رواية في قبضة الأقدار
الفصل الخامس 5
بقلم نورهان العشري
كان شفائي منك الأنتصار الأعظم في حياتي !
و لكنه كان إنتصار حزين للغايه. فللآن مازالت مرارته عالقه بجوفي ! و لكني ممتنه و كثيرًا للقدر الذي أنقذني في الوقت المناسب . فها أنا عُدت للحياة مرة آخري و لكن بقلب مُصاب بداء الحذر في التعامل مع البشر و الذي يجعلني في مأمن من خذلان آخر لا املك القدرة علي إحتماله !
و هذه هي الثمرة الوحيدة التي جنيتها من بساتين الوجع الذي خلفها غدرك بقلبي ...
نورهان العشري ✍️
🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁🍁
أن تمارس الظروف سطوتها علينا و تُجبرنا علي فعل أشياء لم تكن في قائمه إختياراتنا لهو أمرًا مقبول نسبيًا برغم صعوبته . لكن عندما يجبرك أحدهم علي فعل ماهو دونًا عن إرادتك مستخدمًا طرقً ملتويه لدفعك في مسار مختلف عن دربك الذي برغم صعوبته و لكنه كان اختيارك . لأمر عظيم يصعب علي عقلك تحمله !
هكذا كان تفكيرها منصبًا علي كيفيه إجباره لها علي قطع وعد لم تكن لديها النيه أبدًا في تنفيذه أو النطق به !
فجعلها في وضع صعب خاصةً مع شقيقتها التي لم تنفك منذ البارحه في إحتضانها و إخبارها بمدي إمتنانها كونها ستجاذف بكل شئ و ستأتي معها و ما زاد من عنائها أكتر تلك الجمله المؤلمه التي ألقتها علي مسامعها و هي مستلقيه بين أحضانها
" عارفه يا فرح . أنا مكنش هيعدي عليا يوم هناك . كنت يا هموت من الخوف يا من الوحده يا من الضغط النفسي . أنا لما سالم بيه قال هتيجي تعيش معانا أتخيلت نفسي للحظه وسط الناس دول و في وضعي دا بحس إني جسمي كله بيرتعش و قلبي هيقف دا حتي حازم الله يرحمه كان بيهرب منهم بأي شكل و أهو أبنهم أومال أنا هعمل معاهم إيه؟
أنا لو قعدت أشكرك عمري كله انك وافقتي تيجي معايا و متسبنيش في الظروف دي عمري مش هيكفيني "
" اللعنه عليك أيها المغرور " هكذا تفوهت بداخلها و هي تقطع ذلك الشارع الطويل المؤدي للحديقه التي تقع بالاتجاه الآخر أمام البنايه التي تقطن بها فهي لم تنم منذ البارحه تفكر و تفكر و دائمًا ما كان تفكيرها يأخذها في أن تنهي حياة ذلك البغيض أو تسقط علي رأسه بعصا قويه علها تزيل ذلك الغضب المُتقد بداخلها من هذا الوضع الذي أجبرها علي القبول به و لا تعلم كيف السبيل لها في تغييره لذا فكرت في أن تخرج لإستنشاق بعض الهواء النقي عله يهدئ من نيرانها قليلًا و يساعدها في إتخاذ القرار الصحيح فهمت بإرتداء معطف ثقيل يقيها من برد أيام كانون التي تشبه الصقيع في برودتها و لم تهتم لجمع شعرها أو لإرتداء نظارتها و ألتقطت مفتاح الشقه و خرجت بهدوء حتي لا تستيقظ شقيقتها مندفعه إلي الخارج لتصطدم بالبرد القارس الذي لفح صفحه وجهها فوضعت يدها في جيوب معطفها و سارت تفكر في معضلتها التي سلبت النوم من عيناها !
علي الجهه الآخري كان سالم الذي وصل للتو لشركته لينهي بعضًا من الأعمال المتراكمة حتي يسثني له الذهاب إلي مسقط رأسه مدينه الاسماعيليه ليتحدث مع والدته و من بعدها عائلته في الوضع الجديد الذي فرض نفسه علي حياتهم و لكن لا حيله لهم في إختيارات القدر .
عندما كان منهمكًا في عمله أتاه اتصال من ذلك الرجل الذي كلفه بمراقبه الفتاتين فأجابه علي الفور ليقول الراجل بإحترام
" سالم بيه في حاجه غريبه حصلت و قولت أعرفها لحضرتك "
سالم بترقب
"حصل إيه ؟"
الرجل بعدم فهم
" في بنت خرجت من الشقه إلي حضرتك مكلفنا نراقبتها يعني مختلفه عن البنتين إلي عايشين فيها . "
قطب سالم جبينه و قال بإستفهام
" يعني إيه مختلفه ؟"
الرجل بحرج
" يعني حلوة ! شعرها فانح و طويل . و لبسها مختلف . مش البنت الصغيرة و لا البنت الكبيرة معرفش دي مين أو جت أمتا إحنا والله مراقبينهم كويس أوي و محدش جالهم خالص عشان كدا محتار !"
صمت لبرهه قبل أن يقول بفظاظه
" دي فزورة و المفروض أحلها يعني ! مانتوا لو واخدين بالكوا من شغلكوا كنتوا عرفتوا دي مين و راحتلهم امتا؟"
تحرك الرجل حتي وصل إلي مكان قريب نسبيًا منها فشعر بأنه يعرفها و لكن لا يزال حائرًا لذا قال محاولا إمتصاص غضب سيده
" والله لله يا سالم بيه عنينا ما غفلت لحظه . بس .."
قاطعه سالم بفظاظه
" تعرف تصورهالي ؟"
أجابه بلهفه
" آه طبعا أعرف . "
سالم آمرًا
" من غير ما تاخد بالها "
أغلق سالم الهاتف و ظل ينتظر الصورة و هو يفكر في هوية تلك الفتاة الغريبه التي يصفها الحارس و ماهي إلا دقيقه وصلته رساله علي هاتفه فسارع بفتحها و للحظه تسمرت ملامحه علي تلك التي كانت مغمضه عيناها و شعرها يتطاير خلفها بجنون بفعل الرياح فبدت كشمس حارقه متوهجه تتناقض مع برودة الطقس التي تحيط بشخصيتها الآخري ! نعم كانت هي تلك التي تتخذ من الجليد ستارًا تُخفي بها ملامحها صاعقه الجمال و شعرها الغجري الذي كانت تقمعه خلف تلك التسريحه البشعه دافنه جماله و روعته . هل تلك المرأة مجنونه أم ماذا ؟ فجميع النساء لديهم غريزة إظهار جمالهن و الحفاظ عليه بينما هي تقمعه بقسوة خلف تلك النظارات الطبيه البشعه و ذلك المظهر الذي يجعلها كعجوز شمطاء و لا يليق بسنوات عمرها التي لم تتجاوز الثمان و العشرون عامًا !
