك تقول ممكن!!
انحنى الطبيب وجذب تلك الأشعة ورفعها إليهم
-أنا كنت شاكك بعد ماعملت فحصواته، بس برضو مايأكدش أنه فاقد، ممكن يكون بيتلاعب وخاصة بعد ماشاف عزيز، فاحنا لازم نكون حريصين في التعامل معه
أشار الجيار إليه بالخروج، ثم جلس موجهًا نظراته إلى عزيز:
-كان عندنا أمل في الواد دا ، احنا مش هنفضل هربانين كدا
اخذ نفسًا طويلًا من لفافة تبغه ينفثها بالهواء :
-لسة فيه أمل ياباشا، الدكتور بيقول يمكن ويمكن
ألتوت زاوية فمه بعبث متسائلًا:
-إزاي يابو العريف !!
أخرج صوتًا معترضًا وهو ينفث تبغه بالهواء:
-بلاش انت ياخالو اللي تتريق، قالها عزيز عندما دلف والشرر يتطاير بوجهه بعدما أخبره الطبيب
جلس يمسح على وجهه بعنف :
-"ريمون" بيدور علينا انت عارف لو وقعنا في أيده النتيجة ايه، هيموتنا، الواد دا لازم يفوق، ولازم ناخد بضاعتنا بأي طريقة ..قالها بغضب محموم يندلع من عيناه
نهض عزيز من مكانه وهتف :
-الواد لو فاقد الذاكرة هينفعنا، ولو مش فاقدها هينفعنا برضو
اسمعني ياخالو ..لو فاقد هنستغله كويس ونشغله ، ونبدأ من تحت وبايده كمان ..اما لو مفقدهاش
هنرجع فلوسنا برضو ..وكمان حاجة ممكن نبيعه بدولارات انت ناسي هو مين
بتر حديثه بعدما استمع الى طرقات كعبها العالي وهي تدلف للداخل بشعرها الناري
-عايزة أخرج من هنا، مبحش الحبسة دي ..نهض عزيز وتقدم منها
-عاملة ايه ياسمارة..جذبت سيجاره وجلست تضع ساقًا فوق الأخرى
-مش كويسة يابن عمتي، عايزة اهرب من المكان دا..رفعت عيناها لوالدها
-هو انت جبتني هنا علشان تحبسني
نهض نعمان يشير إلى عزيز :
-خدها وديها عند سمر اختك، مش نقصني زنها، وانتِ اعقلي لحد ماانشوف هنعمل ايه
-اوووف ..قالتها باهتياج من عيناها ..اقترب عزيز منها يحتضن كفيها ثم رفعه يطبع قبلة عليه
-ليه زهقانة كدا حبيبتي ، اصبري يومين بس والدنيا هتبقى تمام
نزلت بجسدها تسحبه من عنقه واقتربت تهمس بشفتيها المطلية بالاحمر الناري :
-زيزو حبيبي عايزة امشي من هنا..قالتها وهي ترفع أناملها تحركها على وجهه، مما جعلته يرتجف من قوة مشاعره التي ألهبتها وخاصة عندما لمست شفتيها وجنتيه
جذبها بعنف لتصبح بأحضانه كاملًا
-هتفضلي لحد امتى كدا وأنتِ بتبعدي مش كفاية علينا دا كله ..دفعته متراجعة للخلف واطلقت ضحكة تغمز إليه :
-هفكر يازيز، وارد عليك ..قالتها وتحركت خلف والدها
بالمشفى جلس بجوار أخيه محتضنًا كفيه يربت بحنو عليه:
-كدا ياصهيب تعمل فيا كدا، بدل مااسند عليك ..ياله حبيبي ريح قلبي مبقاش متحمل، افتح عيونك، اخوك اتكسر كفاية عليه لحد كدا ..
دلف عز إليه .. خطى إلى أن وصل إليه
-عمو ايه اللي جاب حضرتك بس، حضرتك تعبان مينفعش تتحرك
كانت عيناه تسطر بالحزن على أخيه ، فتحدث ومازالت نظراته على صهيب
-ابوك لازم يفوق ياعز، لازم يفوق ، مش عايزه يستسلم للموت، كفاية عليا اللي راحو
ربت عز على كتفه وانسابت عبراته
-طيب حبيبي قوم ارتاح ، كفاية عليا بابا وجنى، الحمل تقل قوي ياعمو وضهر انحنى
جذبه جواد لأحضانه وعجز عن منع دموعه لتتساقط رغمًا
-متقولش كدا حبيبي ، ابوك هيخف، وجنى هتخرج من صدمتها، ربنا رحيم بينا أنا واثق فيه ..جذب عصاه ليقف مستندًا عليها، ساعده عز بالوقوف وخرج معه متجها إلى غرفة زوجته، قابله يونس وهو يمر على مرضاه
-ازي حضرتك سيادة اللوا، عامل ايه النهاردة !!..توقف جواد أمامه ورد عليه بخفوت:
-الحمد لله يابني، الحمد لله..ابعتلي دكتور صهيب عايز اطمن عليه وكمان اطمن على حالة غزل
طالعه يونس بأسى ثم اجابه:
-حاضر، هو في العمليات نص ساعة ويكون عند حضرتك، بس فيه حاجة حلوة حبيت تعرفها
-حلوة!! نطقها جواد وهو يهز رأسه مستنكرًا معنى الكلمة ثم نظر إليه منتظر حديثه ..تحدث يونس سريعًا بعدما وجد حالته:
- دكتورة غزل فاقت من دقايق، وكنت جاي أخبر حضرتك ..تحرك متجهًا إليها دون حديث ..فتح الباب بهدوء وجد الممرضة تحاول تهدئتها بعدما استيقظت بالكامل رفعت نظرها للذي دلف للداخل، شهقة خرجت من فمها
-"جواد"..جاسر، عايز اشوف ابني، لازم اشوفه، قالتها وهي تنزع الابر من وريدها ..ولكنها رفعت عيناها بصدمة تنظر لذاك الذي يستند على عصاه ..ارتجفت شفتيها تهتف :
-جواد مالك؟!
