رواية في لهيبك أحترق
الفصل الثاني الثلاثون 32
بقلم شيماء يوسف
قوْلِي أَحَبّكِ ياهناي وَتَعَالِي
خَلِّي لَيالِي الوَصْل أَحْلَى لَيالِي
اَللَّيّ في بالَكَ يا حياتيِ فَي بالي
وَراعِي اَلْهَوَى معذور لَو كَآن يُطْمِع
إِن اَلزَّمَان يَجُود وَالعُمْر مَحْدُود
وَخَلِيّ شَباب القَلْب لِلقَلْب يُرْجَع
وَأُمْلِي صَحارِي العُمْر أَزْهار وَوُرُود
قَوْلِي أَحَبّكِ.
_عباس إبراهيم.
هل يعلم الإنسان ما أحمق الأخطاء التي يرتكبها في حق نفسهِ؟!، ظنه بأنه ممسك بكافة الخيوط داخل راحتيه، وبأنه يسير على الطريق الذي ارتضاه لنفسه وقد أضحت كل أموره في نصابها الصحيح، يمشي الخيلاء متطلعًا إلى نقطة النهاية في رعونة مهلكة، وينسي أن للقدر تصاريف أخرى، وأن له الكلمة العليا، وما بين الفينة وما يليها، تنقلب حياته رأسًا على عقب ويجد نفسه داخل حياة جديدة، ما يكون في أتعس خياراته يقبل العيش فيها.
جلس في المقعد المجاور للفراش الطبي الصغير حيث زوجته الجريحة غافية فوقه، مُخفيًا رأسه بين راحتيه، ومُستندًا بثقل مرفقيه على كلا ساقيه، وقد أنهكه الحزن حتى أصبغ رماده الشاحب فوق ملامحه، يتذكر ما حدث منذ سويعات قليلة وكيف حمل جثة مولولدته الصغيرة بين كفيه بعدما سلمتها إياه الطبيبة فاقدة للحياة، كيف كانت ضئيلة الحجم غير مكتملة الأعضاء، لا يتعدى وزنها الخمسمئة جرامًا وطولها بضعة سنتيمترات قصيرة، كانت أشبهه بدُمية أطفال بلاستيكية أقرب منها لرضيعة لو حالفهم الوقت شهرًا أخر لكانت ولدت معافاة، ورغم ذلك لم يستطع منع قلبه من التعلق بها والتمزق على فراقها وهو يلفها بالقماش الأبيض ويضعها مع إحدى الجثث داخل أحد التوابيت الكبيرة، منتشله من ومضة ذكراه، والغرق في بحر الحداد على من أضحى وأمسى طيلة أشهر طويلة يتمناه صوت والدته الملتاع، إذ دفعت باب الغرفة أمامها في حدة ووقفت قبالته تضرب بأكفها فوق فخذيها هاتفة في حسرة :
-(( آه يا حبيبي.. عيني عليك يا قلبك أمك ياللي مش عارف تفرح ولا تتهني بشوفة عيالك ))..
أنتفض بدر من مقعده في لهفة يدفعها من ذراعها خارج الغرفة بعد أن ألقى نظرة سريعة خاطفة فوق وجهه زوجته النائمة يتأكد من عدم إزعاجها، ثم هتف معاتبًا والدته في نبرة خفيضة ولكن حازمة بعدما أغلق الباب من خلفهم في رفق :
-(( أيه يا أمي اللي بتعمليه ده!.. ينفع كده؟ ))..
قالت والدته في أسى وهي تكفكف دموعها المنهمرة :
-(( غصب عني.. من ساعة ما أتصلت بيا تقولي وأنا سكاكين بتقطع في قلبي.. ده كان خلاص.. كلها كام شهر وحفيدي يشرف الدنيا وأشيله بين أيديا دول ))..
أنهت رثاءها بمد ذراعيها إلى الأمام كناية عن حملها للرضيع، بينما قال بدر مصححًا :
-(( مكنش حفيد.. كانت بنت الدكتورة سلمتهالي من شوية عشان أدفنها ))
رفعت رأسها في حدة فور ذكره نوع المولود، وقد تبدلت ملامحها في لحظة وكأن معرفتها جنسه خفف من حسرتها، ثم قالت بشيء من الارتياح، تربت بيدها فوق كتفه مؤازرة :
-(( مادام بت ربنا يعوضك بالولد.. متزعلش أنت ومتحرقش دمك.. الحمد لله أنها جت على قد كده المرة دي.. وتعيش وتجيب غيرها ))..
رمقها بنظرة جانبية متعجبة مُاطًا شفتيه للأمام، إذ لاحظ الانفراجة التي أصابت مزاجها العكر دون وجود مبرر مقنع داخل عقله لذلك التبدل اللحظي، صارفًا تفكيره عنها ظهور الطبيبة التي تولت أمر معالجة زوجته، فسارع يستوقفها متسائلًا في قلق :
-(( دكتورة لو سمحتي.. أفنان مراتي.. تقدر تطلع من المستشفى أمتي؟ ))..
أجابته الطبيبة في عُجالة حيث كانت تستعد لحالة ولادة أخرى :
-(( بكرة الصبح بإذن الله نبص على الجرح مرة أخيرة وبعدها تقدر تروح عادي ))..
رمقته بابتسامة مودعة قبل انصرافها، بينما مصمصت والدته فمها في كلا الاتجاهين قبل أن تقول في عدم اهتمام :
-(( متخافش دلوقتي تقوم زي الحصان.. وأنا اللي قلت هتتجوزها وتجيب الحفيد ونخلص.. إلا كل شوية تسقط عيل وشكل مفيش منها رجا ))..
هتف يستوقفها في نبرة محتدة، فما يمر به أقسى من قدرته على التحمل وأخر ما يود معايشته هنا، والآن تحديدًا هو أحد المشاهد غير المستحبة لغيرة والدته العمياء :
-(( مــامـــا ))..
ردت في نبرة خفيضة مستاءة، ضاغطة فوق أسنانها وحروف كلماتها :
-(( إيه ماما وزفت!!.. مش دي الحقيقة ولا بكذب!!.. أول مرة سقطت وجابتها في غيرها.. وأهو المرة دي العيل مات في بطنها.. شكلي اتسرعت.. بس عَمَّتَا مش مشكلة.. لو مش نافعة غيرها موجود ))..
ضرب فوق أكفه ببعضها البعض، بينما أخذ يحرك رأسه يمنة ويسري في تعجب من حديث والدته غير المتزنة، مقررًا الابتعاد عنها حتى لا ينفجر بها ويفلت من فمه ما لا تستطيع تحمله أو يحاسب عليه، تاركها تنظر في أثره مستنكرة رد فعله الناعم وقد عقدت النية في البحث عن أخرى تحسبًا.