تسارعت نبضات قلبه من تلك المفاجأة و ذلك المظهر الجديد الذي رآها به و الذي مضت قرابة العشرون دقيقه و هو يتأمله دون أن يشعر بمرور الوقت و كأن هناك سحر خفي سيطر عليه و أختطف انظاره .
أخرجه من تأملاته صوت رساله آخري ففتحها و لكن تلك المرة كانت صدمته أكبر حين كانت الصورة قريبه إلى حد ما و قد كانت تفتح عيناها الزيتونيه الرائعه التي أكملت صورة المرأة الفاتنه الذي يكاد يقسم بأنها أضاعت عقلها بإحدي الطرقات حين أخفت جمالها الخارق هذا خلف مظهر تلك المعلمة العجوز !
كانت عيناها برغم جمالها إلا أنها ضائعه و كأنها طفله صغيرة ضلت طريق بيتها و لا تعلم كيف تعود !
تُري هل كان غير منصف معها في وضعها تحت هذا الضغط و إجبارها بتلك الصورة علي القبول و العيش مع شقيقتها تحت سقف عائلته ؟
لا يعلم لما شعر بالإنتشاء لتلك الفكرة ؟ هناك برعم صغير نبت بداخل قلبه يشعره بالشفقه علي تلك التي تدعي القوة بينما في تلك الصورة يكاد يقسم بأنها جل ما تتمناه أن تريح رأسها علي صدر أحدهم !
هل يمكن أن يكون هو ذلك الصدر الذي يستوعب أحزانها ؟؟
عند تلك الفكرة نهر نفسه وبشدة فهي ليست نوعه المفضل من النساء كما أنه لا يُحب المرأة التي تُناطِح الرجال و يفضل إن فكر بدخول إحداهن إلي حياته أن تكون هادئه مطيعه تكن مصدر راحه له من عناء رحلته الشاقه لا أن تكن عقبه أمامه و يخوض معها الحروب التي لا تنتهي !
و هنا خطر علي بالها سؤال لا يعلم مصدره و لكنه توقف أمامه لثوان يفكر بالإجابة
هل سيثير خضوع إحداهن شغفه مثلما يفعل عنادها ؟
لا يعلم الإجابه أو يفضل تجاهلها فقط تذكر كلمتها التي قالتها بمنتهي الغضب
" أنت طلعتلي منين ؟؟"
توهج ملامحها في تلك اللحظه جعله يقسم بأنها النقيض تمامًا من تلك الصورة الهادئه الجامدة لهيئتها التي تحاول الظهور بها دائمًا و قد أتي مظهرها اليوم ليجعله يتأكد من صدق حدثه !
فجأة رن هاتفه و لدهشته وجدها هي من تتصل فإرتسمت إبتسامه علي شفتيه لا يعلم سببها و لم يفكر كثيرًا في ذلك بل أجاب بلهجه متناقضه تمامًا مع ما يعتريه في تلك اللحظه
" الو "
جاءه صوتها مشتعلًا يتناسب تمامًا مع هيئتها في هذه الصور
" إحنا لازم نتكلم !"
يبدو أن الحظ في صفه اليوم فقد كان يتوق لرؤيتها بهيئتها الجديدة تلك و يحادثها و هو أمام عيناها مباشرةً بعيدًا عن تلك القضبان الزجاجيه التي تُهدِر نصف جمالها
جاء صوته جافًا كما العادة حين قال آمرًا
" مستنيكي في الشركه بعد ربع ساعه بالظبط "
جاء صوتها مستنكرًا
" ربع ساعه ! دا إلي هو إزاي أنا علي ما أجهز و آجي فيها نص ساعه علي الاقل "
لاحت شبح إبتسامه تسليه علي شفتيه تناقضت مع نبرته حين قال بفظاظه
" لو حسبنا الوقت من عندك للشركه هتلاقيه في حدود عشر دقايق بالعربيه ! و خمس دقايق تجهزي فيهم أعتقد كدا كفايه أوي و لا أنتي من البنات إلي بتاخد وقت قدام المرايا !"
قال الأخيرة ساخرًا و نبرته كان بها بعض التحدي فزفرت بحنق و هي تتوجه إلي سيارتها قائله بغضب لم يخطئ في تمييزه بين كلماتها
" كفايه أوي ! عشر دقايق و هكون عندك "
هكذا حسمت قرارها و قد أيقنت بأن الوقت الذي يمنحها إياه لن يكون كافيًا إذا ذهبت إلي البيت لتستعد لذا قررت بأن تذهب كما هي فلم يكن مظهرها يشغلها كثيرًا في تلك للحظه فإستيائها من وضعها هذا كان هو المهيمن علي تفكيرها ..
كان يقف أمام النافذه العريضه في غرفه مكتبه و يداه معقوده خلف ظهره و علي شفتيه إبتسامه لا يعرف مصدرها و لكنه كان يتأهب داخليًا لمعركه داميه و قتالًا عنيفًا بنكهه لذيذة مع صاحبه الشعر الغجري التي أنطبعت صورته في مخيلته و العينان الزيتونيه التي لأول مرة ستكون أمامه بلا حصون .
أعلنت مديرة مكتبه عن وصول ضيفته المنتظرة فأمرها بإدخالها قبل أن يأخذ مكانه علي مقعده خلف المكتب الخشبي الكبير ينتظر قدومها بترقب و حماس جديد كليًا عليه لتطل عليه أخيرًا بمظهرها الجديد و الذي خطف أنفاسه للحظه و قد كانت عيناه ترصد تفاصيلها بنظرات غامضه تحوي إعجابًا كبيرًا بين طياتها نجح في إخفاؤه و قال بلهجة خشنه مستفسرة متعمدًا إحراجها
" آنسه فرح عمران !"
علي الفور تذكرت سؤاله المتعجب في المرة الأولي حين أتت إلي مكتبه فارتبكت قليلًا و خاصةً حين تواجهت مع نظراته و قد شعرت بأنها مجردة أمامه من دفاعاتها و أسلحتها و شعرت بالحاجه لوقارها الذي يمدها بقوة تحتاجها كثيرًا في مواجهته فعادت إلي سبه داخلها بكل الألفاظ التي تعرفها فهو لم يمهلها الوقت حتي تستعد لتلك المواجهه وقد بدا حنقها علي ملامحها و لكنها حاولت أن تخرج لهجتها هادئه حين قالت
" دا سؤال و لا إجابه ؟"
سالم بتسليه
" اللتنين !"
" بمعني ؟"
سالم بهدوء
" سؤال إجابته جواه "
فرح بسخريه
" يبقي إيه لازمته ؟"
تعمقت نظراته أكثر و أشتد تحديقه بها وكأنه يخبرها بدون حديث بأن مظهرها الجديد هو السبب و قد جعلها ذلك غير مرتاحه و ودت لو أنها لم تأت لمقابلته و قد كان هذا الإحساس الدائم بداخلها بكل مرة تجتمع معه فتود لو أنها لم تقابله أبدًا .
فاجأها حديثه حين قال بجديه
" خير ؟"
رفعت إحدي حاجبيها بدهشه لتأتيها إجابته بلهجه ساخرة
" إيه السبب القوي إلي مخليكي عايزة تقابليني مع العلم أننا لسه كنا مع بعض من حوالي كام ساعه !"