جذب المقعد وجلس بجوارها يحتضن كفيها ثم رفعه يقبلهما
-وحشتيني يازوزو، اخيرا فوقتي ياروحي
قطبت جبينها متسائلة:
-اخيرًا فوقت ليه هو أنا نايمة من زمان ولا ايه !!
ربت على كفيها ومازالت نظراته تحتضنها ..بسطت راحتيها تمررها على وجهه
-جواد خدني اشوف ابني، هو نايم هروح أصحيه، ياله ..قالتها وهي تنزل بساقيها المرتعشة تضعها على الأرض، ولكنها شعرت بالدوار فتوقف جواد يساندها بذراعه
-حبيبتي ارتاحي أنتِ بقالك فترة كبيرة نايمة
-يعني ايه ؟؟ دقاتها تتسارع بعنف كادت تخرج من قفصها الصدري، وعبراتها تسيل بلا توقف متسائلة بلسان ثقيل:
-جاسر!!..قالتها متوقفة مرة أخرى تستند على الفراش تهتف بنبرة متقطعة:
-عايزة اشوف ابني، يعني ايه نايمة بقالي كتير، اكيد مش كتير قوي ..تحركت خطوة والدوار يداهمها، دلف ياسين بذاك الوقت ، توقف وابتسامة حزينة على وجهه :
-ماما!!.. حمدالله على سلامتك حبيبتي
أشارت إليه بعدما فقدت الحركة، وجواد يطالعها بقلبًا أكله الألم واحزان هلكت روحه، فلم يعد يشعر بما حوله
تشبثت بذراع ياسين تستند عليه وهمست بصوتًا خافت من شدة آلامها:
-وديني عند اخوك، عايزة اشوفه
تجمد جسد ياسين وشعر بإنسحاب أنفاسه ناهيك عن نبضات قلبه التي بدأت بالتلاشي ..لحظة اثنين حتى لم يعد لديها القدرة للتمهل قائلة:
-حبيبي واقف ليه، اوعى تكون صدقتوا كلامي، لا انا كنت تعبانة، هروح دلوقتي اكشف عليه واصحيه
كلماتها فتت قلبه ولم يتحكم بدموعه ليبتعد بعيناه عنها ..لفت وجه ابنها إليها :
-مش مصدقني، أنا بس هحاول حبيبي، انا ربنا عمره ماخذلني، وان شاءالله ربنا رحيم بينا ياله حبيبي ، ياله عايزة اشوف اخوك وحشني قوي
-"غزل"..ربنا يباركلك في ياسين وأوس حبيبتي ، وعوضي ربنا في الفقيد
برودة اجتاحت جسدها ليشحب وجهها ويصبح كالأموات، ابتلعت ريقها الذي شعرت كالأشواك تغزو جوفها
-بتقول ايه ياجواد، انا مش قولت لك هكشف عليه تاني، اسكت ياجواد بلاش تحرق قلبي اكتر ماهو محروق لو سمحت..احتضنت ذراع ابنها بدخول ربى وأوس ..توقفت توزع النظرات بينهما ، ثم تحركت بوهن إلى أن وصلت لأبنتها، تنظر لثيابها :
-إنتِ لابسة اسود ليه حبيبتي ، ليه الفال الوحش دا، روحي غيري وتعالي، خدها يأوس خليها تغير
رفع أوس بصره لوالده غير مستوعب حالة والدته ..توقف جواد متكأ على عصاه واقترب منها يجذب رأسها لأحضانه ثم همس بجوار أذنها:
-احتسبيه عند ربنا شهيد وياخد بايدنا للجنة
جحظت عيناها بصدمة وكأن حجرًا ثقيلًا ضرب صدرها، ناهيك عن غصتها التي أصبحت كالنيران المشتعلة به لتشعر بانسحاب أنفاسها قائلة بتقطع:
-بتقول ايه ياجواد، ابني ..قصدك جاسر ..يعني هو راح خلاص ، يعني هيبقى ذكرى زيه زي خاله، يعنى اسمه بس ..هزت رأسها تتراجع بتخبط
-لا ..لا ..متصدقش الكلام اللي قولته، انا هثبتلك، فاكر لما قالوا إنك مت وطلعت عايش، هو كمان هيطلع عايش، انا هروح أنعش قلبه، هو محتاج لحضن أمه بس وهتسمع النبض تاني..هتشوف دلوقتي وتتأكد ..تحركت خطوة إلى أن توقفت بسبب بكاء ربى الذي ارتفع بالمكان بشهقات مرتفعة قائلة بصوت باكي متقطع:
-جاسر اندفن بقاله شهرين ياماما، يعني مابقاش موجود .. حبيبي اتحرمنا منه ومبقاش له وجود، ربنا يصبرنا
ضربات عنيفة وعيون زائغة تطالعهم بجسد شُل بالكامل حتى فقدت حواسها وصوت ابنتها يصفع اذنها، شهرين..اندفن ..ربنا يصبرنا، مبقاش موجود
ماهذا الحديث المميت لقلبي ياالله ، ماهذا الألم الذي اخترق الروح ونزف ليمنع التنفس، ربي لقد أرهقت روحي فازهقها، ربي لم اعد اتحمل كل هذا
كلمات تخترق صدرها وهي تتراجع تهز رأسها وعيناها على زوجها الذي صمت بالكامل وهو يحتضنها بعيناه التي ترجاها بها
-حبيبتي يكفي مااشعر به ، لا تزيدي فوق آلامي آلام ..قابلته بحديث عيناها
لم يعد للقلب مكانًا للاحزان فلقد اكتمل وكفى !!ماهذا ياالله ليتك اخترتني ولم اشعر بكل هذا الألم، فآلامي اليوم تخطت كل آلام الكون..
هوت بمكانها وتحجرت دموعها تنظر بتيه بكل مكان كالضائع الذي فقد كل مايملك، اقترب جواد يشير إلى أبنائه
-ساعدوا ماما ترجع سريرها
ساعدها اولادها إلى أن وصلت لفراشها بخطوات متعثرة وروحًا فارقت جسدها
-أوس شوف الدكتور..تحرك أوس ونظراته الحزينة على والدته، إلى أن خرج من باب الغرفة ...
