رواية في لهيبك أحترق
الفصل الخامس الثلاثون 35
بقلم شيماء يوسف
أبلغ عزيزاً فى ثنـايا القلـــــب منزلهُ
أني وإن كنـــــتُ لا ألـقاه ألقـــــــاه
وإن طَرفى مـوصــــــولٌ بـرؤيتـــــــهِ
وإن تبَاعــــــد عن سُـكنايَ سُكنــاه
يا ليته يَعلــــــم أني لــست أَذكــــره
وكيـــــــف أذكره إذ لــستُ أنســــاه
يا مـــــــن توهّم أنى لـــست أذكــره
والله يعلـــــــم أنى لــــست أنســــاه
إن غـــــاب عني فــالـرّوح مسكنــــه
من يسكن الروح كيف القلب ينساه؟
-علي بن الجهم.
يقال إن الخيبة الأولى هي الأكثر إيلامًا، ومن بعدها نتعاد، عن أي اعتياد يتحدثون والهزائم كلها تتساوي في مقدار الألم الذي يصيب صمام القلب، كقاتل محترف متمرس في مهنته، يطعن ولا يبالي فيدرك المنتصف مباشرةً، ثم يفر هاربًا تاركًا المطعون يصارع للبقاء حَيًّا، بينما تظل الندبة محفورة داخل أعماقنا إلى الأبد، وهكذا تستمر الانطفاءات في النيل من روحنا مرة تلو الأخرى حتى يتهتك جدار الروح ويتساقط كأوراق الخريف الذابلة، ولكن تلك المرة كانت الهزيمة أوعر وأشد!!، انسحب الدم من ملامحها تَدْرِيجِيًّا، بالتزامن مع وجع انتفض في كافة خلجاتها، وبارتجاف أصاب دواخلها، همست تسأله في نبرة خفيضة مرتعشة :
-(( يحيي.. أنت مش عارفني؟!... ))..
ناظرها مطولًا يتتبع لمعة مقلتيها في أسى ولسان حاله يُجيبها آني للروح إنكار رفيقتها، ناهيًا حالة التراجع التي خالطت نظراته الجامدة صوت غفران تقول بعد نظرة عابرة بينهم :
-(( علياء.. في حاجة مهمة مكنش ينفع أقولهالك على التليفون لازم تعرفيها ))..
استدارت على مصدر الصوت المجاور لها تتطلع إلى شقيقها الذي تحرك في الحال للوقوف بالقرب منها ومؤازرتها أولًا، قبل أن تتحرك وتسلط عدستيها فوق فم غفران التي وقفت تعض علي طارف شفتها السفلية هامسة في إشفاق :
-(( علياء يحيى عنده فقدان مؤق......... ))..
قاطع نبرتها التي آخذت في التذبذب صوت اندفاع باب الغرفة الخشبي، يليه ظهور جيداء تهتف مدعية السعادة :
-(( يحيى أنت بجد فقت.. الحمد لله أنا مصدقتش لما قالولي تحت في الاستقبال ))..
ضيق أجفانه فوقها محافظًا على نفس الجمود الكاسي ملامحه ولكن شتان ما بين إحساسه الداخلي بالمرأتين، بينما استأنفت غفران قولها دون إعارة حديث الزائرة أي أهمية :
-(( كنا بتقول إيه.. آه يا علياء يحيى الحمد لله مفيهوش أي حاجة عضوية.. بس للأسف لما فاق معرفنيش.. أخر حاجة فاكرها من سنة ٢٠١٥.. وقت ما كان بيدرس في فرنسا ))..
لمعت أعين من تستمع باهتمام إلى الحديث وقد تنبهت كافة حواسها، ثم رفعت رأسها تسألها في نبرة شامتة مقاربة للفحيح :
-(( قصدك أنه مش فاكر حادثة لارا؟! ))..
حركت غفران عدستيها من فوق وجهه علياء الشاحب تتيح لها الفرصة في استيعاب الصدمة إلى وجه الدخيلة الغير مرحب بها، بينما تحدث هو أخيرًا يقول في نبرة رجولية مرهقة متحاملًا على حالة الازدراء التي تعتريه من وجودها معه في نفس الغرفة، والأسوأ اضطراره التعاطي معها :
-(( أنا فاكر حادثة اختفاء لارا كويس.. من بعدها مش فاكر حاجة )).