************************
كان خبر إصابته كطعنة انتصفت القلب، بل قطعت نياطه وتركتها ضعيفة تترنح في كل اتجاه كعصفور وليد أصاب صياد الطيور أحد جناحيه ببندقيته الغاشمة، تركض على غير هدى داخل أروقة المشفى تبحث عن غرفة العمليات حيث دلتها موظفة الاستقبال في الأسفل، بعد أن جاءها اتصال هاتفي من إدارة المشفى يخبرها أن رقمها على قائمة طوارئ هاتف زوجها المصاب بإصابة حادة في الرأس، وتطلب منها الموظفة في نبرة خالية القدوم في أسرع وقت إلى العنوان التالي لتولي زمام الأمور والمادية أولها، ولم تدر كيف استخدمت يدها المرتجفة في الضغط على رقم شقيقها والاستنجاد به، أو كيف أسعفتها ساقيها الهلامية بالسير حتى الطريق العام، أو من أين أتتها القوي لرفع ذراعها الخائر وفتح باب سيارة الأجرة وركوبها بعدما نجحت في صعوبة بالغة في إيقافها!، فقط كانت تتحرك كجثة هامدة فاقدة الروح، حتى وصلت إلى وجهتها المعنية ووقفت تستند بجسد مرخي الأعصاب فوق أحد الحوائط المقابلة لغرفة العمليات، تنظر بأعين خاوية إلى الباب المغلق، هناك، حيث يرقد بداخلها من نجح في إجبار قلبها على الخفقان، فقبله لم تكن سوي فتاة جافة المشاعر لم يستطع الحب إليها سبيلًا، ثم جاء هو حاملًا في يده مفتاح القفص الحديدي محررًا قلبها من حبسته الطويلة فبات يرفرف هنا وهناك في فضاء حنانه ودعمه الواسع، تترقب بأنفاس منقطعة أي بارقة أمل، فربما يُفتح الباب في أي لحظة ويطل من خلفه الطبيب ويطمئنها، وظلت هكذا، تحملق بحدقات من زجاج فارغة إلى وجوه المارة أمامها دون رؤية شيء، وتستمع إلى الهمهمات الصادرة ممن حولها دون استيعاب شيء، حتى شعرت بعد فترة قصيرة بمن يجذب مرفقها، وقتها رمشت بأهدابها عدة مرات متتالية كي تزيح الغمامة البيضاء الغاشية لعدستيها، وتتأكد من ملامح من يقابلها، نعم أنها هي على حد تذكرها، حتى وإن رأتها مرة واحدة آنى لها نسيان ذلك الوجه الساحر؟!، وجه من أفسدت زفافها وحلمها، بل أفسدت مستقبلها ككل، وجه غزا أحلامها وظلت أيام وليالٍ تقارن نفسها بها، ودون القدرة على الحديث وقفت دقائق تحملق بها في سكون، إلى أن أتاها من مكان بعيد على هيئة نجدة صوت شقيقها يهتف اسمها في لهفة وهو يركض في اتجاهها حاملًا طفلته بين ذراعيه، فالتفتت تهرول نحوه وترتمي بثقل رأسها فوق صدره تاركة العنان لسيل دموعها في الانهمار تحت لمسته وفي كنف مواساته، بينما انتهزت جيداء فرصة انشغالهم عنها في الانسحاب إلى أحد الأماكن المخفية عن الأنظار حتى تجيب عن هاتفها الذي أخذ يهتز داخل جيب بنطالها مرة بعد مرة، قائلة في نعومة :
-(( ألو.... ))..
جاءها صوته الرجولي الخشن يسأل من الطرف الآخر في أريحية وانتصار :
-(( ها يا جميلة الجميلات.. الدنيا ظبطت عندك وعرفتي تحبكي الحوار وتنزلي دمعتين ولا خطتنا هتبوظ؟! ))..
قالت معترضة بعدما حركت بؤبؤ عينيها متأففة في ازدراء :
-(( أيه الأسلوب ده!!.. وبعدين الدنيا هتظبط أزاي وأنت صممت مروحش معاه المستشفى وأوصل بعده!!.. أهي المستشفى اتصلت بمراته وواقفة تعيط على كتف أخوها جوة!! ))..
هتف يستفسر في تقريع :
-(( نعم ياختي!! وهو أنتِ أو حد من الدكورة اللي كانوا معاكي ماخدش تليفونه!! ))..
صاحت تعنفه في امتعاض :
-(( أووف ألفاظك تقرف حقيقي... ))..
تشدق بجملته من الجهة الأخري ساخرًا :
-(( معلش هبقي أرشلك عليها كولونيا المرة الجاية.. وبعدين هو أنا صممت متروحيش معاه المستشفى عشان خاطر مين!.. افرضي وده أكيد هيحصل المستشفى بلغت البوليس عن حادثة التعدي.. لو أنتِ وصلتي معاه هيستجوبوا فيكي وحوار لكن لما توصلي بعده كأنك زايرة زيك زي أي حد ))..
حررت أنفاسها المكبوتة داخلها ثم قالت كمدًا :
-(( طب أهم لقوا تليفونه معاه واتوصلوا مع مراته.. أعمل أنا إيه دلوقتي!! ))..
صاح يجيبها في عدم اهتمام :
-(( بقولك ايه ده شغل نسوان في بعض مليش فيه.. تتصرفي وتنفذي اتفاقنا وتجبيلي الأوراق الصح.. وقبلها تشوفي حل وتسحبي تليفونه ترميه في أي داهية.. مش بعد اللي عملته تقوليلي مراته ومعرفش مين.. شغلي كيد الستات شويه وخلصيني وإلا اللي بينا ملغي ))..
زفرت مرة ثانية كتعبير عن اشمئزازها من أسلوبه المتدني معها في الحوار، ثم قالت في احتقار :
-(( تمام هتصرف.. بس ياريت تتكلم معايا بأسلوب غير ده! ماشي؟ ))..
وصلها صليل قهقهته المتحشرجة عاليًا، يليه صوته يقول في اعتزاز أنكرته :
-(( بصي يا حلوة احنا ولاد بلد.. حفرنا في الصخر بضوافيرنا على ما طلعنا على وش الدنيا.. وبقوا الحلوين اللي زي حالاتك محتاجين لنا.. فبلاش خيلة كدابة ))..
حرمها من فرصة التعقيب أو ترك الكلمة الأخيرة لها إذ أغلق الهاتف في وجهها فور نطقه تلك الكلمات وتركها تلعنه بكل المصطلحات النابية التي اكتسبتها من معاشرة أمثاله.
أما في الأعلى وبعدما نجح "جواد" في احتواء نوبة بكائها والحد من شدتها، رفعت كفها تمسح بظهره عبراتها المنسكبة فوق وجنتيها وعنقها ثم قالت في نبرة مشبعة بآثار البكاء :
-(( جواد المستشفى محتاجة حد للحسابات تحت.. أنا نزلت من البيت بسرعة ومكنش معايا غير الفيزا.. بس عشان العملية.. كل اللي فيها مكفاش ))..
مسح فوق شعرها بيده الحرة ثم قال مطمئنًا :
-(( حاضر متشغليش بالك هنزلهم دلوقتي ادفع كل اللي يطلبوه.. ولو حابة نستنى يطلع وننقله مستشفى أحسن من دي قوليلي وأرتب من دلوقتى.. بس فهميني هو في العمليات ليه معرفتش استوعب منك حاجة في التليفون ))
أجابته حائرة وقد عادت الدموع تخنق حنجرتها وصوتها من جديد :
-(( مش عارفة يا جواد.. تحت قالولي إصابة حادة في الدماغ نتيجة لعنف شديد سببت مضاعفات ومع الأشعة اللي عملوها أول ما وصل اكتشفوا سوايل في الدماغ وكان لازم تتشفط وإلا هتسبب ارتفاع في ضغط الدم ممكن يوصل لانفجار في الشرايين ولاقدر...... ))..