ساعدتها ربى بالجلوس ووضعت خلفها وسادة محتضنة وجهها:
-ماما حبيبتي سمعاني..لم تنظر الى ابنتها، نظرات شاردة بعيون كالشلال لم تتوقف عبراتها
❈-❈-❈
جلس بجوارها واحتضن أكتافها
-زوزو حبيبتي، بلاش تخوفيني حبيبتي ، شوفي ولادك منهارين ازاي، انتِ اقوى من كدا..ينفع نعترض على ربنا ونقوله ليه
دموع صامتة فقط، لايوجد صراخ ولا أي ردة فعل عيونا جاحظة ببكاء كزخات المطر
مسد على رأسها واستعطفها بكلماته:
-كفاية وجع قلبي ..جوزك بيسند نفسه بالعافية يازوزو، شكلي هلحق ابنك
شهقة خرجت من فمها تطالعه بعتاب
-خدني معاك ياجواد، مبقاش ليا لازمة، هعيش ازاي وقلبي بقى تحت التراب
انا تعبت ياجواد، تعبت الناس بتدفن واحد وانا بدفن اتنين، قولت اخلي اسمه يستمر في الدنيا، وكأن الاسم مالوش أنه يعيش، هو لدرجة دي اسمه وحش وربنا مش حابب وجوده، والله لو اعرف لكنت غيرته، كنت هغيره، بس ابني يفضل في حضني
-ماما..قالتها ربى ببكاء تضع رأسها على ساق والدتها ونشجت بمرار
-أنا عايزة جاسر ياماما، عايزة اخويا
أشار جواد إلى ياسين الذي هرب إلى النافذة يزيل دموعه بعنف
-خد اختك حبيبي ، خليها ترتاح ..مسد على رأس ابنته
-قومي حبيبتي شيدي حيلك علشان ابن اخوكي، كفاية جنى وغنى..قومي ياروبي كدا كتير على ابوكي حبيبتي
امال ياسين بجسده يحتضن أخته يضمها لأحضانه:
-تعالي نطمن على غنى ياروبي، بلاش تتعبي ماما
دلف الطبيب بجوار أوس ، وقام بفحص غزل متحدثًا:
-دكتورة غزل الزعل والانفعال مش كويس لحالتك إحنا قولنا ايه ..أشار جواد لأوس لخروجه خلف الطبيب
أغمضت عيناها عندما لاحت أمام نظراتها فلذة كبدها، ضحكاته ، حديثه ..صرخة ملتاعة من قلب ام مكلوم ..بكاء بشهقات مرتفعة تخرج بها قيح جراحها..وكأنها تخرج آفات لذكرياتها الحزينة
-ليه الألم مكتوب عليا من اول ماجيت للدنيا، كأنها بتعاند وجودي وبتقولي وجودك عليا تقيل فاستحملي بقى
❈-❈-❈
شهقات مرتفعة وهي تخرج تلك آلالام من ذكريات مستعصية النسيان، هنا تقلبت مرارة حياتها وتناست نعم الله عليها ..تضم جسدها تبتعد عن زوجها، لتستأنف حديثها بقلبٍ ينزف :
وجيت وكملت عناد الدنيا معايا، روحت دفنت ابني ياجواد، دفنت ابني من غير ما أودعه
دنت من وجهه وغرزت مقلتيها التي تلونت بلون دمائها تهمس بحرقة قلبها:
-استكترت عليا اخر حضن ياجواد، طيب كنت سبني اشم ريحته، والله كنت عايزة اشمه بس علشان اقفل عليها بأنفاسي ..ريحته ياجواد ، ريحة ابني ضاعت من الدنيا ياجواد، ليه تعمل فيا كدا..هونت عليك ، هونت عليك واستكترت الوداع الاخير
أغمض عيناه يستمع إليها بقلبًا مفتت حفر بثقوب الحزن ..كأن عقلها نكر ماحدث..ماذا عليه فعله اليوم، اليوم فقط تعتريه نوبة قلق ممزوجة بالحزن على زوجته، سحب نفسًا طويلا يزفر عندما شعر بانسحاب :
-دا ايمانك ياغزل، دا ايمانك بربنا وثقتك في حبيب عمرك
نهضت تستند على الجدران
-عايزة ازور ابني ياجواد، وديني لابني هو هيحس بيا ويعذرني، ياحبيبي دلوقتي قلقان عليا علشان مرحتلوش
-لا إله إلا الله..رددها جواد ثم توقف بعدما وجد إصرارها ..قابله أوس على باب الغرفة
-بابا رايحين فين ..!!