إغتاظت من وقاحته و جعلتها تستعيد قوتها التي تجلت في نبرتها حين قالت
" أولًا أنا أتحفظ علي كلمه كنا مع بعض من حوالي كام ساعه دي !"
سالم بإختصار
" ليه ؟"
فرح بإيجاز
" معجبتنيش !"
ثم تابعت بنبرة محشوه بالغضب
" ثانياً بقي ممكن أعرف إزاي تحطني في الموقف دا ؟"
سالم ببراءه أغاظتها
" موقف إيه ؟"
أخذت نفسا طويلًا لتهدئ من روعها قليلًا قبل أن تقول بهدوء ظاهري
" أنت عارف كويس بتكلم عن إيه! و مع ذلك حاضر هقولك . إيه خلاك تقول لجنه إني وافقت آجي معاها عندكوا ؟"
سالم متصنعًا الدهشه
" أنا مقولتش كدا . أنتي إلي قولتي ؟"
جن جنونها في تلك اللحظه و لكنها بأعجوبه حاولت البقاء هادئه فأجابته
" أنا إضطريت إني أقولها موافقه بناءًا علي كلامك . أظن أنت فاكر قولت إيه كويس !"
حاول التحكم في ضحكه كادت أن تظهر علي شفتيه فمظهرها و هي تحاول التحكم بغضبها كان مثيرًا للغايه . و لكنه تابع بجديه
" فاكر كلامي كويس . و فاكر كمان إني لما طلبت منك دا مرفضتيش ! ففكرتك معندكيش مانع و مع ذلك طلبت من جنه تسألك و أنتي قولتي موافقه فين المشكله ؟"
ستفقد عقلها مم إستفزاز ذلك الرجل فها هو يتحدث ببراءه كأنه لم يقحمها فعليًا في هذا الأمر مستخدمًا طرقه الملتويه التي جعلت الغضب يتقد في عيناها و لكنها قالت ساخرة
" آه صح فين المشكله . الموضوع بسيط جدًا . أنت محطتنيش في موقف صعب قدامها بعد ما عشمتها إني وافقت . تفتكر أنا كان ممكن أقول إيه و هي عامله زي الغريق إلي كأنه ما صدق لقي قشايه أتعلق بيها ! "
كان غضبها لذيذًا بحق و خاصةً و قد تجلت إنفعالاتها بوضوح في عيناها التي أضفي عليها الغضب نوعًا آخر من الجاذبيه المتوهجة و قد أصابته لعنه الأشتهاء للمزيد من ذلك التوهج المثير لذا تابع بلهجه جادة
" طب فين المشكله بردو ! أنتي وافقتي لما لقيتي لهفتها و إنك القشايه إلي هتنقذها من الغرق أنا ذنبي إيه ؟! "
كانت تود الصراخ في وجهه قائله أنت من دفعتها لهذا الاعتقاد الذي ولد بداخلها كل هذا العشم و التعلق و لكنها أكتفت قائله من بين أسنانها
" ذنبك أن حضرتك طلعت بالفكرة المجنونه دي و زرعت جواها الأمل أنها هتتحقق ! "
زفر سالم بملل مصطنع يتنافي تمامًا مع لذه قويه تعتريه من حربهم الخفيه تلك و قام بإضفاء المزيد من الوقود علي غضبها حين نظر إلي ساعته قبل أن يقول بفظاظه
" سبق و قولتلك أنتي إلي قولتي موافقه و أكدتي علي فكرتي دي يبقي المشكله عندك ! و دلوقتي أنا شايف إنك يدوب تلحقي تجهزي أنتي و هي عشان هنسافر بكرة بدري "
برقت عيناها من جملته الأخيرة و قالت بإستنكار
" سفر إيه إلي بكرة ! أنا حتي لو وافقت فعلًا و سافرت محتاجه ييجي أسبوع علي الاقل عشان أجهز نفسي و أخد أجازة من شغلي مانا أكيد مش هخسره عشان أفكار حضرتك المجنونه !"
كان يعلم بأن عاصفه هوجاء ستهب ما أن يلقي بكلماته علي مسامعها و لدهشته كان يتوق لهبوبها .
إلتفت إلي الدرج بجانبه و هو يمسك بورقه بين يديه ناولها إياها تزامنًا مع حديثه الهادئ حين قال
" أجازتك أتمضت خلاص تقدري تبدأيها من النهاردة!"
لا تعلم كيف تناولت الورقه من بين يديه و لكنها شعرت بأن العالم يدور من حولها حين تأكدت من صدق حديثه فرفعت رأسها تطالعه بزهول تجلي في نبرتها حين قالت
" أنت عملت كدا إزاي ؟ "
سالم ببراءه مزيفه
" عملت إيه ؟ قصدك عالاجازة يعني ! عادي صاحب الشركه في بينا بزنس كتير و مامنعش لما طلبت منه دا !"
كان عقلها في مكان آخر حيث قالت علي نفس لهجتها
" إحنا متكلمين في الموضوع دا إمبارح بالليل و النهاردة الجمعه و الشركه أجازة الورقه دي أتمضت إزاي و أتوافق عليها أمتا ؟"
وصل إلي مركز إنفجار البركان فأرجع ظهره إلي الخلف مستندًا علي مقعده الجلدي و هو يقول بهدوء جليدي
" أتمضت إمبارح الصبح !"
برقت عيناها و هبت من مقعدها تناظره بصدمه تحولت لغضب كبير تجلي في نبرتها حين قالت
" يعني قبل حتي ما تفاتحني في الموضوع ! دا أنت مقرر موافقتي من قبل ما أعرف ! إزاي تجيلك الجرأة تعمل كدا ؟"
علت نبرتها قليلًا فتصاعدت الأدخنة إلي رأسه فقال بلهجه جافه محذرة
" زي ما أختك جتلها الجرأة تفكر تتخلص من إبن أخويا من غير حتي ما تعرفنا أنه موجود و أنتي طاوعتيها و روحتي معاها !"
فرح بسخط
" قولتلك مكنتش أعرف ! "
سالم بفظاظه
" مش موضوعي ! كل إلي يهمني إني أحمي الحاجه الوحيدة إلي باقيه من حازم الله يرحمه "
دارت حول نفسها وقد بدأت الرؤيه تتوضح لها شيئًا فشيئًا و هنا توقفت لتقول بزهول و إستنكار
" آه قول كدا بقي ! أنت كنت عارف كل حاجه و خططت كويس عشان توقعنا في الغلط بالرغم من إنك عارف بالحمل من أوله لكن سبتنا عشان أكيد كنت متوقع تصرف جنة "
سالم بهدوء لم يفارقه
" حاجه زي كدا !"
رمقته بنظرات الخسه قبل أن تقول بإحتقار ممزوج بالغضب
" بس دي طرق ملتويه و أساليب حقيرة !"