تهدج صوتها ولم تقو على استئناف نقل جملة الطبيب التحذيرية على لسانها فتركتها ناقصة، بينما زفر شقيقها في تأثر واضح، يحاول إخفاء الحزن من فوق ملامحه والتماسك من أجلها فكم يعز عليه ما حل بزوج أخته ومن أضحى في مكانة شقيقه، كاسرًا صمتهم بعد فترة وجيزة صوت أنثوي ملهوف يهتف اسمها من الخلف، فألتفت يطالعها وهي تركض نحوهم متسائلة في لوعة :
-(( علياء طمنيني.. حصل ليحيى أيه؟! ))..
انحنت بجذعها للأمام تلتقط أنفاسها المهدورة وتدعم ثقل جسدها بوضع ذراعيها فوق فخذيها، مستأنفة سؤالها الملتاع بعد وقوفها أمامهم :
-(( حد يطمني.. قالولي في الأستقبال تحت أنه دخل العمليات.. عملوا فيه إيه الكلاب دول ))..
ضيقت علياء عينيها فوقها في حيرة وبالرغم من رغبتها في فهم ملابسات الموقف وكيف علمت غفران بمكان وجوده وما حدث له إلا أن قلقها كان أكبر من أي أحاديث أو مسايرات جانبية؛ لذا قررت ترك الفضول جانبًا والأنزواء بجسدها جوار أحد الحوائط القريبة من باب غرفة العمليات تترقب خروجه، متوليًا عناء الإجابة عن السؤال المطروح "جواد"، إذ تحدث يقول في جمود :
-(( بيقولوا حصل استسقاء للمخ بسبب الضرب.. ولازم المية تتشفط ضروري ))..
شهقت ذعر عاتية انطلقت من حنجرتها قبل رفع ذراعها وإخفاء فمها بكفها عند ملاحظتها توتر صغيرته المتعلقة بعنقه، بينما أستطرد هو حديثه مباغتًا إياها بسؤال توقعته منذ وصولها وهو يشدد من احتضان ذراعيه للطفلة في لفتة أبوية حانية :
-(( ممكن أفهم أنتِ أزاي عرفتي أن يحيى في مشكلة!!.. اتصالك بيا تسألي عنه قبل اتصال علياء مش طبيعي على فكرة!.. وأنا محتاج أفهم بيحصل إيه ومين اللي عمل فيه كده! ))..
عضت فوق شفتيها تحاول إيجاد حل سريع للخروج من مأزقها إلى أن تستطيع ترتيب أفكارها وحججها، ملقية باللوم على تهورها ومن بعده رحمة، فبعد عدة محاولات فاشلة في التواصل مع يحيى بعد إغلاقه الهاتف، وبسبب عدم امتلاكها رقم علياء اضطرت الاتصال به لأخذ رقمها منه والتواصل معها وقد خذلتها رحمة هي الأخرى بعدم الرد على الهاتف، فبقي التواصل مع "جواد" هو الحل الأخير المتاح لديها، إذ جفت شرايينها قلقًا على رفيق رحلة العمل وصاحب السنوات الطوال، وما أن همت بالتحدث كاذبة، حتى لمحت طيفًا رأته عدة مرات من خلال الصور الفوتوغرافية، ومرة واحدة وجهًا لوجه، فركضت نحوها تجذب تلابيب بلوزتها الحريرية هاتفة في نبرة عدائية واضحة :
-(( أنتِ السبب.. عملتي فيه ايه انطقققي ))
وضع جواد طفلته فوق احد المقاعد القريبة على عُجالة محررًا بذلك كلا ذراعيه أستعدادًا لما هو آت، ثم ركض يقف بجسده كحائل بينهم بعدما دفع جسد غفران إلى الخلف فاضًا الأشتباك القائم بينهم، بينما عاودت غفران الصياح في جيداء المستنكرة للوضع وهي تلوح بكفها في كل إتجاه بضربات عشوائية دون أن يصل إلى الأخرى شيء منها بسبب يده المعرقلة حركتها فكلما أوشكت على أصابتها أمسك معصمها وأبعده، الأمر الذي أثار سخطها فصاحت به في عدائية بعدما أبتعدت عنه وعدلت من وضع ثيابها المرفوعة :
-(( أنت بتدافع عنها لييييه؟!.. البجحة دي هي السبب في اللي حصله ))..
همست جيداء مدافعة عن نفسها في بكاء :
-(( حرام عليكي أنا معملتش حاجة دول كانوا هيأذوني عشان عارفين غلاوتي عنده.. ألا يحيي ))..
صمتت لوهلة تتابع بطرف عينيها في خبث رد فعل علياء الواقفة على بعد مسافة كافية منهم جميعًا تتابع الموقف في صمت، ثم أردفت تقول في نبرة شبهه حارة متعمدة إيصالها لمسامع الأخيرة :
-(( ده انا أضحى بعمري عشانه ))..
أندفعت غفران للأمام مهاجمة مرة ثانية حيث لم تستطع كبح جماح غصبها أمام برود وتصنع تلك الشمطاء، موقفًا تقدمها صوت علياء القائل في ثبات أدهش شقيقها قبل الجميع :
-(( سبيها يا غفران.. يحيى عمل الصح واللي كان هيعمله مع أي حد في نفس الموقف.. بعد ما اخد أذني ))..
ارتفعت زاوية فم غفران بابتسامة انتصار واسعة صاحبتها نظرة شماتة طلت من داخل حدقتيها، في حين عاودت أحداق علياء التعلق بباب الغرفة، وجلست جيداء وحيدة منتظرة فوق أحد المقاعد الحديدية تضع ساقًا فوق الأخرى في عدم اهتمام لم يخف على غفران التي آخذت تراقبها لحظات قبل شعورها بمن يقبض على معصمها ويجرها خلفه، فرفعت رأسها رغم علمها بهوية الفاعل تنظر إليه في قلة حيلة، وتبتلع لعابها في توتر توجسًا مما هو قادم، فبعد تهربها منه طيلة الأشهر الماضية حتى لا تخبره بما تعانيه والخطر المحدق بهم، أتت حادثه يحيى وحبستها في مصيدة التبرير والأن لا تملك سوي اخباره بالحقيقة دون زيف أو تقليل.
*****************************
خيم السكون الفضاء حولهم ألا من صوت لهاث أنفاسه الثائرة، بينما كلمتها الأخيرة تضرب جوانب عقله مرات ومرات مترددًا صداها داخل قلبه بعدما تغلغلت أحرفها باطنه واستوطنته، ثم راح يحدق بها طويلًا طويلًا جِدًّا في صمت بليغ، يحمل من المعاني ما لا تقوى معرفتها البسيطة عن لغة الحب على ترجمته، وكأنه يتأكد من وجودها أمامه حَقًّا، وأن ما تفوهت به ليس سوي تُرهات نابعة من رغبات عقله البائس، أو لم تفارق روحه الجسد أثر تلك الحادثة وأنتقل إلى النعيم وكان اعترافها هو أول مكافأة له من الجانب الأخر، لا يكاد يصدق أن منية روحه وهوى قلبه قد تحققا أخيرا، فأنحني رغم ألمه الجسدي، يطبق بذراعيه فوق خصرها، يضمها إليه ويلقى بمثاقيل روحهِ داخل أحضانها وكأنه عناقهم الأول، بل الأخير، هامسًا في حشرجة وتوسل :
-(( عيديها.. قولي تاني.. قولي تالت.. رابع.. سمعيني متبخليش.. جودي على روحي وكرريها ))
للوهلة الأولى لم ترفع ذراعيها لضمه ومبادلته العناق، واكتفت بالتمتمة الخافتة رغم الحنان المقطر من نبرتها :
-(( بحبك يا طاهر.. بس مش مسمحاك على الأيام اللي عشتها من غيرك ))..