عم الصمت المطبق أفواه الجميع كُلًّا يسبح في عالمه وأفكاره الفردية، وخاصةً تلك التي انزوت بجسدها إلى أحد الجوانب تفكر في استغلال الموقف وتفجير مفاجئتها الآن وقبل فوات الأوان.
في وقت سابق من نفس النهار.........
( توقفت قدم غفران عن الهرولة عند مدخل الغرفة وقد اكتملت الفكرة التي تراود عقلها منذ البارحة في مخيلتها، فإما الآن أو أبدًا، وعليه استدارت عائدة بجسدها إلى الراقد فوق الفراش تقول حرجة في تردد واضح ونبرة متراجعة :
-(( يحيى أنا عارفة أن اللي هقوله ده جنون.. وأنا نفسي مش واثقة من نتيجته بس محتاجة منك تمثل أنك فاقد الذاكرة قدام الكل وأولهم الدكتور ))..
لم يكن عقله عاد للعمل بكامل قوته في إلى الآن يعاني من ألم حاد في الرأس مع تشوش الرؤية وانعدام التركيز، ورغم ذلك تحامل على نفسه ليسألها مستنكرًا في خفوت وإرهاق جم :
-(( فاقد الذاكرة؟! ))..
زفرت مطولًا في حيرة بينما أرتفعت يدها إلى رأسها تفرك مؤخرة عنقها في تشتت وكأنها تعاني لإدخال الفكرة إلى رأسها قبل إقناعه بها، وبعد دقيقة من الصمت التام قالت في إصرار قاطع :
-(( ماحنا مقدمناش حل تاني.. أنا بقالي يومين عمالة أفكر أزاي هنخلص من شر أبو المجد لحد ما دماغي هتنفجر ))..
سحبت نفسًا طويلًا حتى امتلأت رئتيها بالهواء، ثم أردفت تقول في حزن :
-(( للأسف أنا مشيت ورا جيداء وراقبتها.. وطلع شكنا صح.. تاني يوم الحادثة بتاعتك راحت شركة المجد.. وبعد ساعة خرجوا هما الاتنين سوا وهما بيضحكوا ويهزروا.. يعني خطفها واللي حصلها تمثيلية.. يحيى فكر معايا بالعقل.. فقدانك الذاكرة انسب طريقة لكشف تورط جيداء ومنه هتريح نادر.. وهتوفرلك غطا حلو تتحرك تحته من غير ما حد منهم يحس.. أنت فرصتنا الوحيدة يا يحيي ))..
كان عقله مشوش بالكامل ويعاني من أثار المخدر مع ألم الجراحة، حتى كلماتها كانت تسبح من حوله كخيالات لم يلتقطها كاملة، وبالطبع كل ما كان يريده هو رؤية زوجته ثم العودة إلى النوم من جديد في سلام، ولكن من أين تأتيه الراحة والطعنة جاءته من أقرب ما له؟!، قاطع أفكاره صوت غفران تقول مستجدية في توسل :
-(( أنا عارفة أنك تعبان ومش حمل كل ده أبدًا.. بس اعذرني ده لمصلحتنا كلنا.. وعشان كده أنا هطلع دلوقتي أبلغ الدكتور بصحيانك وأتمنى تمثل قدامه أنك مش فاكرني وهيصدق لأنه بعد العملية حذرنا من فقدان مؤقت للذاكرة كعرض جانبي.. وحتى لو فكرت في الموضوع بعد ما فقت وركزت ولقيت نفسك مش مرتاح تقدر تتراجع في أي وقت.. بس أرجوك ساعدني نحمي حبايبنا قبل نفسنا...))........
عودة إلى الوقت الحالي........
انتهزت جيداء حالة التخبط التي أصابت الجميع من نبأ فقدانه الذاكرة، وخاصةً زوجته التي شحبت ملامحها وراح شقيقها يحتضنها ويخفف عنها صدمتها، كي تسأل في خبث ونبرة ممطوطة بعدما تلكأت عيناها فوق وجهه :
-(( يعني أنت مش فاكر أننا أطلقنا يا يحيي؟!.. ومش فاكر أنك ردتني بعدها بكام يوم وأني لسه مراتك ))..