قست ملامحه قليلًا و قال بفظاظه و جفاء
" هعمل حساب لصدمتك و مش هحاسبك علي كلامك دا ! "
شعرت بغصه مؤلمه داخل حلقها جعلتها تقول بمرارة
" بعد موقف سليم لما قولتلي لو ليكي حق هتاخديه مني شخصيًا حسيت إني واقفه قدام راجل واضح و صريح لكن دلوقتي .."
لا يعلم لما شعر بالغضب الممزوج بالألم في تلك اللحظه فقاطعها قائلا بهدوء
" كل شئ مُباح في الحب ! و الحرب !"
أخترقت جملته مسامعها مرورًا بقلبها الذي إنتفض بشدة جاعلًا من أنفاسها تضطرب داخل صدرها و لم تستطع إجابته فما قاله كان خارج نطاق توقعها لتجده يتابع بعينان مركزة علي وجهها و كأنها شعاع ليزر
" زي مانتي بتحاربي طول الوقت عشان أختك أنا من حقي أحارب عشان أخويا أو إلي باقي منه ! "
لا تعلم لما لامست الخيبه جوانب قلبها فتابعت بقهر
" بس دي أنانيه !"
غمغم بهدوء
" سميها زي ما تسميها ! و بعدين أنتي مش خسرانه حاجه بالعكس أنا كدا بحللك كل مشاكلك !"
كانت تتضور غضبًا من حديثه لذا قالت بجفاء
" أولًا مطلبتش منك تحللي حاجه ! ثانيًا فين الحل لما آخد أختي و نسيب بيتنا وحياتنا و نروح آخر الدنيا عشان حضرتك خايف علي إبن اخوك مننا بالرغم من إنك مراقبنا و عارف كل حاجه بتحصل !"
تجاهل سالم حديثها و قد أقترب من نقطه شائكه جعلته فريسه للأرق البارحه لذا قال بترقب
" إلي أعرفه أنك أنتي و أختك ملكوش غير بعض . و مدام هتبقي معاها يبقي مفيش مشكله. إلا إذا كان في حد معين مش عايزة تمشي و تسبيه ؟"
غزت الحيرة ملامحها و لم تستوعب كلماته فقالت بعدم فهم
" تقصد إيه ؟"
كانت نظراته تقتنصها و تقيم جميع إنفعالاتها و خرجت الكلمات بتمهل من بين شفتيه
" أقصد يمكن في حد في حياتك مش عايزة تبعدي و تسبيه مثلًا !"
هنا برقت عيناها من سؤاله الوقح الذي يغلفه بطريقه منمقه تصعب عليها إجابته بألا يتدخل فيما لا يعنيه فقد كان كمن يتشاور معها في الوصول لحل و لكنها كانت تعلم بأنها إحدي طرقه الملتويه كالعادة لذا حاولت إستعادة هدوئها و محاربته بنفس سلاحه إذ قالت بغموض و قد بدت لمحه من الحزن علي ملامحها
" ايًا كان مينفعش أتخلي عن جنه . حتي لو في أي ؟ "
إجتاحته موجه من الغضب بسبب إجابتها المراوغه والتي لم تروي عطش فضوله فقد جمع ما يكفي من المعلومات عنها إلا أنه لم يصل الي تلك النقطه أبدًا و كانت غامضه بالنسبه إليه خاصةً حين علم بأن لديها الكثير من الصداقات مع الجنس الآخر في عملها و قد بدأ عقله في العمل بجميع الاتجاهات يفكر هل من الممكن أن تكون إحدي هذه الصداقات لها طابع خاص و لذلك حاول معرفه الأمر بطريقه لا توحي بإهتمامًا خاصًا بها و لكن اجابتها بذلك الشكل لم تزيده إلا حيرة و غضبًا لذا خرجت الكلمات من فمه مُحمله بالإستياء حين قال
" معلش بقي . هتضطري تتنازلي عن خططك بس دا واجبك تجاه أختك و لا إيه ؟"
هدأت ملامحها إلي حد ما و قد بدا الغموض في نبرتها حين أجابته
" مين قال إني هتنازل عن حاجه ! انا بس هأجل مشاريع كتير كانت في دماغي لحد ما اطمن علي جنة "
بالنهاية نجحت في إغضابه بطريقه لم يتوقعها أبدًا و قد إحتدم صراع بداخله عن كونها لا تعني له شيئًا فلماذا يريد معرفه علاقاتها الخاصه ومن ناحيه آخري كان غضبه متقدًا من إحتمالية وجود علاقه خاصه تجمعها مع أحدهم و هو يقف بالمنتصف لا يملك القدرة علي حسم ذلك الصراع و لكنه نجح بجدارة في إخفاءه عن عيناها الفاتنه التي هدأت عاصفتها فبدا خضارها جذابا صافيًا كصفاء الربيع و كأن لكل شئ بها له فتنه مختلفه عن الآخري .
وجدها تهب من مكانها تناظره بهدوء جاء في صوتها حين قالت
" أعتقد إن كلامنا كدا أنتهي . عن أذنك "
أجابها بجفاء
" السواق هيعدي عليكوا بكرة الساعه ٩ الصبح . ياريت تكونوا جاهزين "
هزت رأسها و أجابت بإختصار
" . عن إذنك "
أومأ برأسه الذي كان يغلي من الغضب و قد كان مجرد التفكير في سبب هذا الغضب يزيده أكثر لذا أنكب علي الأوراق أمامه يبثها مشاعر غريبه لا يعلم كنهها و لا يرحب بوجودها !
**************
في اليوم التالي و تحديدًا في الصباح كانتا قد تجهزن في إنتظار السيارة أن تأتي لتبدأ رحلتهم نحو المجهول ! و أخذت فرح تتطلع إلي شقتهم التي عاشوا بها أجمل ايام حياتهم التي كانت دافئه يملؤها البهجه التي انطفأت فور وفاة والدتها و التي و كأنها ذهبت و أخذت بسمتهم معها .
أخبرها أباها ذات يوم بأنها من اختارت لها اسمها و التي ضاعت معالمه مع مرور الزمن فلم يعد متبقي منه سوي حروف خاويه كخواء قلبها الذي و بالرغم من جمودها الظاهري كان له رأيا آخر فهو يخشي السفر يخشي المجهول و يخشي شيئًا آخر تأبي الإعتراف به .
جاء السائق في موعده فساعدت جنة في حمل حقيبتها ليأخذها منها السائق الذي كان في عمر والدهما و أعطاهم بسمه مطمأنه فور أن وقعت عيناه علي جنة التي كانت كالأرنب المذعور تمسك بيد شقيقتها و كأنها طوق نجاتها و مصدر أمانها في هذه الحياة فشددت «فرح» علي يدها و إستقلوا السيارة منطلقه بهم إلي المجهول ..
**************
في مكان آخر تحديدًا في جامعه قناة السويس كان اليوم الأول لها في هذا المكان الغريب كليًا عليها كما أصبح كل شئ غريب عليها بعد وفاة شقيقها الأصغر!