-(( آآآآآآه يا رحمة ))..
أفلت من بين شفاه تنهيدة ارتياح حارقة، شاعرًا بمسامات جلده تكاد تنفجر حيث لم يعد هذا الجسد يُسَاعِه، بينما قلبه ينبض بأنفجارت مدوية كألالعاب النارية احتفالا بالحدث الأهم والأوحد في حياته، أما عن جسده فظل ساكنًا بلا ذرة حراك، يخشى الابتعاد عنها فتختفي من أمامه ويُحرم من لذة قربها، فبرح مكانه ملتحمًا بجسده في ثنايا جسدها، فهي من خلقت منه ولأجله، مصيره المحتوم، أبجدية حروفه الضائعة، ضوء نهاره، وقمر ليله، وطنه حينما نفته الأوطان، وسكن جبينه حين فقدت هويته العنوان، وبعينان شبهه مغمضتان بسلام داخلي ناشده لسنوات، انسابت عزيمة الكلمات من بين شفتيه في هدوء من وجد سكينته أخيرًا :
-(( هعوضك وهعوض نفسي قبلك.. مش بس على كل يوم.. على كل دقيقة كانت من غيرك.. هعوضك حتى عن اللي راح من قبل ما أعرفك ))..
لم تقاوم إغراء رفع ذراعيها وضمه، فالدفء المنبعث من جسده، أنفاسه، ووعوده، وكلماته أقوى وأعتى وأحب من أن تقاومه، ومن قال إنها في الأساس تريد مقاومته، بل تريد الاستسلام له، والغرق، الانصهار به وفيه، فشرعت بتلبية رغبة قلبها ومبادلته عناقه، والاستكانة داخل أحضان بعضهما البعض داخل عالم افتراضي خارج حدود الزمان والمكان، عالم سيقاتلان بضراوة من أجل فرضه وتحقيقه حتى يصبح واقعهم الأبدي وسكنهم الدائم.
وبعد فترة من الصمت المحبب، كان هو أول من شقه إذ بلغ به الألم مبلغه، فهمس يقول بصوت محموم من شده عاطفته :
-(( رغم أني نفسي أفضل كده على طول بس رحمة.. أنا تعبان ))..
أجفل جسدها فور سماعها جملته، وسارعت تسأله في قلق بعدما ابتعدت عنه مسافة كافية ورفعت رأسها نحوه مما أتاح لها فرصة التطلع إليه بوضوح :
-(( أنت حصلك حاجة وبتكدب عليا صح؟!! ))..
اختنقت نبرتها في الحال واغرورقت عيناها بالدموع مستطردة حديثها في حزن بينما أصابع كفيها تتلمس في نعومة وحذر شديد جذعه للاطمئنان عليه :
-(( حاسس بالتعب فين.. ولا أقولك يلا على المستشفى مش هستني لما حد يجيلنا وخلي العربية هنا مش مهم ))..
أسبل أهدابه ووقف يطالعها بابتسامة سعادة عذبة كطفل لقيط يتلقى الحنان لأول مرة في حياته، يقفز قلبه الثائر خلف أضلعه فرحًا بشعور الاهتمام والذي خاصمه منذ سنوات وسنوات، ثم رفع بألم بالغ أحد كفيها بعدما قبض عليه، وأسنده فوق موضع قلبه قائلًا في صدق :
-(( التعب هنا.. ركزي معاه بس وأنسى أي حاجة تاني ))..
ضغطت فوق صدره برقة بالغة، ثم شرعت في تمسيد فوق حناياه بنعومة جعلت النيران تتأجج داخله من فعلتها البسيطة، فمال برأسه نحوها كالمغيب يتلمس بشفاه بشرتها الساخنة، وجنتها وكل ما يظهر من وجهها وصولًا إلى ثغرها الذي اقتحمه دون أستئذان أو تمهيد مستكشفًا طريقه بداخله على مهل، حتى أنتشله من انحراف أفكاره وعبث فمه رنين هاتفه الخلوي، فبادر بالابتعاد عنها وبإخراجه والإجابة بنبرة خشنة مازالت محتفظة بآثار حشرجتها :
-(( هو عم ماهر بلغك ولا إيه؟! ))
سأله جواد في عدم فهم :
-(( بلغني بإيه؟!.. أنا كنت بتصل عشان اقولك ان في ناس اتهجمت على يحيى وهو دلوقتي في العمليات وعلياء منهارة.. تعالالي بأسرع وقت ))..
جحظت عيني طاهر للخارج في فجع، وبعد أن هم بالاستفسار عن كافة التفاصيل تراجع مؤجلًا الفضول إلى وقت لاحق مُسْتَبْدَلٍا سؤال كيف حدث بآخر مقتضب :
-(( اديني عنوان المستشفى.. بس عم ماهر يوصل بالعربية ومسافة السكة نكون عندكم ))..
عاود جواد يسأل من جديد في استغراب :
-(( عم ماهر ليه؟!.. أنت مش كنت مع رحمة!.. هو حصل حاجة عندك؟.. رحمة كويسه؟! ))..
زفر طاهر في نفاذ صبر ثم أجابه في حنق تعمد أظهاره في نبرته:
-(( مش عارف أنا الكائن اللي بيكلمك ده مش مهم يتسأل عليه!.. المهم اديني العنوان وخلص بعدين هشرحلك ))..
لم ير جواد فائدة من الجدال معه على الهاتف فشرع في وصف العنوان في دقة بالغة، بينما أستمع هو بتركيز إلى الإجابة من رفيقه مدونًا عقله اسم المشفى وعنوانه بداخله، ثم قال في إرهاق واضح وهو يحتضن كف رحمة التي هتفت تسأله في قلق بعدما أنهى المكالمة عن سبب وجوم ملامحه :
-(( يحيى في المستشفى.. تعالي بس نشوف أي حاجه نتحرك بيها وهنفهم واحنا في الطريق ))..
لم يسيرا عدة خطوات متأنية بطيئة بسبب الألم المتمكن من جسده، حتى عاد رنين هاتفه يصدع من جديد برقم سائقه الخاص تلك المرة يخبره عن اقتراب وصوله إلى موقعهم، ليبدآ بعدها رحلة الذهاب إلى المشفى دون أن يترك أحدهما كف الأخر.
******************************
-(( غفران!!!!...... ))..