-ساعد والدتك حبيبي، علشان نزور اخوك ..اومأ له دون حديث :
بعد قليل بالمقابر ..ترجلت من السيارة
تنظر حولها ..ليه هنا منزلتش الفيوم
-حبيبتي مينفعش الفيوم علشان يكون قريب..تحركت تردد بلوعة نيران قلبها
-قريب مننا!!.خطت بعض الخطوات إلى أن تحركت إلى منتصف المقابر، توقف فجأة برجفة وكأن ذاك المشهد تكرر مرة أخرى، ليعود بعد مرور ثلاثون عامًا مع اختلاف الكنية
بخطوات مرتعشة وجسد منتفض، ولسانًا ثقيل رددت:
-السلام عليكم ايها المؤمنون السابقون ونحن بكم لاحقون"
قالتها تتحرك مستندة بابنها وخلفها زوجها ..إلى أن وصلت إلى مقبرته..، هنا شعرت بانسحاب الأرض من تحت أقدامها عندما توقفت ببصرها على تلك اللافتة التي يدون عليها:
"الشهيد بإذن الله الرائد جاسر جواد الألفي"
اااااه حارقة كادت تزهق روحها عندما رددت الاسم بشفتيها لتهوى على الأرض بعدما فقدت الشعور بما حولها
تضع رأسها على مقبرته تبكي بعويل
"ياحبيبي يابني..تلمست باناملها اسمه المنقوش فوق مقبرته
تردد بقلبها قبل لسانها
"جاسر" ياروحي انا هنا ..آسفة يانور عيني..وحشتك ياحبيبي..انت وحشت ماما اوي ياجاسر..مع كل كلمة نطقتها تنساب عبراتها تحرق وجنتيها وتعتصر قلبها لينزف دون دمًا...وآآه تصرخ بها تود لو تحطم تلك المقبرة التي تبعدها عن احتضان فلذة كبدها ..وضعت رأسها بعدما شعرت بعجزها من الوصول إليه :
انطفى قلبي برحيلك ياروحي وفقدانك
صعب قوي ياجاسر، اوي ياروح ماما، رفعت عيناها إلى جواد :
-إزاي قدرت تتحمل الوجع دا ياجواد، انا مش قادرة اتحمله، قلبي مش قادر يصدق ..قلبي مش قادر يصدق أن ابني راح من الدنيا..جلس بجوارها يهمس لها ببعض الآيات القرآنية ليبرد نار قلبها ..حتى هدأت تمامًا بأحضانه، لقد نالت اليوم أعظم مصائب الدنيا ..قلبي مولع نار ياجواد، أطفي نار قلبي ياجواد ، كأن وجع الكون دخل قلبي، ازاي أبرد قلبي من ناره ياجواد
ادعي له ياغزل، واحتسبيه عند ربنا ياقلبي، هو محتاج دعواتك اكتر من اي حاجة..نظرت إلى أوس الذي انحنى بجسد يضع رأسه فوق مقبرة أخيه وكأنه يشكي له مما يشعر به ..فنهضت وتحدثت بتقطع :
أحتسبته عند الله شهيداً وجمعني الله بك في جنات النعيم، رحمك الله يا بني.رحمك الله ياروح غادرت الدنيا دون وداع امك ..لك الجنة بإذن الله.
قالتها محتضنة أوس الذي ضعف وشهق ببكاء مرتفع ليضع رأسه بأحضان والدته:
-ربنا يصبرنا ياحبيبتي ، ربنا يصبرنا ياأمي
تحركت تحت جناح أوس الذي ضم أكتافها واتجه إلى السيارة ، بينما ظل جواد بمكانه لبعض الوقت يدعو إليه
بعد اسبوع اخر بحي الألفي الحزين
تجلس بالحديقة تضع رأسها على ركبتيها تنظر بشرود، وأطفالها يلعبون حولها..جلس بجوارها يمسد على خصلاتها :
-عاملة ايه حبيبتي النهاردة!!..ظلت كما هي لبعض الوقت دون حديث إلى أن تحدث بيجاد مرة أخرى !!
-غنى ياله حبيبتي علشان ترتاحي جوا
ابتلعت غصتها المؤلمة متسائلة ومازالت على حالتها:
-تفتكر جنى صح يابيجاد، ممكن يكون جاسر لسة عايش، واللي اندفن دا مش هو ..نهض من مكانه وانحنى يحملها فكانت فقدت كثيرًا من وزنها ..ضمها لصدره وهو ينادي على مربية أطفاله
-خلي بالك من الولاد ..قالها متحركًا حيث غرفتهما ..وضعها على السرير بحنو وظل يمسد على خصلاتها قائلًا:
-نامي ياحبيبة قلبي ..حاولي تنامي
أغمضت عيناها ولم تنبت بحرف اخر
ظل بجوارها إلى أن ذهبت بنومها ..انحنى يطبع قبلة حنونة على جبينها ..يحمد الله على نومها فمنذ خروجها من المشفى لم يغمض لها جفنٌ..استمع الى صرخات ابنائه ..تطلع إليهم من الشرفة، وجدهما يهرولون إلى غزل..استدار ينظر لزوجته ، ثم تحرك للأسفل ..توقف أمام غزل
-حمد الله على سلامتك طنط غزل ..هزت رأسها وتحركت تجيبه بصوتًا متقطع :
-الله يسلمك حبيبي..توقفت أمام المصعد متسائلة :
-فين جنى وكنان ..هرولت إليها عاليا
-ماما غزل حمدالله على سلامتك ..رسمت ابتسامة حزينة
-فين جنى وكنان ، في اوضتهم فوق
وجهت نظرها إلى جواد الذي وصل للتو واجابها:
- جنى في بيتها ياغزل، مش راضية ترجع ..استدارت تطالعه بصدمة كادت أن توقف قلبها
-عايزة جنى وكنان هنا حالا ياجواد، بلاش تستكروا عليا ريحة ابني واسم ابنه من حواليا، روح لها يااوس. وقولها ماما بتؤمرك ترجعي بيت جوزك فورا
اقتربت ربى تحتضن ذراعيها
-ماما اطلعي ارتاحي الأول وبعد كدا هنشوف جنى..ارتفع صوتها رغم بكاؤها :
-عايزة ابن اخوكي حالا، هو ومراته اللي فضلني منه، ايه صعبة
-ماما لو سمحتي بلاش توجعينا اكتر مااحنا موجعين، جنى اصلا مش مصدقة إن جاسر الله يرحمه مبقاش موجود مش بعقلها ..قالها ياسين متألمًا
-ايه ..ايه اللي بتقوله دا ؟!