تغير كل شئ و إنمحت البسمه من علي شفتيها و نُزِعت الفرحه من بيتهم الذي لم تستطع والدتها العودة إليه بعد موت صغيرها و أحب أبناءها و أكثر من يُشبهها فحين إنتهوا من مراسم الدفن و التي كانت في مسقط رأسهم بإحدي القري بجانب مدينه الاسماعيليه تم أخذ العزاء و سقطت والدتها مغشيًا عليها فقلبها لم يتحمل فجيعتها العظيمه و أخبرهم الطبيب بأن حالة قلبها تسوء فأقترح أخاها الأكبر أن يستقروا في مزرعتهم حتي تتحسن حالة والدتهم و كي يبعدها عن ذكرياتها مع فلذة كبدها الذي أنتزعه القدر من بين أحضانها .
و تم نقل أوراقها من جامعتها بالقاهرة إلي جامعه قناة السويس و علي الرغم من إنعدام رغبتها في أي شئ سوي أن تظل تبكي بين جدران غرفتها حتي تلحق بصديقها و أخاها و تؤم روحها إلا أن ما حدث هذا الصباح جعلها تود لو تهرب لأبعد مكان في العالم حتي لا تشهد علي تلك المهزلة التي سوف تحدث ..
قبل عدة ساعات ....
أجتمعت العائله بأكملها لأول مرة علي طاوله الإفطار و كان هذه مثير للدهشه و الألم معًا فقد كانت الوشوش قاتمه مُغبرة بأوجاع لا يمكن الإفصاح عنها و كان هذا الجمع يتكون من شقيقيها و عمتها و أبنتها «سما» و تفاجئوا جميعًا حين شاهدوا والدتها التي تستند علي يد خادمتها الأمينه «نعمه» فتقدم منها شقيقيها كلًا ممسكًا بيدها حتي أجلسوها بمكانها المعتاد و قد حاول الجميع رسم الإبتسامه علي وجوههم حتي و لو لم تصل لأعينهم و لكن كانت محاوله في جعلها تتناسي حزنها قليلًا ..
أخيرًا بدأ سالم بالحديث حيث قال بلهجه خشنه توازي هيبته التي تلازمه دائمًا و تجعل الجميع يخشونه
" في موضوع مهم عايز أكلمكوا فيه . و مش عايز حد يقاطعني "
أنتبه الجميع لحديثه و الذي شرع فيه علي الفور
" حازم الله يرحمه كان متجوز واحده زميلته في الجامعه . و بعد ما أتوفي أكتشفنا أنها حامل منه ! و بكرة أن شاء الله هتيجي تعيش معانا هي و أختها !"
و كأن صاعقه قويه ضربتهم من حيث لا يدرون! جحظت الأعين و تسارعت الأنفاس جراء قنبلته التي ظل دويها يتردد علي أذانهم و ألجم ألسنتهم لوهلة و كان أول من أستفاق من صدمته هي عمته «همت» التي أنتفضت من مكانها و قالت بصياح
" أنت بتقول إيه يا سالم ؟ حازم مين إلي كان متجوز ؟؟ و بنتي ؟ و سما ؟ كان بيضحك عليها ؟؟"
كان يتوقع ثورتها بل وأكثر من ذلك فقد كان هناك أتفاق أحمق بينها و بين ووالدته علي زواج «حازم و سما » منذ أن كانوا أطفال ! و قد نشأت «سما» علي حُب «حازم» الذي لم يبادلها الحب و لو لثانيه و لكن تلك الترهات التي ذرعتها والدته و والدتها و خصوصًا عمته كانت تسيطر علي عقل الفتاة و وافقتها والدته خاصةً بعد ما حدث في الماضي !
" أهدي يا عمتي ! محدش ضحك علي سما ؟ سما و حازم مكنش بينهم حاجه مجرد كلام بينك و بين ماما لكن مكنش في حاجه رسمي !"
همت بانفعال
" رسمي ! رسمي إيه يا أبن أخويا دي الناس كلها كانت عارفه أن حازم لسما و سما لحازم .تيجي دلوقتي تقولي دا كان كلام بينا ! لا و جايب واحده منعرفش أصلها من فصلها و تقول مرات حازم ! و قال إيه حامل في أبنه دي مسرحيه دي و لا إيه "
قالت جملتها الأخيرة بسخرية فتجاهلها و تابع بنفس هدوءه
" لا مش مسرحيه . دا أمر واقع و ياريت تتقبليه في أسرع وقت عشان هي زمانها علي وصول !"
صاحت همت بغضب
" مين دي إلي علي وصول ؟ أنت أتجننت يا سالم ؟"
بدأ غضبه يتصاعد و لكنه حاول كبحه قدر المستطاع فهو يتفهم حالتها و ذلك الوضع الصعب الذي أقحمهم فيه شقيقه المتوفي لذا قال بصوت خشن
" خلي بالك من كلامك يا عمتي ! انا مراعي حالتك لحد دلوقتي"
تسارعت أنفاسها و أبتلعت شوك الحقيقه التي تجلت في عيناه فالأمر كان واقعًا بنكهه مريره كالكابوس المريع لذا قالت بتهكم
" و ياتري الكلام دا من أمتا ؟ أقصد جواز البيه "
سالم بجفاء و قد غلت الدماء بعروقه
" قبل ما يموت بأسبوع !"
" و الهانم مراته حامل في الكام ؟"
سالم و قد علم مرمي حديثها و قرر إيقافها عند حدها لذا ألقي إجابته و هو يناظرها بترقب
" تقريبًا في نص التالت "
صدحت ضحكه قاسيه خاليه من المرح من فمها قبل أن تقول بإستهزاء
" يعني لو حسبنا هنلاقي أن الهانم حامل من قبل الحادثه بكام يوم .. بقي دا كلام يتصدق ! البنت دي أكيد كذابه و جايه ترمي بلاها علينا و علي حازم الله يرحمه . أنا واثقه أنه عمره ما حب حد غير سما "
" خلي بالك من كلامك يا عمتي !"
خرج صوته أخيرًا متحشرجًا يحشوه الغضب الممزوج بغصه قويه لا يعلم سببها فهو منذ أن علم بتلك الحقيقه المرة و قد شعر بأن الأرض تدور به ! هل يمكن أن تلك الفتاة بالفعل حامل من أخاه الراحل ؟ كيف يستطيع فعل ذلك بأبنه عمته التي لا تري بهذه الحياة سواه ؟ كيف يستطيع الغدر بها بتلك الطريقه ؟ كانت إجابة تساؤلاته تكمن في ثلاث أحرف «جنة» تلك للفتاة التي كانت كالحرباء لابد و أنها تلونت لأخاه حتي يقع في حبال عشقها و الذي تسبب بتدمير حياته و عائلته !
كانت ذنوبها و أخطائها تزداد يوماً بعد يوم و لكنه كان مُكبل بأصفاد إمتنان لرحمها الذي يحمل إبن شقيقه الراحل و الذي من أجله فقط سيتغاضي عن كل شئ حتي يأتي و ينير حياتهم من جديد .