آية غفران يناديها؟، هل نفسها كما اعتادها الجميع واعتادت هي شخصيتها المعتزة بها؟!، أمن أضحت إنسانة مسالمة طائعة، تقف للمرة الأولى أمام شخص ما كتلميذ بليد لا يمتلك الحجة الكافية للمداحرة فيهرب من مجابهة معلمه، وكل ما تفعله بديلًا عن المواجهة هو الضغط فوق شفتيها بقوة بينما عدستاها تتحرك في كل اتجاه بَحْثٍا عن مخرج تؤخر به اعترافها أو تهرب به من المصارحة ككل!، متى وأين وكيف حدث ذلك؟!، لا تمتلك أدنى فكرة أو تفسير واضح، ربما لم يكتمل تعافيها من الارتجاج الذي أصاب رأسها في الماضي القريب وعليه أصبحت كافة أفعالها غير متزنة؟!، أو ربما علتها آتية من مكان آخر بعيد كل البعد عن العقل .... ، لا بالتأكيد هو التخمين الأول، فلولا تلك الحادثة التي أصابت مركز "فعاليات عقلها المعقدة" لما كانت تقف أمامه الآن كطفل صغير خائف من رد فعله والده على خطأ لم يرتكبه من الأساس!، ولإثبات صحة ذلك ستصارحه الآن بالحقيقة كاملة ففي النهاية لقد أخفت عنه ما يحدث معها كما أخفته عن والديها وجميع من تهتم لأمرهم، إذاً فهو ليس استثناء وعلى عقلها اللعين التوقف عن وضع افتراضيات وهمية يثير بها ذعرها، هذا ما قررته في إصرار قاطع قبل رفعها رأسها نحوه، مقاطعًا نيتها في التحدث إليه، أنين خافت قادم وخارج إليهم من فم طفلته، كتعبير على انزعاجها من وضعية النوم، حيث وضعها والدها منذ قليل فوق أحد مقاعد المشفى وأسند برأسها الصغير فوق ذراع المقعد حتى يتسنى له فك الاشتباك الدائر ثم التحدث إلى قريبه وإخباره ما حدث، فكانت هي أول من ركضت إليها ترفعها إلى أحضانها وتريح بكفها الحاني رأس الصغيرة فوق كتفها، بينما كفها الأخر يدفع معصمه في حركة حادة عفوية صدرت عنها دون وعى عندما هم بسحب طفلته من بين ذراعيها، ورغم تفاجئه من رد فعلها العدائي إلا أنه تجاهله وأكتفي بالقول في هدوء موضحًا نيته :
-(( كتفك هيوجعك.. خليني أخدها منك ))
قالت معترضة في نبرة صادقة متأثرة وباطن كفها يمسح بحنان فوق ظهر الطفلة الغافية :
-(( لا مش هتعب ))..
فى داخله وأعمق أعماقه كان يعلم جيدًا سبب تشبثها بصغيرته ومدافعتها عنها كما الدببة الأم تحمي صغارها، حتي أنه أعطاها الحق كاملًا في التعلق بها خاصةً بعد حادثتها الأخيرة وما مرت به حيث كان شاهدًا على الحدث ومدي المعاناة وتأنيب الضمير الذي عايشته إلى أن تقبلت خسارتها، وعليه فبضعة دقائق خيالية تسرقها من الزمن لن تُضير أحد، لذا أومأ رأسه موافقًا ثم عاد يسأل من جديد في تأهب مغيرًا مجري الحديث :
-(( طب ممكن أعرف بيحصل أيه من ورايا بالظبط.. واضح أن كلكم تعرفوا حاجات كتير وأنا الأطرش في الزفة ))..
قاطعته نافية ومدافعة عن شقيقته مع مراعاة ألا تزيد نبرتها عن الهمس حتى لا تُزعج الصغيرة النائمة :
-(( ما أظنش أن علياء تعرف حاجة.. يحيى قبل الحادثة كان بيكلمني ومشرحلهاش أي تفاصيل.. هي بس تعرف أنه نزل ينقذ جيداء من ناس محتاجين منه أوراق مهمة ))..
عقد ما بين حاجبيه وشبك كلا ذراعيه أمام صدره، ثم سألها في نبرة خافتة هادئة رغم صلابة ملامحه وتعابيره، إذ حذي حذوها في مراعاة غفوة طفلته :
-(( وأيه هي الأوراق دي؟!.. قولي اللي عندك كله ))..
سحبت نفسًا عميقًا مطولًا تحد به من الطبول القارعة داخل صدرها، قائلة على مضض :
-(( وقت الحادثة بتاعتي من كام شهر.. أنا كذبت عليكم كلكم.. مكنتش عربية خبطتني ولا حاجة.. ده كان بفعل فاعل زي اللي حصل مع يحيى النهاردة.. ومحدش يعرف الحقيقة دي غير يحيى ورحمة ))..
فرغ فاه وتوترت عضلات فمه، ولو نظرت في عينيه الآن لرأت ببساطة كم التشتت، الحيرة، الغضب والاستنكار الذي عايشه، ولكنها قررت التحدث دون النظر إلى أعماق عينيه، لذا استطردت تضيف قبل صدور أي تعقيب من فمه المشدود كخط مستقيم :
-(( والفاعل هو رجل أعمال طلع في السوق بقاله كام سنة.. أسمه نادر أبو المجد ))..
لوت فمها في ازدراء واضح ثم أردفت تقول مستهزئة :
-(( أكيد سمعت عنه ))..
ببطء وتأني، ورغم موجة الانفعالات التي تمور داخله ويود لو يفرغها في وجهها، همس يستفسر في نبرة محايدة :
-(( مش ده صاحب الأرض اللي أتبني عليها الملجأ اللي رممناه ؟!.. ولا الأمور أختلطت عليا ))..
حركت رأسها مؤكدة في صمت، قبل أن تقول شارحة في نبرة مشبعة بالكره والاحتقار :
-(( قصدك اللي أتبرع بيها مقابل طلبه أنه يدير الميتم.. ده طبعًا اللي كنا فاهمينه في الأول.. لحد بعد فترة من التعامل معاه تحت أسم الجمعية اللي بديرها أنا ويحيي أول حاجة لفتت نظرنا تردي حال الدار.. الأطفال يكادوا يكونوا بيناموا جعانين.. وهنروح بعيد ليه مانتوا بأسم شركتكم أتبرعتم وأشرفتم على الترميم وشفتوا كانت حالة الدار عاملة أزاي من جوة ومن برة.. لحد بعد فترة مديرة الدار كان عندها ضمير وقبل ما تتقاعد بسبب السن صارحتني بالكارثة واللي كانت خايفة تقولها.. وهي أن الإنسان القذر ده واخد الملجأ سبوبة.. وبيستغل البنات من سن ١٣ سنه ولحد السن القانوني في الأعمال المشبوهة وبيخرجهم لرجال الأعمال وكبار الدولة اللي ليهم ميول شاذة وحب للبنات اللي في السن الصغير ده.. وياريت بيكتفي بكدة.. ده كمان بيعملهم عمليات استئصال رحم كنوع من الاحتراز عشان مفيش واحدة منهم تحمل وتجيبله مصيبة.. باختصار كدة بيشغلهم يشوفوا مزاج الناس دي في المقابل يخلصوله مصالحه.. طبعًا بعد شهور طويلة من التدوير وراه وتسخير كل طاقتنا للموضوع ده.. يحيى قدر يجيب أوراق بأسامي الدكاترة والعيادات الغير مشروعة اللي بتعمل للبنات العمليات دي.. وعليهم تسجيلات بأعتراف كام بنت وخرجت لمين وحصل معاها ايه من الأول للأخر.. وأخيرًا في صاحب ليحيى عنده مستشفى استثماري صغيرة ويعتبر من الناس اللي ضميرها صاحي ساعدنا في عمل فخ ليه بأنه يوصله ويطلب منه بنت في ليلة خاصة وقدرنا نسجل المكالمة كلها والاتفاق ))
كانت الكلمات تخرج من فمها ثقيلة، وكأنها جمرات تلسع لسانها الناطق بها، فتتريث قليلًا وتسحب عدة أنفاس مضطربة، ثم تعود لاستئناف شرح ما حدث ويحدث، بينما هو يتابع صامتًا حديثها بملامح متصلبة رغم الشرر القادح من عينيه :
-(( بس يا سيدي.. عملنا محضر في الأول وقت ما عرفنا وقبل ما يكون معانا كل الأدلة دي وطبعًا عشان هيتجر معاه أسامي كبيرة المحضر أتحفظ.. آه على فكرة توقيت المحضر كان أيام ما عرضنا عليكم ترميم المبنى وكانت في نيتي أطلب منكم المساعدة بس لما المحضر أتقفل لغينا الفكرة.. ومن بعدها بقي بيحاول يهددنا ويوقفنا بكل الطرق لحد ما........ )) ..