طلعي ماما وساعديها حبيبتي تاخد شاور وتغير هدومها..قالها جواد متحركًا إلى غرفة مكتبه
بمنزل حازم بغرفة جواد التي يكسوها الظلام ..يجلس على مكتبه ينحني بجسده يضع رأسه فوق المكتب، يحمل غصته داخل روحه يتذكر حديثه بعدما نزل من فوق التلة ليجذبه لاحضانه
-جاسر افتح عيونك، شوية وهنوصل للمستشفى، سامعني، جاسر اياك تستسلم
ارتجف جسده الذي شحب يهمس بتقطع:
-جواد..ابني، انقذ ابني ، هيقتلوه ..انحنى جواد يضمه بقوة ويبكي قائلاً:
-ابنك رجع حي الألفي، المهم انت قوي نفسك ياجاسر، سمعني اقوى علشان جنى، جنى من بعدك هتموت ..ابتسم بعينيه يهمس اسمها ثم غاب عن الوعي ..صرخ جواد باسمه بصوتًا زلزلت له الجبال ثم نهض يرفعه بقوة لأحضانه بوصول أحد الشرطيين ليساعدونه ليخرجوا به من ذاك المكان بوصول سيارة الإسعاف ، فاق من ذكرياته المؤلمة حينما استمع الى طرقات على باب الغرفة، ولجت إلى الغرفة بعد السماح إليها بالدخول ..أشعلت الضوء ثم اقتربت قائلة:
-جواد ..رفع رأسه إليها فكانت حالته لا تقل المًا ووجعًا عن البقية، بل أكثرهم تألمًا لوجوده بالقرب منه بأخر أيامه
جلست "هنا" بمقابلته على الفراش وتسائلت بنبرة متألمة:
-هتفضل حابس نفسك كدا ياجواد، طيب لما تعمل كدا جاسر هيرجع، دا أمر وكلنا هنمر بيه
جذب سجائره وبدأ ينفثها ولم يجيبها، نهضت من مكانها تجذب منه السجائر
-مش شايف نفسك بقيت عامل ازاي، كفاية لو سمحت، العيلة كلها واقعة مش ناقصين حد تاني
طالعها متسائلاً :
-لسة خالو صهيب مفقش ..هزت رأسها بدموع انحدرت من مقلتيها كالشلال مجيبة بنبرة متحشرجة:
-لا والدكاترة بيقولوا رافض الواقع، عقله رافض الواقع
ضغط على شفتيه يمنع دموعه قائلًا:
-يابخته، ياريتني اكون مكانه، عارفة ياهنا اكبر أن ربنا رحيم قوي بخالو، لانه لو حاسس باللي احنا حاسين بيه ممكن يموت
هزت رأسها وارتفعت شهقاتها
-عقلي مش قادر يستوعب ياجواد، ازاي اصدق اني مش هشوف جاسر تاني ، اه على وجعنا من فراقه ، ولا جنى اللي رافض اي حد يقول قدامها أنه مات
آ اآه لو محصلش قدامي كنت مستحيل اصدق ..لحظة بلحظة يا"هنا" كله راح، حاولت أنقذه بس معرفتش والله حاولت ..تفتكري دلوقتي خالو بيقول عليا ايه، اني فرطت في ابنه صح، أكيد هيقول كدا
كانت تقف على أعتاب غرفته واستمعت إلى حديثه الذي شق صدرها ، فدلفت سريعًا للداخل
-ايه اللي بتقوله دا ياحبيبي ، خالك عمره مايفكر كدا، دا عاش الأحداث دي وعارف ان دا أمر ربنا..نزلت دموعه يزيلها بعنف
-أنا هروح لخالو وافهمه مكنش بايدي حاجة..توقفت مليكة أمامه
-جواد بلاش توجع قلب خالك، احنا ماصدقنا وقف على رجله حبيبي ، عجبك يعني يرجع يتعب تاني، ابعد عن خالك ابوس ايدك
خطت "هنا "إلى الخارج بعدما فقدت السيطرة على بكاؤها..جلست بين منازل اعمامها تتلفت حولها كأنه تبحث عن السعادة التي كانت تصخب هنا وفجات تلاشى كل شيئًا، نظرات ضائعة وعيونًا باكية إلى أن جلست تقى بجوارها تحتضن كلتاهما الأخرى وكأن شعارهم البكاء على الفقيد الحنون بات يلازم حياتهم اليومية
بجناح ياسين بعد وصوله لوالدته لغرفة جاسر، وطلبت من الجميع تركها ..لم يعد يتحمل الصمود، دلف لجناحه يختلي بنفسه ، حتى لا يرى أحد ضعفه
جلس بشرفته وذكريات أخيه امامه كأنه حي يرزق، مسح على وجهه بعنف يدعو الله بسريرته
-اللهم اربط على قلوبنا بالصبر، كيف لك امي أن تتحملي هذه الآلام التي تنخر العظام ..تنهيدة حارقة لو وصلت لأحدهم لأحرقته، يريد أن يحطم كل مايحاوطه، ليس اعتراضًا ولكن نيران بداخله على ذاك مصاصين الدماء الذين ليس لهم دين ولا ذمة عند الله
كأن الله نزع من قلوبهم الرحمة ليتحولوا لعبدة شياطين يتاجرون بأروح الناس..دلفت إليه تحمل طعامه ، وضعت الطعام على طاولة دائرية كحال كل يومًا، فلم يعد يوجد التفاف حول المائدة التي تضج بتجمعهم وضحكاتهم كأنه أخذ كل شيئا كانوا يتمتعون به معه
مسدت على خصلاته تحتضن رأسه
-ياسين جبت لك الغدا ..هز رأسه بعدما فقد سيطرته على غصة بكاؤه قائلًا:
-شيلي الاكل ياعاليا ماليش نفس..قالها وتوقف ..منعته من الحركة بوقوفها أمامه :
-وبعدين قلة الاكل هترجع اللي راح، فين ايمانك ياحضرة الظابط
-وفين النفس اللي تاكل وانا اخويا تحت التراب ياعاليا، قوليلي فين النِفس اللي تقدر ترجع تضحك تاني وأنتِ دافنه روحك وسندك تحت ومش قادرة تحتضنه أو تتكلمي معاه..امال بجسده وانهار اخيرا أمامها، انهار ذاك الجليدي يبكي كالطفل
-تعرفي حاسس بايه ..هز كتفه ودموعه تسبق كلماته يهمس بشهقاته لأول مرة منذ شهرين بعد دفن أخيه