و قد أتخذ قرارًا بأن يتجنبها لحين قدومه و لكن ما أن سمع عمته تقذفها بذلك الإتهام الشنيع لم يستطع منع نفسه من إيقافها فبرغم كل شئ هي عرض أخاه المتوفي و لن يسمح بأن يتطاول عليه أحد و لابد لتلك الفتاة أن تعلم بأن أي خطأ لن يكون مسموح به ..
نظر إليه الجميع بصدمه لم تدم كثيرًا إذ تولي سالم الحديث حيث مدد ساقيه قليلًا و هو يناظر عمته بجمود متحدثًا بصوت خافت لكنه مخيف
" زي ما سليم قالك خلي بالك من كلامك ! جنة مرات حازم و إلي في بطنها أبنه. و أي غلط فيها مش مسموح بيه ! "
أوشكت علي الحديث فخرج صوت أمينه قويًا حين قالت بصرامه
" مفيش كلام بعد كلام سالم يا همت ! مرات حازم هتيجي هنا و هنتشال عالراس هي و إلي معاها. و أي حد هيتعرضلهم أنا بنفسي هقفله . "
صُدِمت همت من موقف أمينة التي كانت تؤكد على حديث أبناؤها وهي التي كانت تُمنيها سابقًا بزواج أبنتها من حازم فخرج الكلام منها بزهول
" أنتِ إلي بتقولي كدا يا أمينه ؟ "
أمينه بحزم وهي تجاهد حتي تمنع العبرات من الهطول من مقلتيها
" أيوا أنا إلي بقول كدا . مستنيه مني إيه أرمي إبن أبني و أمه في الشارع ! بدل ما أخدهم في حضني و أحمد ربنا أنه عوضني بحته منه بعد ما قلبي أتحرق عليه "
همت بعتب ممزوج بوجع
" تقومي تحرقي قلبي علي بنتي !"
ألقت أمينه نظرة معتذرة علي سما التي كانت ترتجف بين أحضان حلا و قالت بصوت قوي
" سما لسه صغيرة و العمر قدامها و بكرة ربنا يبعتلها إبن الحلال إلي ينسيها حازم . بس أنا قلبي هيفضل محروق العمر كله يا همت !"
حين أنهت حديثها تفاجئوا بسما التي هرولت إلي الأعلي و صوت بكائها يفتك بالقلوب و لكن ما باليد حيلة فقد وضعهم القدر في مأزق لا يمكن الفرار منه حتي و إن كان بداخلهم ممتنين لإرادة الله التي بعثت نورً من جوف العتمه التي خيمت علي حياتهم منذ فراق حازم بذلك الطفل الذي أحيا الامل بقلب والدته و جعلها تستطيع الوقوف علي قدميها من جديد .
هرولت «همت » هي الآخري خلف أبنتها و دموع القهر تتساقط من بين عيناها و عندها هبت حلا قائله بصوت غاضب حد الألم
" أنا مش قادرة أصدق إلي بسمعه معقول يا أبيه الكلام دا ؟ أنا مش مصدقه البنت دي . و حازم عمره ما حب حد غير سما . "
نظر سالم في ساعته و قال بصرامه متجاهلًا ثورتها
" يالا عشان تروحي جامعتك . السواق بره هيوصلك ! "
أشتعل غضبها أكثر و أكثر فما أن همت بالكلام حتي حدجتها والدتها بنظرة صارمه جعلتها تبتلع حروفها و قامت بالإمتثال مرغمه لأوامرهم ..
عودة للوقت الحالي
زفرت حلا بحدة و قطراتها تتساقط علي وجنتيها غافله عن تلك العينان التي كانت تراقب أنفعالها و حزنها الفاتن بإعجاب خفي فقد كانت أول مرة يراها بالجامعه و لا يعرف هويتها و لكن ما لفت أنتباهه إليها هي تلك التعابير المتغيرة علي ملامحها و التي كان يتسيدها الحزن العميق فخطر سؤال علي ذهنه
" من يطاوعه قلبه علي إحزان تلك العينان الفاتنه ! "
أقترب منها شيئًا فشيئًا ليُطالعها عن قرب أكثر لم يكن ينوي التحدث معها و لكن شعر فجأة بأن عليه الإقتراب منها و ما أن أصبح بجوارها حتي وجد عيناها تُغلق و قدماها تتراخي و كادت أن تسقط علي الأرض و لكن يداه كانت أقرب إليها فحملها بلهفه واضعا يدًا تحت ركبتها و الآخري خلف ظهرها و توجه بها إلي مكتبه وسط همهمات من الشباب و الفتيات حوله و قام بإدخالها غرفته و وضعها علي المقعد المقابل لمكتبه و خلفه إحدي العاملات التي جلبت حقيبتها و وضعتها علي المكتب أمامه فأمرها بإحضار كوب مياه لإفاقتها و نظر إلي العامله الآخري و قال مستفهمًا
" أنتي تعرفي البنت دي ؟؟"
أجابته نافيه
" لا معرفهاش ؟"
فنظر للآخري و التي أجابت نفس إجابتها فنظر حوله لتقع عيناه علي حقيبتها و قال لإحداهن
" أفتحي شنطتها و طلعي بطاقتها نكلم أهلها ييجوا يشوفوا بنتهم ."
ظهرت إمارات الخوف علي العامله و تراجعت للخلف فقال بإندهاش
" إيه في إيه مالك ؟"
العامله برجاء
" بالله عليك يا ياسين بيه بلاش أنا أحسن تضيع منها حاجه كدا و لا كدا تتهمها فيا . أنا ماليش دعوة "
ناظرها بزهول قائلًا
" إيه الجنان دا أنا إلي بقولك أفتحي شنطتها و طلعي بطاقتها"
العامله برجاء
" سايقه عليك النبي بلاش. "
زفر بحنق و نظر إلي العامله الآخري التي تحاول إفاقتها فتراجعت للخلف بذعر فتقدم مستسلمًا يفتح الحقيبه و لم يُلاحظ تلك التي إستعادت وعيها ببطئ فكان أول ما وقعت عيناها عليه هو ذلك الرجل الضخم يُفتش في حقيبتها فصرخت بذعر قائله
" حراميييييي!!!
***************
أثناء الطريق توقف السائق أمام إحدي محطات الوقود و ترجل منها بعد أن استأذنهم و غاب لبعض الوقت ثم عاد حاملًا أكياس كثيرة بها شتي أنواع الحلوي و العصائر و المياة و ناولها لهم في الخلف فشعرت فرح بالخجل و أوشكت علي إخراج النقود من حقيبتها فأتاه صوته معاتبًا
" بتعملي إيه يا بنتي ! أنتوا زي ولادي. و بعدين حازم الله يرحمه أنا إلي كنت مربيه ."
شعرت الفتاتان بالخجل من كرم ذلك العجوز اللطيف و شكرته فرح بلطف فنظر إلي جنة قائلًا بحنو
" لو حابه تقريله الفاتحه المقابر علي أول البلد هنا "
شعرت بخفقه قويه داخل قلبها و تدفق الدمع بمقلتيها فهزت رأسها بموافقه و يدها تحتضن بطنها المسطحه فهي للآن لا تصدق بأنه قد توفي .