تهدجت نبرتها وأمتلأت بالعبرات وقد قفزت صورة الماضي واعتدائهم الفج عليها أمام عينيها، مستطردة قولها في نبرة مختنقة متحشرجة :
-(( لحد ما بعت ناس تضربني عشان أسيب القضية وحرمني من أبني وفرصتي أني اكون أم.. ومكتفاش بكدة.. ده هددني وأنا في المستشفى لو بلغت البوليس أو حد عرف هيأذي أهلي وصاحبتي وكل اللي أعرفهم.. ومن وقتها وأنا ويحيي بتوصلنا رسايل تهديد كل ما بنمشي في أدلة القضية دي.. وكملت بيحيى النهاردة.. وصلتني رسالة تهديد خلتني أتصل يحيى أطمن عليه وعرفت منه أنهم خطفوا جيداء قريبته مقابل الأوراق اللي جمعناها.. وهو نزل يسلمهم الورق عشان يحمي الكل وأولهم علياء.. والباقي أنت عارفه ))..
كانت في حالة مزرية، إذ أخذت مقلتيها تدور داخل بؤبؤ عينيها دون رؤية شيئ، بينما الكلمات تتقطر من فمها مليئة بالمرارة والقهر، وعندما أنهت حديثها صاحبته رعشة تعبر عن هول ما تشعر به خلف قناع القوة واللامبالاة المرسوم دائمًا فوق وجهها :
-(( عشان كده كنت بتجنبك الفترة اللي فاتت كلها..أنا مكدبتش عليك بمزاجي.. ولا كنت بهرب منك عشان أنا عايزه كدة بالعكس.. أنت كنت الشخص الوحيد اللي بيهون عليا أي تعب وبيعرف أزاي يقويني.. بس خفت تحصل حاجة أو يعرفوا صلتي بيك فتتورط.. كفاية توريط يحيى معايا.. مش هتحمل أذى حد تاني ))..
كان هناك شحنات عجيبة من التوتر والغضب تصلها منه وكأنها هي المخطئة في كل ما حدث، تُري هل حَقًّا أخطأت في إخفاء أمر حادثتها عن الجميع والانصياع لتهديد ذاك الأرعن؟، أم كان خطؤها من البداية هو التصدي لذلك المحتال الفاجر كما أخبرتها رحمة مرارًا وتكرارًا؟، لم تستطع الجزم، فقد خنقتها العبرات وشعرت بحرقة البكاء تلسع جفنها وتحرق صدرها، واكتملت الحلقة عند شعورها بيد ناعمة صغيرة تلتف حول عنقها، بينما تدفن رأسها ضئيل الحجم في ثناياها وتختبأ داخلها، وكأن جسد حاملتها هو كنزها الثمين وعالمها الصغير الآمن، إحساس طالما حلمت به وتمنته وقد جاءها بغتة دون ترتيب فكان كالقشة التي قصمت ظهر البعير، لا لم تكن قشة، بل هي أقرب لطوق نجاة، شربة هنيئة بعد طول ضياع في عرض الصحراء، شفاء بعد طول مرض وعناء، يد ملاك حانية آتية من فوق سبع سماوات كي تمسح على آلالام حرمانها فتبرأ منها، عاصفة عاتية لم تجد بَدَا من مقاومتها فاستسلمت للغرق في فيضانها، أما عنه فقد وقف يراقب في دهشة انفجارها في البكاء، وقد تحول غضبه وسخطه وتعاطفه، بل كافة ردات فعله إلى القلق والعجز وهو يراها تدخل في نوبة متواصلة من النشيج المتردد ألجمته للحظات، فلم يملك سوي لف ذراعيه حول ظهرها، ويحتضنها هي وطفلته سَوِيًّا، مُتَمْتِمًا في حنو بينما جسده الطويل الفاره يُلقى بظلال احتوائه على كلتيهما :
-(( طب أهدى بس.. خلينا نعرف نكمل كلامنا ))
أرتفع بكائها حتى تحول إلى شهقات عالية مرتفعة تُذهب الأنفاس، عاجزة عن أخباره الحقيقة، وأن سبب بكائها الفعلي ليس شيء سوي لاختبارها شعور الأمومة، والهبة البسيطة التي منحتها إياها طفلته دون أن تعي، ولمعرفته بأن لمستها لا تحل له، وقف يطالعها في قلة حيلة ولم يدر لم أثر به نحيبها المتزايد وشعر بقلبه يتضخم وسط أضلعه حزنًا على وضعها، فظل مُتَسَمِّرٌا مكانه مشدوهًا برد فعلها وفعله إذ تبخر غضبه منها وكأنه لم يكن من الأساس، الأمر الذي ألجمه وافقده النطق وأشعل رنين الأنذار داخل أروقة عقله، إلى أن تمالكت نفسها وهمست تقول في نبرة مشبعة بضباب مزاجها المنتحب :
-(( أنا آسفة عشان خبيت الحقيقة عليك ))..
عقب شاردًا بابتسامة مقتضبة لم تصل لعينيه :
-(( بصرف النظر عن أني عايز أضرب دماغك بحاجة.. بس مش وقته خلينا نطمن على يحيى الأول وبعدها نشوف هنعمل إيه ))..
رفعت عينيها إليه تحملق به في توجس أرغم ثغره على التبسم، ثم سألته مستنكرة :
-(( يعني أيه "نعمل إيه" دي؟! ))..
أراد سحب الطفلة من بين ذراعيها وحملها بدلًا عنها خاصةً بعد نوبة الانهيار التي عاشتها منذ قليل ولكن حدسه الخاص أخبره بالتراجع، فتنازل عن الفكرة بعدما رمقها بنظرة جانبية خاطفة، وقال متشدقًا بجملته في إصرار :
-(( أومال أنتِ ناوية على ايه إن شاء الله!!.. أسيبهم لما يجيبوا أجلك؟ ))..
هتفت تقاطعه في حدة مبحوحة :
-(( أومال أورطك معايا ومعرفش ممكن يعمل فيك أيه ؟! ))..
هتف مقرعًا في نفاذ صبر :
-(( ولما أنتِ خايفة كده مفكرتيش قبل ما تورطي نفسك ليه في كل ده ! ))..
صاحت تجادله في قسوة مدفوعة بشعور الذعر من فكرة توريطه :
-(( أنا حرة أورط نفسي مورطش شيء ميخصكش ))..