قائلًا بنبرة متقطعة مؤلمة :
-حاسس إن انا عريان، هز رأسه يشير لنفسه :
-اه عريان ياعاليا، أصله مكنش مجرد اخ وبس دا كان ابونا رغم صغر سنه بس كان بيعرف يحتويني، رغم هزاره بس كان قوته جواه، وضعفه لنفسه
انا تعبان ومش قادر اقول تعبان مش قادر اقول بقيت ضعيف ومكسور من غيره، علشان شايف اللي حواليا كلهم بقوا زي اشجار الخريف اي ريح بتوقعها، امي منهارة، وابويا بيحاول يتماسك علشان المفروض يبقى كدا، مالوش أنه يضعف علشان عارف ضعفه هيوقعنا كلنا..اقترب منها ينظر بداخل عيناها :
-مين يصدق إن جواد الألفي يقعد على كرسي متحرك شهر ياعاليا، انت كنتِ تصدقي قوة الراجل دا تنهار، بصي حواليكي وشوفي جنى اللي اتجننت ومفيش على لسانها غير أنه هيرجع، انا مستنياه وهيرجع، ابعدي ياعاليا عايز انام يمكن ماقومش بعدها اهو محسش بالألم الصعب دا
ألقت نفسها بأحضانه تبكي بانهيار
-بعد الشر عليك ياحبيبي متقولش كدا وتوجع لي قلبي ياياسين، حرام انا مش متحملة وجع، انا بتحصر على جنى، وبدعي ربنا ماعشش احساسها ابدا
لف ذراعيه حول جسدها يطبع قبلة فوق رأسها :
-هنام شوية واروح لها ، لازم أقنعها تيجي هنا، دا لو أوس مقدرش عليها، انا خايف على أوس قوي، دا من وقت موت جاسر مبيتكلمش مع حد خالص، غير إن قعدته كلها عند عمو صهيب في المستشفى ، بتمنى يطلع حزنه بدل مايحصل له حاجة
بالوادي بمنزل الجيار تجلس بشرود بغرفتها، دلفت والدتها :
-عاملة ايه دلوقتي حبيبتي..نهضت متألمة تهز رأسها وأجابتها:
-الحمد لله ياماما، احسن ..جلست والدتها تمسد على شعرها
-عرفتي اللي حصل..
رفعت عيناها تنتظر حديث والدتها
-الظابط اللي كان عامل دكتور. هزت راسها منتظرة التكملة
-عمل كمين لأبوكي ووقعوه هو التميمي بشر اعمالهم، ودلوقتي هربانين زي الفيران والحكومة بدور عليهم في كل مكان
ابتسمت سمر قائلة:
-يعني خلصنا من شرهم ..طالعتها بأسى ثم تنهدت بألمًا بصدرها
-فرحانة علشان ابوكي هيتسجن ياسمر
اشتعلت حدقيتها كجمرات ملتهبة
-كنتي منتظرة مني ايه ياماما وهو بيمص دم الشباب، انا ابويا يطلع تاجر مخدرات.. علشان كدا انفصلتي عنه
مسدت على خصلاتها وأخبرتها بما يشق صدرها:
-ابوكي اتجوزني علشان ابويا كان عمدة البلد ، علشان الاطيان واسم العيلة هما اللي وصلوه لكدا، وقبل مايتجوزني كان متجوز ام عزيز ومخلف وضحك عليا ومثل الحب لحد مااتمكن من كل حاجة وللاسف لما عرفت كان فات الوقت
تمددت تضع كفيها موضع جراحها
-متزعليش ياماما ، ربنا اخد حقك، وبعتلك واحد زي حضرة الظابط يرجعهولك
اومأت لها ثم استأنفت حديثها بأسى
-بيقولوا اتقتل ..
هبت من مكانها متناسية آلامها
-ايه مين اللي اتقتل ..غريب !!
ابتسمت والدتها ساخرة تهز رأسها بأسى:
-طلع اسمه جاسر مش غريب ياسمر
-"جاسر" رددتها بقلب ينبض بحبه وانسابت عبراتها متذكرة حديثه عندما حاورته متسائلة عن اسمه
بعد شهر آخر
بمطروح وخاصة بذاك المكان الذي يختبأ به الفسدة ..جلس ذاك الطبيب الفاسد
-الواد فعلا فاقد الذاكرة ومش فاكر حاجة..يعني كأنه طفل وعايز تشكيل ، ودا دوا استوردته مخصوص علشان يفضل عيل تشكلوه
صفق عزيز بابتسامة:
-أيوة هو دا الكلام ..فرحني كدا ، قولي
اخبار تفرحني ..ثم تابع حديثه
-يااااه اخير كام شهر وانا منتظر اللحظة دي تعبنا ابن الألفي ..بس كله يهون علشان اخد حقي بايدي
وضع الطبيب الدواء أمامهم ونهض متحركًا
-اتمنى مايحصلش غلط بأخذ الدوا، هيكون صعب التحكم على المخ ..رفعه عزيز يحركه بين أنامله وابتسم :
-دا أنا بنفسي اللي هتابع متخافش
بالداخل فتح عيناه يشعر بآلام تفتك برأسه، دلف نعمان إليه يطالعه بنظراته الصقرية، يحدث حاله :
-مين يصدق انك دلوقتي قدامي لا حول لك ولا قوة، يجي ابوك يشوفك دلوقتي ، كان نفسي افرح فيه..بس ملحوقة، هاخد حق ابويا وحقي منك يابن الألفي ..تصنع الحزن وجلس أمامه :
-عامل ايه يابني ..رفع نظره يحدجه بنظرات صامتة للحظات ثم تحدث:
-إنت مين، وليه محدش بيرد عليا انا فين ومين اللي عمل فيا كدا
ربت على كتفه وأكمل حديثه المتقن بكفاءة :
-إنت ابن صاحبي اسمك غريب المصري، ابوك الله يجازيهم الشرطة قتلوه وانا انقذتك من بين أيديهم
-غريب المصري ..رددها بلسانه ثم تسائل:
-مين غريب المصري، وانت تقربلي ايه
قاطعهم دلوف عزيز يتلاعب بمسبحته وابتسامة خبيثة على وجهه ثم اقترب منحنيا بجسده يربت على كتفه بقوة:
-حمد الله على سلامتك ياغريب زعلنا عليك ياراجل..كانت نظراته على عزيز مريبة فتسائل:
-وانت مين؟!