توقفت السيارة أمام مقابر العائله و ترجلت منها جنة و بجانبها فرح التي توقفت عندما قالت شقيقتها برجاء
" خليكي يا فرح . محتاجه أكون لوحدي ... معاه !"
قالت كلمتها الأخيرة بضعف فتفهمت شقيقتها وضعها و تركتها بعد أن ارشدها السائق إلي مكان القبر فإرتعش سائر جسدها حين شاهدت إسمه المدون فوق تلك اللوحة الرخاميه التي إمتدت أصابعها تلامسها برفق و كأنها تلامسه و تساقط الدمع أنهارًا يحفر وديان من الحزن فوق وجنتيها الشاحبه و لدقيقه لم تستطع الحديث بل أخذت تبكي و تبكي و كأنها تحاول ذرف وجعها بدلًا من دموع بائسه لم تستطع التخفيف من حزنها أبدًا ..
" يااااه يا حازم . مكنتش أتخيل تبقي النهايه كدا أبدًا ! "
خرج الكلام متحشرجًا من بين شفتيها المرتعشه و التي أضافت بإستنكار و عدم تصديق
" معقول أنت هنا ! خلاص دا مكانك بعد كدا ! يعني مش هشوفك تاني ؟ سامحني يا حازم.. سامحني أرجوك "
أختتمت جملتها و أجهشت في بكاء مرير نابع من قلب مُحطم دهسته الحياة تحت أقدامها بلا رحمه و لا شفقه و لم تكتفي بذلك فقط بل وضعتها أمام بركان ثائر يُغذي الإنتقام نيرانه التي كانت قادرة علي سحقها في ثوان لولا وجود ذلك الجنين بين أحشائها و الذي منع يد الظلم من أن تطالها و لكنها كانت تتوعد بإذاقتها الجحيم ما أن تضع مولودها .
هكذا كان يطالعها سليم الذي هرب من لقاءه بهم وتوجه إلي حيث يرقد أخاه الذي ترك الحياة بأكملها و ذهب إلي موطنه الدائم فقد كان يخاف زيارته طوال الثلاث اشهر المنصرمه و لكنه الآن وجد قدماه تأخذه إليه دون إرادته و أخذ يتلو عليه ما تيسر من أيات الذكر الحكيم و يردد الدعوات بأن تتغمده رحمه الله الواسعه و لكنه توقف إثر سماع أصوات قادمه من الجهه الآخري و حبس أنفاسه عند سماعه صوتها الباكي و قد شعر للحظه بمدي معاناتها و ألمها لفقده و لكن جاءت كلماتها الأخيرة لتجعل عقله يتيقظ و غضبه يستعر رغمًا عنه و خاصةً حين وجدها تقول من بين دموعها بأسف بالغ
" مكنتش أتمني النهايه تبقي كدا أبدًا .. سامحني يا حازم حقك عليا . أرجوك سامحني "
أنهت كلماتها و تابعت وصلة نحيبها التي يغذيها آلام الذنب و الفقد و الظلم !
أنتشلها من بئر العذاب الخاص بها صوت اقدام بثت الرعب بأوصالها فرفعت رأسها لتصطدم ببركه من الدماء المحتقنه تحدق بها بغضب من يراها يقسم بأنها قد إرتكبت أعظم جرائم السماء و بأنها هالكه لا محاله .
تسارعت أنفاسها و هي تناظره بعينان حاولت رسم القوة بهم و إخفاء ذلك الذُعر الذي أجتاح أوصالها لدي رؤيتها له فقد كانت تحمل هم رؤيته كالثقل في قلبها الذي يؤلمه كل تلك الإتهامات التي توجهت إليه قهرًا
" بأي عين جايه تزوريه !"
أقتحمت لهجته الباردة صراعها الداخلي فاهتزت حدقتيها لبرهه قبل أن تحاول رسم قناع القوة و الجمود علي ملامحها و قالت بصوت مبحوح
" و إيه يمنعني آجي أزوره ؟"
لاحظ محاولتها لرسم قوة واهيه لا تتمتع بها و أيضًا بحه صوتها التي تظهر كم عانت حتي تخرجه و جسدها الذي كان يرتجف و كأنها ورقه شجر عصفت بها رياح خريفيه فزعزعتها من مكانها . و لكن غضبه كان يطمس كل الحقائق أمام عيناه و لم ينتبه سوي لكلماتها التي جعلته يرفع إحدي حاجبيه و يقول بإزدراء واضح
" تصدقي نسيت أن إلي زيك يعمل أي حاجه عادي . "
كان الإحتقار الذي يتساقط من بين كلماته يقتلها فلم تكن تكفيها معاناتها و حملها الثقيل حتي يأتي هو ليزيده أضعافًا مضاعفه ! لا تعلم ما مشكلة هذا الرجل معها و لكنها ستحاول مقاومه طوفان غضبه و لن تجعله يهينها أبدًا
و هنا إستعادت بعضًا من صوتها الهارب و قالت بجمود
" و مالهم إلي زيي !"
أقترب منها بخطً سُلحفيه و هو يتابع محاولًا تتضمين لهجته أكبر قدر من الإحتقار
" ميعرفوش يعني إيه أدب و لا أخلاق و لا ضمير ! يقتلوا القتيل و ييجوا يعيطوا عليه عادي !"
كان يقذف الكلمات بوجهها دون أن يهتز له جفن من الرحمه و لا الإشفاق علي ضعفها أبدًا و قد بدا أمامها كمسخ مجرد من الإنسانيه وظيفته إلقاء الإتهامات فقط و لكنها لن تسمح له و هنا خرج صوتها قويًا إذ قالت بعنفوان
" لو كان دا رأيك فيا فتقدر تحتفظ بيه لنفسك أو ترميه في أقرب مقلب زباله ! أما بالنسبه للي زيك بقي فأنا ماحبش أتعامل معاهم أبدًا . و لا يجمعني بيهم طريق . لأنهم ناس معندهمش دين ولا ضمير بيرموا الناس بالباطل من غير أي ذرة ندم واحدة !"
لم يكن يصدق أذنيه التي التقطت حديثها الوقح و قد صدق حدثه فتلك الفتاة ليست بالملاك الحزين الذي كانت عليه يوم رآها في المشفي فهي أفعي متنكرة في زي أنثي فاتنه!