أصابت كلماتها الهدف المطلوب إذ احتقنت ملامح يحيى حتى شعر بشعيرات عنقه الدموية على وشك الانفجار من شدة الغيظ، وانتفض جسد علياء من بين ذراع شقيقها في صدمة، بينما شهقت غفران عاليًا في عدم تصديق، في حين هتف جواد يسأل شرزًا :
-(( إيه التهريج اللي بيحصل ده؟!.. مراته مين وردك إزاي وأنتوا اساسًا جوازكم كان على ورق!! ))..
عضت فوق شفتيها متصنعة الخجل، ثم إجابته مبررة في كذب متعمدة التأني في نطق كلماتها :
-(( كان على ورق.. لحد ما في يوم يحيى زارني بعد خطف لارا بنتي وأنا وقتها كنت منهارة.. فلما قرب مني معرفتش..... ))..
تركت جملتها مفتوحة تاركة الخيالات تنهش قلب عالية الهمة، قبل أن تستطرد حبكّ كذبتها مضيفة في ثبات :
-(( وبعدها اتفقنا على الطلاق بطلب مني وفعلًا حصل.. بس بعد فترة قصيرة يحيى بعتلي جواب يقولي أنه ردني لعصمته.. ولحد دلوقتي أنا مراته وده اللي كنت عايزه اوضحه من الأول بس محدش عطاني فرصة ))..
حادت عيناه عنها ينظر إلى غفران الواقفة تتابع الموقف في غليان، يود لو يقفز الآن وينقض على عنقها لإتباعه نصيحتها، وبعد الانتهاء منها يعود إلى تلك الكاذبة وينتقم منها كيفما يصور له خياله الجامح، قاطعًا سيل أفكاره العنيفة جواد يقول في هدوء، رغم الاحتقان الكاسي ملامحه :
-(( حيث كدة احنا ملناش مكان هنا.. حمدلله على السلامة يا دكتور.. بعد اللي سمعناه مش محتاج أعرفك بينا أو أبلغك أن علياء زوجتك اللي طلبتها مني شخصيًا.. ولما تخف ان شاء الله هتشرفنا في بيتنا ننهي المتعلق بينا.. يلا يا علياء ))..
تلك المرة خانته تعابيره وجسده إذ تحرك مسرعًا من فوق الفراش يبتغي بذلك اعتراض طريقها في الرحيل، متفاجئًا بها تقول في شجاعة سمرت حركته :
-(( أنا آسفة يا جواد بس أنا مش هاجي معاك ))..
رفعت رأسها بكبرياء لا يليق سوي بإبنة الجنوب، ثم استطردت تقول في علياء :
-(( أنا كمان مراته ومن حقي أفضل معاه.. ع الأقل لحد ما يرجع لحالته الطبيعية.. دي الأصول ))..
***********************
ركضت خلفه تتبعه محاولة اللحاق به ومجاراة خطواته الواسعة العنيفة، بينما لسانها لا يتوقف عند ترديد اسمه مستجدية تعقله كي يسمعها ولكن هيهيات، فالغضب الكاسي ملامحه والغليان المستعر في خلاياه كان أعتى من أي شعور أخر متنامي قد يجبره على الوقوف إكرامًا له، ولم تكن هي بضعيفة الهمة، أو عاجزة التصرف لذا واصلت الجري من خلفه حتى خطا باب خروج المشفى ووصلا إلى باب سيارته، وقتها قفزت تجلس على مقدمتها قائلة في إصرار من بين أنفاسها الشبهة منقطعة:
-(( جواد أسمعني.. مش هتحرك ولا هسيبك تمشي غير لما تسمع عايزة أقوالك إيه ))..
ركل إطار السيارة بساقه في عنف اختض على أثره جسدها ورغم ذلك لم تتراجع بل على العكس، قفزت مرة ثانية تقف أمامه كحائل يفصل بينه وبين مقعد الركوب، كفارس يحاول ترويض حصانه الجامح، واضعة كفها فوق مقبض باب السائق تمنعه بذلك من الصعود، ومستأنفة توسلها إليه :
-(( متبقاش قفل ودماغك الصعيدي تركبك دلوقتي.. الموقف مش محتاج منك كل العصبية دي ))
صاح بها مهتاجًا في استنكار ومحاولًا دفع جسدها من أمامه :
-(( قفل!!.. ده واحد ضحك علينا وقالي أنه مجرد كتب كتاب وطلع كان متجوووز.. لا والهانم لسه على ذمته.. وبدل ما الغبية تحافظ على كرامتها اختارت تقعد جنبه زوجة تانية ))..