نصب عوده وتوقف يحك ذقنه ثم أشار على نفسه متصنع الاستغراب:
-إنت ازاي نستني، حد ينسى حبيبه برضو، دا احنا الاتنين كنا اقرب من بعض واحب الاصدقاء
ظل جاسر يوزع نظراته بينهما بريبة، رغم أنه لم يتذكر شيئا إلا أن حديثهم زعزع الشك بداخله
دلفت سمرة تنادي على والدها
-بابا قولت عزيز هيوديكي..ولكنها توقفت تنظر لذاك الجالس على فراشه بجسد ضعيف ..ورغم جسده المرهق، إلا أنه وسيم للغاية، اقتربت منه تنظر لوالدها، الذي توقف سريعا بعدما وجد نظرات ابنته المتفحصة إليه قائلاً :
-دي سمرة بنتي ياغريب، وخطيبتك
جحظت عيناها تنظر لوالدها بصدمة، رغم إعجابها الشديد به إلا أن والدها فجأها بحديثه، سحب والدها كفها وتحرك للخارج
-حبيبتي تعالي قبل ماتقعدي مع غريب عايز منك طلب
خرجت ومازالت نظراتها على جاسر إلى أن وصلت إلى مكان والدها
-مين دا يابابا؟!.
أشار إليها يهمس:
-دا الظابط اللي وقعنا كلنا، ولازم تهدي كدا وتعملي زي ماهطلب منك، الواد دا لازم تخليه جذمة في رجلك، ازاي دي شغلتك وانتِ اكتر واحدة بتعرفي توقعي الرجالة كويس، شهر واحد وألقيه جاي وبيتحايل عاليا ويبوس ايدي علشان يتجوزك
جلست تضع ساقًا فوق الأخرى تتلاعب بخصلاتها :
-اعتبره حصل يابابا ..هي سمرة قليلة، دي سمرة نعمان التميمي اللي كل الرجالة تتمنى بس نظرة
ابتسم لها ثم توقف متسائلاً :
-طيب عزيز هتعملي معاه ايه دا مجنون ، توقفت متحركة للداخل
-سيبه عليا، دلفت للداخل وعيناها تخترق جاسر الذي نظراته مشتتة بينهما فأردفت تنظر إلى عزيز:
-عزيز عايزة اتكلم معاك ممكن
نهض من مكانه يشير إليها بالخروج
بمكتب راكان مازال يحاول فتح جهاز جاسر ولكن دون جدوى، وضع رأسه بين راحتيه، استمع الى طرقات على الباب، دلفت الخادمة بجوار ليلى تحمل فنجان من القهوة ، أشارت ليلى بوضعها ثم هتفت :
-خلي النانا تاخد بالها من زين ليوقع بالعجلة في حمام السباحة
اومأت بطاعة وتحركت للخارج ..تحركت خلف راكان وقامت بتحريك أناملها بهدوء بفروة رأسه
-عندك صداع؟!
أغمض عيناه مستمتعًا بلمستها هامسًا:
-شكلي بقيت مدمن للمساج بتاعك ..قالها ونصب عوده يسحب كفيها متحركًا إلى الأريكة ليتمدد عليها متخذًا ساقيها وسادته
بدأت تحرك أناملها بهدوء واستدارة بسيطة ثم تحدثت:
-حبيبي مش هتشرب القهوة
هز رأسه رافضًا :
-لا ..عايز انام ..ظلت تمسد على خصلاته وتسائلت:
-مالك ياراكان، بقالك فترة مهموم، مبقتش تشاركني حاجة
احتضن كفيها يطبع قبلة عليه ثم أجابها:
-قضية جاسر ياليلى ..مش عارف انام وانا عندي شك أنه يكون عايش
استمعت إليه باهتمام ثم اردفت:
-طيب حبيبي ليه مابتعملش تحليل DNA أخرج تنهيدة عميقة ثم أجابها
-لو شوفتي حالتهم مش هتقدري حتى تفكري في الموضوع ، العيلة كلها مكسورة، عايزة اروح اقول لابوه اللي فضل شهر مشلول ممكن يكون ابنك عايش واديله امل وبعد كدا نكتشف أنه ميت
-طيب والعمل ناوي تعمل ايه ؟!
فرك وجهه بقوة يضع كفيه على وجهه
-العمل عمل ربنا، بعد مافكرت في باسم لقيتها صعبة
- هي صعبة أه بس مش هيبقى زي باباه، المهم بدل ماتفكر لنفسك هو هيفكر معاك
اومأ لها ربنا يسهل ، اعتدل ينظر بساعته..هنام ساعتين علشان عندي مدوالة..طبع قبلة على جبينها ونهض قائلًا:
-هطلع اخد شاور الأول ...نهضت من مكانها تحتضن ذراعه
-ياله علشان اساعدك ..
بعد اسبوع بمكتب باسم ..جالسًا بمقعده، متراجعًا بجسده، مطبق الجفنين ..استمع الى طرقات على باب مكتبه ثم دلف راكان
-ازي حضرتك سيادة العقيد ..اومأ يشير إليه بالجلوس
جلس راكان وتسائل:
-فيه اخبار عن حضرة اللوا
-ربنا يصبره، صعب الموضوع مش سهل، واللي يوجع اكتر أن صهيب لسة زي ماهو مفيش قابلية للعلاج، وشكله هيلحق ابن اخوه
طيب بمناسبة ابن اخوه ..عندي سؤال بس اتمنى من حضرتك تسمعني للآخر دون مقاطعة، وكمان لازم اخرص احساسي
قطب باسم جبينه متسائلاً :
-الموضوع كبير قوي كدا علشان المقدمات دي
اومأ راكان يؤكد إليه ، ثم هتف دون جدال:
-أنا شاكك في الجثة اللي اندفنت، حاسس أنه مش جاسر.
رفع رأسه يطالعه بذهول، وكأن أحدهم طعنة بصدره، ليشعر ببرودة تجتاح جسده ، فاهتز صوته قائلًا:
-جثة ايه اللي بتقول عليها!!