هنا نهر نفسه بشده علي ذلك الوصف الذي لا يليق بها فهي كما ظن في البدايه أفعي ألتفت حول رقبه أخيه حتي سلبت منه حياته لذا أقترب حتي وصل أمامها مباشرةً و قال بسخريه لاذعه
" مش مستغرب أوي من كلامك ! من البدايه كنت عارف أن وش الملايكه دا بيخفي وراه شيطانه بس للأسف حازم مكانش شايفك علي حقيقتك "
خرج الكلامات مرتجفه من بين شفتيها بينما قلبها يحترق من قسوة اتهاماته
" أنا عملت إيه لكل دا ؟ إيه الذنب العظيم إلي إرتكبته ؟"
أعطاها نظرة قاتله قبل أن يقول بإذدراء
" ذنبك أنتي أكتر واحده عرفاه كويس ! و متفكريش عشان جيتي تعيشي وسطنا أنك خلاص فلتي من العقاب ! إلي مانعني أخد روحك دلوقتي هو إبن أخويا إلي جواكي ! "
إزدادت عيناه إحمرارًا فبدت و كأنهما جمرتان مشتعلتان بنيران الجحيم و جاءت نبرته حادة كنصل سكين حاد كان يتعمد غرزه بمنتصف قلبها حين أضاف بقسوة
" أول و آخر مرة هحذرك لو فكرتي تعرضيه للخطر هتشوفي مني إلي عمرك ما شوفتيه في حياتك و خليكي فاكره أنك بسببه لسه عايشه و بتتنفسي ! و صدقيني هييجي يوم و هتتعاقبي العقاب إلي تستحقيه علي جريمتك !"
هاجمها الدوار و شعرت بالأرض تهتز تحت قدميها من فرط صدمتها التي تحولت إلي رعب من هذه المرارة التي تتساقط من بين حروف كلماته المؤلمه و الجارحه . و سقطت دمعتان من جانبي عيناها من فرط القهر الذي شعرت به في تلك اللحظه و خرجت الكلمات من فمها ممزوجه بوجع قاتل لامس زاويه ما في قلبه
" خليك فاكر كل كلمه قولتها دلوقتي عشان هييجي يوم و تندم عليها .."
لم تستطع إكمال جملتها فقد تراقصت الأرض بها في تلك اللحظه و تراخت قدماها و لم تشعر سوي وهي تسقط و يداه تتلقفها بصدمه من مظهرها المزري فقد شحب لونها فجأة ليجدها تترنح فلم يستطع إلا أن يمسك بها و حين لامست كفوفه الخشنه خصرها الرقيق المنحوت بدقه شعر بنبضاته تتعثر بداخل قلبه الذي دق بعنف و هو يناظر صفحه وجهها الابيض المستدير الذي يتناقض في بياضه مع سواد اهدابها التي تظلل بحرها الأسود اللامع و كانت خصلاتها تتطاير خلفها بتمرد عنفوان و كأنها ترفض اتهاماته البشعه لها .
أخذت عيناه تُبحر فوق ملامحها التي أحتجزتها للحظات وقد بدت ساكنه لا حياة بها فقط شفتاها التي كانت تتمتم بخفوت مما جعله يقترب أكتر ليستمع إلي ما تقوله و هنا هبت نسائم رقيقه تحمل ريحًا عطره حملت خصلة هاربه من خصلات شعرها الاسود لتلفح وجهه بلطف و كأنها تعاتبه فشعر بإحساس غريب في داخله لا يعرف من أين جاء ؟
فقد كان كمن لا يريد تركها أبدًا يرغب بالنظر إليها مطولًا و كأنه عاجز عن إنتزاع عيناه عنها . و لكنه أستفاق فجأة من غمرة ذلك الشعور الغريب الذي أجتاحه كإعصار دام للحظات لينهر نفسه بشدة و ود لو يتخلص منها و يُلقيها من يداه و لكنها لم تكن في وعيها فتكالب عليه غضبه مع شعور عارمًا بالذنب فوجد نفسه يصرخ بصوت غاضب جريح
" حسااااااان "
هز صوته أرجاء المكان حولهم فوصل إلي مسامع فرح التي إرتعدت من ذلك الصوت و دب الرعب في أوصالها حين سمعت صوت حسان الذي إنتفض يقول بلهفه
" سليم بيه !"
بلمح البرق ترجلت من السيارة لتهرول إلي مكان شقيقتها و قلبها يتضرع إلي الله بألا يكون ذلك المجنون قد آذاها بشئ ! و قد إرتعب قلبها حين وجدته يمسكها بتلك الطريقه فأمتدت يدها لتنتزعها من بين يديه و خلفها حسان السائق و قد تناست وجوده و قالت صارخه
" أنت عملت فيها إيه ؟"
بدا كما لو أن حديثها لم يكن موجه إليه و أخذت عيناه تتابع يدها و هي تحاول أفاقتها إلي أن أستجابت لها أخيرًا و بدأت بفتح عيناها و كانت كمن تجاهد للإستيقاظ من غفوتها وفجأة أطلق تنهيده قويه خشنه لم يكن يعلم بأنها يحبسها داخل صدره . و إستدار علي عقبيه ينوي المغادرة ليأتيه صوت فرح الغاضب حين قالت
" لو شفتك بتقرب منها تاني مش هتعرف هعمل فيك إيه ؟"
لم يلتفت إليها و لكنه أبطأ خطواته قليلًا حين سمع صوتها المتعب و هي تقول برجاء
" سبيه يا فرح هو معمليش حاجه و لا يقدر أصلًا !"
ود لو يرجع و يوجه إليها صفعه مؤلمه علي حماقتها و لكن مهلًا سيأتي ذلك اليوم الذي ستدفع ثمن كل أخطاءها دفعه واحده و حينها لن يستطع أحد إيقافه ..
**************
أخيرًا وصلت السيارة أمام باب بوابه المزرعه الضخمه والتي أنفتحت بمجرد أن أطلق السائق صوت الزامور لتندفع السيارة إلي الداخل و قد كانت كجنه صُنِعت علي الأرض من شدة روعتها و لكن كان الخوف و الترقب يمنع الجميع من الإستمتاع بمظهرها و خاصةً عندما وصلوا إلي الباب الداخلي للقصر فوجدوا سالم و بجانبه سيده تبدو في العقد السادس من عمرها و قد فطنت فرح أنها والدته و هنا إمتدت يد جنة لا إراديًا تقبض علي يد شقيقتها التي ربتت بلطف علي كفها المرتعش في محاوله لبثها الأمان الذي تحتاجه .
توقفت السيارة أمامهم و ترجلت الفتاتان منها فوقعت عيناه علي تلك التي عاد مظهرها القديم إلي حالته و قد أغضبه هذا بشدة و لكنه لم يعلق بل مد يده يصافحها برسميه لم تخلو من ضغطه بسيطه علي كفها و قام بتعريفها علي والدته التي حيتها بتحفظ
" أهلًا بيكي "
ثم توجهت الأنظار لجنة التي كان مظهرهم يرهبهها كثيرًا و لكنها حاولت البقاء صامدة و هي تتوجه إليهم لتمتد يد تلك السيدة تصافحها بكفوف باردة و ملامح جامدة و التي لم تقل عنها لهجتها حين حيتها قائله
" حمد لله على سلامتك !"
لم تسنح الفرصه لجنة أن تُجيبها فجأة صدح صوت زامور سيارة من خلفهم فالتفتوا جميعًا لتتجمد جنة بصدمه حين شاهدت ذلك الشخص الذي ترجل من السيارة ووو
لقراءة جميع فصول الرواية من هنا