ضرب فوق كفيه في تعجب، ثم قال في نبرة جادة بعدما ضرب بإبهامه جانب صدغها :
-(( انا مباخدش رأيك.. وحطي الكلمتين دول في دماغك كويس.. انا مش صبي مكتبك تقوليله يعمل إيه وميعملش إيه.. ودلوقتي هاتي لينة اشيلها زمان دراعك وجعك ))..
في الحقيقة وبسبب قلة اعتياديها على حمل الأطفال كانت ذراعاها يستجيران في صمت من شدة الألم ولكنها لن تعترف، فشعور الدفء المشتعل في فؤادها أقوى من أن تتخلى عنه بسبب ألم عضوي زائل، بينما لمح هو نظرة الرفض المطلة من داخل حدقتيها فسارع يضيف في حزم قاطعًا الطريق على أي اعتراض قد يصدر من فمها :
-(( بقولك هاتي البنت مش عايز جدال ))..
أجفل جسدها من نبرته الحادة وأربكها صرامته فبادرت بتسليمها له في خضوع قبل التفات كليهما على صوت طاهر آتيًا من بعيد يليه هرولة رفيقتها نحوها منشغلًا كُلًّا منهما في التحدث إلى من يخصه، كهدنة تعلم جيدًا أن خلفها صراع إرادة ينتظر فوز الخصم الأقوى، ولم تدري من أين أتى ذلك الهتاف الخافت هامسًا بأنها على أعتاب الخسارة للمرة الأولى في حياتها.
في حركة تلقائية منها مدفوعة بشعور القلق الذي اعتراها عند سماعها بالحادثة مالت رحمة برأسها تهمس جوار أُذن رفيقتها في نبرة خافتة لم تصل لسواهم، بينما أصابعها تقبض بقوة على مرفقيها كالكلابيب :
-(( غفران.. أوعي تقولي إن حادثة يحيى مترتبة زي الحادثة بتاعتك بالظبط؟! ))..
سحبت غفران كمية لا بأس بها من الهواء المحيط لها، عله يؤثر في نيران الغيظ المشتعلة داخلها، ثم إجابتها بعدما أطلقته معترفة على مضض في نبرة عالية نِسْبِيًّا :
-(( مفيش داعي توطي صوتك يا رحمة.. علياء عرفت اللي حصل وبالتالي جواد عرف ))..
استدارت رحمة في حدة تناظر جسد الواقف جوار زوجها في توجس قبل أن تقول مبررة :
-(( على فكرة يا جواد.. أنا كنت عايزة احكيلك على سفالة أبو المجد ده من زمان بس مجمعتناش فرصة مناسبة ))..
مرر طاهر نظراته المستنكرة بين ثلاثتهم على حد سواء، سابقًا جواد في التعقيب، إذ هتف يقول في حدة وقد أزعجه شعور "الأطرش في الزفة" وشعور أخر لولا حالة الرضا التي لازالت تعتريه من اعترافها بالحب لكان انتهجه مستسلمًا لهوجائيته البدائية :
-(( ممكن أعرف بتتكلموا عن أيه وأنا معنديش خلفية عنه؟! ))..
أزداد تجهم ملامحه وشع غضب حارق من عينيه المثبتتين فوق وجهها ثم استطرد يستفسر في خشونة :
-(( وأيه ده اللي كنتي ناوية تشاركي جواد فيه وأنا لا؟ ))..
مدت يدها تشق طريقها المختصر نحو يده بعدما قطعت الأربع خطوات القريبة البعيدة الفاصلة بينهم، ثم قالت في نبرة ناعمة مطمئنة وكأنها تراضي طفلها الصغير دون حتى أن تعي أن أناملها تضغط في رفق فوق أكفه :
-(( متخافش هحكيلك.. بس قبلها خلينا نطمن على علياء ويحيي ونروح العيادة الخارجية نطمن عليك ))..
بمجهود مضن جذبها نحوه حتى كادت تصطدم بصدره العريض، هامسًا في حرارة وسط النظرات المستنكرة لمن حولهم :
-(( هحتاج دكتور ليه وأنتِ معايا ))..
عضت فوق شفتيها في خجل وقد توردت وجنتيها في الحال وارتعشت أهدابها تأثرًا بغزله البسيط، ثم انسحبت بجسدها من أمامه بعدما أفلت يدها مرغمًا كي تواسي علياء المتخذة من جدار غرفة العمليات موقفًا لها، بينما فرغ فاه جواد وضاقت أعين غفران فوقهم في حيرة قررا كلاهما بنظرة عابرة بين أحدهما الأخر تجاوزها لعدم مناسبة الوضع العام لمثل تلك الأحاديث الفضولية، وبدلًا عن ذلك سأله جواد في ريبة، حيث انتبهه عند سماعه كلمة "الطبيب" إلى حال ملابسهم الرث :
-(( مالك؟!.. حصل حاجة بينكم ولا؟! ومحتاج دكتور ليه ))..
أجابه طاهر في عدم اهتمام :
-(( مفيش بس عملنا حادثة قبل ما نيجي ))..
هتف جواد مصعوقًا وقد تحولت ملامحه إلى رخام منحوت من فرط التوتر :
-(( نعم!!.. حادثة!! ))
أجابه في بساطة وكأنهم يتجاذبان أطراف حديث عابر وليس حادثة طريق كادت تودي بحياته لولا لطف القدير :
-(( آه العربية فلتت مني وخبطت في الصدادات اللي قبل الu turn اللي عند ******.. سيبك مني وفهمني حصل إيه ليحيى بالتفصيل ومين أبو المجد اللي بتتكلموا عنه يده ))..
شرع جواد في قص كل ما حدث وما أخبرته به غفران وهي واقفة أمامه وتستمع إلى حديثهم، بينما أنصت طاهر بكل تركيزه وحواسه إلى أدق وأصغر التفاصيل، يحاول جاهدًا السيطرة على حمم بركانه الثائرة بداخله، غضبًا من تجاوز ذلك الفج، مقررًا على الفور مؤازرة قريبه في قراره فيما يتعلق بمساعدة غفران والقضية والتصدي لذلك الفاسق عديم الشرف وإنقاذ الفتيات من بين براثنه، دون الأخذ في الاعتبار تهديداته الرعناء كما وصفها هو في النهاية.
وبعد ساعة.. داخل غرفة الأشعة في الطابق الأرضي للمشفى
أستلقي فوق الطاولة المدولبة يطالعها في صمت وهي تقف جواره وتحدق في كل ما يقوم به الطبيب بتركيز تام، دون أن تغفل عينيها عن حركة واحدة في سبيل الاعتناء برقيدها الرمادي، فشعور الخوف والقلق عليه ومن أجله، وذلك الإحساس المقيت الذي عايشته للحظات فيما سبق، قبل أن يفتح عينيه ويجيبها عند وقوع الحادث، تغلب على أي شعور أخر بالغضب أو الحنق قد حملته في قلبها إليه، بينما أخذ هو يفكر وعينيه معلقة بها، كيف انصاع إليها في تنفيذ كافة مشيئتها كالأحمق دون جدال، بداية من إصرارها على فحص الطبيب له وترك أقاربه بالأعلى، وانتهاءًا برقوده هنا فوق الطاولة البيضاء حيث يخضع لأشعة سينية موسعة تشمل جذعه العلوي ككل، للتأكد من عدم وجود أي إصابات مبطنة كما أوصى الطبيب ورآها هو مضيعة للوقت، يتأمل ردات فعلها عن كثب وكيف اتسعت عينيها عن أخرهما في تأهب فور جذب الطبيب للجزء العلوي من الجهاز نحو صدره كي يبدأ عمله، وكيف تضغط على شفتيها الآن وكأنها تعاني من صدى تألمه داخلها، شاعرًا بإرادته وتعقله يَعْتَصِر بين شفتيها المضمومة، يذوب وينصهر توقًا للغرق بهم وبها، ففي البداية ظن أن مأساة انقطاع أنفاسه ستنتهي عندما بِعِيدَيْهَا إلى جواره ،وكم كان خاطئًا في معتقده، فيبدو أن آفة روحه وابتلاءه مستمرة طالما ينبض هذا القلب بحبها.