نهض راكان من مكانه وآمال بجسده يحدجه بنظراته :
-جثة جاسر انا شاكك فيها ياسيادة العقيد ، انا اللي دفنته بعد وقوع سيادة اللوا ولاده كلهم جريوا عليه وانا ويونس اللي نزلنا، وطبعا كشفت وشه، تقدر تقولي واحد مضروب بالرصاص بصدره، ليه العملية مالهاش اثر، ليه وشه مشوه، اللي اندفن وشه معظمه مشوه، غير دا بشرته سودا، صوابع أيده بها تعذيب
هب باسم من مكانه يرمقه بنظرات كالطلقات النارية:
-إنت اتجننت ولا ايه، اعقل ياراكان، انت فاهم معنى كلامك دا..
تراجع جالسًا يومئ برأسه
-بقالي 3 شهور هتجنن دورت وجبت كاميرات المستشفى ، دخلت حساب جاسر لعل الاقي حاجة يكون مدونها ، اي خيط مفيش... جاسر كان دايما يعمل حروف لأشخاص قضايا وتحت كل حرف بيكون مكان أوراقه وتفاصيل القضية واي اسرار
-إنت بتقول إيه ياراكان!!
ارجع خصلاته للخلف بعنف وهتف بنبرة خافتة:
-بقول أننا اتقرطسنا ياسيادة العقيد، ولازم تتصرف
-اتصرف!!..تقصد ايه بأتصرف دي
-نعمل تحليل حمض نووي للجثة الموجودة
طالعه بأعين متسعة يهز رأسه بعنف:
يرميه بوابل من كلمات فظة غليظة كأنها سهام اخترقت صدر راكان ورغم ذلك اجابه راكان
-هنعمله ياسيادة العقيد
-أكيد بتهزر صح!!..انت عايز مني اروح اقول لجواد اللي دافن ابنه بقاله تلات شهور اللي دفنته دا مش ابنك، ولازم تعمل تحليل وتتأكد، ويبقى عنده امل وبعد كدا الامل يقتله..اتجننت ياراكان، افرض طلع هو ، انت مشفتش حالته كانت ازاي، انا ماصدقت أنه سامحني ورجع يتكلم معايا ويثق فيا رغم أنا لو مكانه كنت ضربت رصاصة في صدره
اقترب منه وغرز عيناه بمقلتيه هادرًا:
-صهيب ممكن يموت دا رافض الحياة، عايزني اخلي جواد بحالة اخوه بعد مااعشمه، مستحيل ...فتح فمه للحديث ولكن باسم أشار له بالصمت
-اسكت ياسيادة المستشار، اكيد جواد مش غبي علشان ميعرفش ابنه ، انت ناسي أنه اخر واحد شافه
اقترب راكان من وقوفه وتحدث :
-أنا مش همشي لما حضرتك تسمعني، جلس بعدما وجد ملامحه قد هدئت، فاردف بهدوء لإقناعه:
-في شغلنا لازم ناخد بالنا من الصغيرة قبل الكبيرة، غير الدلايل ..ولو فيه شك واحد في المية بنمشي وراه، انا هنا معنديش شك انا متأكد، اللي اندفن دا مش جاسر
مسح باسم على وجهه بعنف كاد أن يقتلع جلده ثم أردف :
-طيب افرض زي مابتقول، هيستفادوا ايه ..صدم راكان من حديثه:
-حضرتك مستوعب الكلام اللي بتقوله!!
أقل حاجة يعملوها يحسروا أبوه عليه ياحضرة العقيد ودي طرقهم كتيرة وطلباتهم اكتر
زفر مختنقًا ثم تابع حديثه:
-احنا مش هنعرف سيادة اللوا بأي حاجة، لازم نفكر بحاجة غير مانوصله
استدار إليه بصدمة :
-إنت عايز تموتني صح، ماهو جاي تخلص عليا وترتاح ..أفلت راكان ضحكة يهز رأسه:
-ابدا والله ..ماهو أنا بفكر بقالي فترة ومكنش حد قدامي غيرك، لازم تساعدني علشان اقدر اوصل ، وقلبي يرتاح ، لو جاسر عايش اكيد ناوين له على حاجة، اللي وصل المستشفى جاسر، واللي شافه سيادة اللوا جاسر، لكن اللي اندفن مش هو
ذهب باسم بشروده هاتفًا
-قصدك بدلوه وقت الغُسل ..جلس يشير إليه بيديه:
-أيوة دا اللي عايز أوصله لحضرتك، بس اللي مش قادر استوعبه، دخلو مستشفى عسكري وخرجوه ازاي ، من غير اذن
احتضن باسم رأسه بين راحتيه ثم اجابه :
-أكيد دكتور، علشان مفيش حاجة تخرج من غيرهم
اومأ له متفهما ثم أكمل حديثه:
-حريق مستشفى الألفي ومعرض مدام جنى وهجوم الحي وقت الدفن دا كان تخطيط يافندم علشان يشتتوا أهل جاسر، بس اللي مكنش في الاعتبار وقوع سيادة اللوا اللي كان في مصلحتهم اكتر من اللي عملوه
توقف باسم واستدار يجلس بمقابلته
-قصدك عملوا كدا علشان محدش يكشف موضوع الجثة دا
أخرج سيجاره مستئذنا إياه مع ابتسامة خفيفة
-اعتقادي أن الضرب وقت الدفن تشتيت بدليل حضرتك مكملتش وانسحبت، وكمان عز وحازم مكملوش بعد ما عرفوا هجوم الحي، والباقي لما جواد وقع ..يبقى كان التوقع حد غريب ينزل مع الجثة ..أو ، صمت لفترة وتابع حديثه:
-كانوا مخططين لحاجة تانية ، بدليل العربية اللي رصدت مدام جنى لحد البيت وفضلت لتاني يوم ..هما اكيد مكنوش مرتبين لدا، بس كان فيه تخطيط تاني ايه هو منعرفش..بس الكاميرات اللي رصدت عربية مدام جنى خلتني اربط الأحداث ..وزي مابقول لحضرتك دا مجرد تخمين...