وبعد عدة دقائق أخرى من التذمر والرفض، أنتهي الطبيب مما يفعله دافعًا ذراع التحكم والفحص بعيدًا عنه وقبل أن يهم بالتحدث، سبقه صوتها المضطرب تسأل في قلق :
-(( طمني.. الأشعة فيها حاجة؟!.. ))..
أجابها الطبيب بابتسامة خفيفة مطمئنة :
-(( مبدئيا زي الفل.. زي ما قلت من قبل هي بس شوية رضوض وخدوش عند منطقة الصدر جامدة.. ودي اللي مسببة الألم مع كل نفس أو حركة.. إن شاء الله مع العلاج والراحة التامة هيبدأ يتحسن.. ودلوقتي هسيبكم دقايق على ما الأشعة تطلع وأكتب العلاج وبعدها نلف منطقة الصدر والكتف بجبيرة عشان تريح العضم شويه.. وألف سلامة ))
تسمرت في مكانها تتبع خطوات الطبيب وكأن عقلها يحاول إلى الآن إدخال التعليمات داخله عنوة، ناهيًا تحديقها في الفراغ صوت تأوه خافت خارج منه جعلها تهرول نحوه وتساعده في رفع ذراعه قائلة في حرج بسبب سقوط عينيها على صدره العاري :
-(( أنا رأيي بلاش تلبس القميص دلوقتي مادام الدكتور هيرجع وهيحتاج تقلعه تاني.. كده هتتعب مرتين ))..
بات قلبها يخفق في جنون وهي تشعر بيده الأخرى ترتفع إليها، ثم بدأت أنامله الطواف فوق وجنتها وتحسس شفتيها المرتجفة متوسلًا في حرارة ألهبت صدرها قبل جانب وجهها :
-(( طب مفيش بحبك.. تاني؟! ))..
ارتعشت أهدابها وقد وقعت في فخ قربه مسلوبة الإرادة، بسبب يده التي امتدت إلى خصرها وأخذ يدور بأصابعه فوقه في حلقات دائرية تلسع جلدها بشعور لن تعترف به ولو وضع السكين فوق نحرها، ثم عضت على لحم فمها من الداخل ربما بذلك تحرر نفسها من حصاره الغير مرئي المفروض حولها، بينما قلبها يضرب داخل أضلعها في غارات عاصفة يريد التحرر والانفصال عن تعقلها ومبادلته الجنون ضعفًا، مُسْتَغِلًّا هو سكونها واستسلامها التام في الوقوف قبالتها متجاهلًا ألمه العضوي وراح يمرر نظراته فوق ملامحها في جوع من لا يشبع، فيجفل جسدها الخائن في استجابة له وكأنها يلامسها دون أن يفعل، يحتضنها دون أن يقترب، حالة من التناغم تعيشها للمرة الأولى أصابت مشاعرها بالتخمة، الرضا، وبعد فترة من الارتباك أجزم أنها على وشك السقوط بين يديه، همست تقول معترضة في رعشة غلفت أطرافها قبل نبرتها :
-(( طا... هـ.. ر.. أحنا في المستشفى عيب كده.. وبعدين الدكتور اتأخر ليه عايزين نطلع لعلياء نطمن يحيى خرج من العمليات ولا لسه ))..
تنهد مطولًا ثم قال على مضض متوعدًا وقد ارتأى في ابتعاده عنها للوقت الحالي الحكمة :
-(( ماشي بس خليكي فاكرة.. هاخد حقي تالت ومتلت ))..
قاطع حديثهم دخول الطبيب مرة أخرى في الوقت المناسب لاستكمال مهمته، وبعد عدد لا بأس به من الدقائق، اتخذت هي من المكان المجاور لعلياء مكانًا لها تحتضن جذعها بكلا ذراعيها وتوأزرها، بينما تسائل طاهر في قلق :
-(( كل ده ومفيش خبر ؟! ))..
زفر جواد في ضيق ثم تمتم نافيًا :
-(( مفيش أي حاجة.. ونزلت خلصت الإجراءات وسألت تحت قالوا محدش طلع من العمليات عشان يعرف.. حتى المستشفى بلغت الشرطة واتعمل محضر تعدي.. معرفش بقي هيجوا دلوقتي ولا لما يحيى يخرج ويفوق ))..
تنبهت كافة حواس من كانت تجلس منزوية فوق أحد المقاعد البعيدة عنهم نِسْبِيًّا فور سماعها ما يقال، وقد بدأ قلبها يقفز فزعًا من فكرة تورطها لو تمعنت الشرطة في التحري، ومما أثار قلقها أكثر هو وجود تلك الجدباء قصيرة الشعر كما أطلقت عليها مؤخرًا في الجوار وحوله فهي تعلم جيدًا مدى مهاراتها التحقيقية وأزداد توجسها منها عندما هاجمتها منذ قليل واتهمتها صراحةً فيما حدث له، منهيًا شرودها باب غرفة العمليات الذي فُتح تِلْقَائِيًّا يليه خروج الطبيب يسأل في إرهاق :
-(( أنتوا أهل المريض صح ؟! ))..
كانت علياء هي أول من هرولت نحوه وتمسكت بذراعه تسأله في توسل من بين دموعها المنهمرة :
-(( أنا مراته يا دكتور.. طمني يحيى كويس ))..
أجابها وهو يربت فوق كفها مطمئنًا :
-(( احنا شفطنا كل السوائل والحمد لله.. الباقي على ربنا وعليه ))..
سأله جواد في ريبة وقد أختفت المسافة ما بين حاجبيه :
-(( قصدك إيه يا دكتور؟! ))..
رد الطبيب شارحًا وقد تحولت نبرته إلى الجفاف :
-(( العمليات اللي من النوع ده غالبًا بيحصل فيها مضاعفات.. يا غيبوبة ممكن تمتد من يوم لسنين.. يا أما فقدان في الذاكرة مؤقت أو دائم.. يا ولا حاجة والمريض يفوق ويبقى زي الفل أول ما البنج يروح من جسمه.. كله بأمر ربنا مقدرش أحكم دلوقتي بس حبيت أحطكم في الصورة وأعرفكم كل الاحتمالات ))..
شعرت علياء كمن تلقى صفعة مدوية فوق وجهه، كل شيء يدور حولها في عنف سريع فلا تلتقط من كلماته التي سقطت على أذنها كما تسقط الصواعق فوق رؤوس البشر بغتة شيء، ثم أخذت تتضخم حتى ابتلعتها داخل دوامة من السواد حاولت مطولًا التصدي لها وفي النهاية لم تملك سوي السقوط داخلها والاستلام لظلامها.