فاجئته بوضع كفها فوق ذراعه الممدود من خلف ظهرها في حذر لفتح باب السيارة ودفعها، يليه قولها في هدوء عكس البركان الثائر المتدفق داخل أوردته :
-(( لعلمك تصرف علياء كان صح الصح.. يا جواد معقول مفهمتش كل ده أنها بتحبه ))..
لمحت نظرة تعاطف لينة غشت عدستيه، ثم سرعان ما اختفت كشهاب خاطف، وعادت نظراته إلى سيرتها المشتعلة الأولى، بينما استطردت غفران تقول آمرة بعدما فتحت الباب بنفسها وجلست خلف المقود متمسكة به :
-(( أركب خلينا نتكلم زي الناس.. وبعدها قرر هتعمل إيه ))..
حرك رأسه يمينًا ويسارًا وضرب كفيه فوق بعضهم البعض في استسلام، قبل أن يتحرك إلى الجهة الأخرى وقد تراخت ملامحه وهدأت ثورته نسبيًا متخذًا من المقعد المجاور لها مجلسًا له، قائلًا في حدة :
-(( وأديني ركبت يكش تقولي اللي عايزه تقوليه وتحلي عني ))..
رفعت رأسها وشمخت بأنفها قائلة في كبرياء :
-(( مش هحل عنك.. أنت اتبليت بيا خلاص ))..
أجفل جسده واهتز جانب فمه في ارتفاع طفيف وتسمرت نظراته فوق جانب وجهها يكاد يُجزم بشعوره برجفة خاطفة أصابت مضغته من جملتها، بينما استطردت حديثها تسأله مازحة :
-(( مستعد؟.. متخافش بعرف أسوق كويس.. أينعم مجربتش في عربية غالية زي كده من قبل بس لو حصلها حاجة فدايا ))..
أومأ برأسه موافقًا في شرود ثم أشاح بوجهه إلى الطرف الآخر يتابع الطريق أمامه في صمت، فتلك المرأة بكل خصالها الغريبة المجتمعة بها أصبحت تصيبه بالحيرة والارتباك في كل مرة يقف أمامها، والأسوأ شعور عدم الأمان الذي أصبح يداهمه من وقت لأخر في حضرتها، وكأن الأرض أسفل قدميه لم تعد ثابتة كعادتها، وبعد فترة لا يستهان بها توقفت بالعربة إلى جانب أحد رصفان الشاطئ ثم عادت تقول في شيء من الهدوء والحميمية :
-(( لما بكون متعصبة زي حالاتك كده باجي هنا اشم ريحة البحر.. بيساعدني أهدى أعصابي وأفكر بهدوء ))..
تذكر مرتهم الأولى عندما شاركها صدمة معرفتها حملها، كانا يجلسان بالقرب من ذلك المكان، ثم تذكر أيضًا بعد حادثة فقدانها الجنين وفي أحد الأيام بعدما يأس في الوصول إليها حيث كانت تعتزل الجميع، وقتها لمحها مصادفة من داخل سيارته تجلس فوق المقعد الخشبي الموضوع أمام سور البحر كحائط صد يمنع أمواجه الثائرة من الخروج، وفجأة أدرك أن ذلك المكان أصبح ملاذهم السري، وأنه الوحيد الذي يشاركها خلوته وخصويته، مخرجه من غرابة ولذة اكتشافه صوتها الناعم تقول في دعة :
-(( أنا عارفه أنك متعصب وعندك حق.. بس لو فكرت في الأمر من نظرة تانية هتلاقي أنك المفرووض تفرح.. عشان علياء اتمسكت لأول مرة بجوزها عكس الشهور اللي فاتت وده لوحده إنجاز ويثبتلك قد إيه هي بتحبه مش زي ما كانت بتدعي.. غير أني متأكدة أن جيداء بتكدب على الكل وهي لا مراته ولا نيلة ))
تعمدت التوقف عن تلك الجملة وتركها تأخذ الصدى المطلوب بداخله ويقلبها داخل طيات عقله كيفما شاء قبل أن تُضيف، وبالفعل جاءها رد الفعل المنتظر منه إذ هتف يسأل مستنكرًا في حيرة وقد أختفت المسافة ما بين حاجبيه :
-(( بتكدب؟!.. في حد هيكدب في موضوع زي ده! ))..
قالت مؤكدة في ثقة :
-(( طبعًا بتكدب.. وبعدين مالك مستغرب ليه ومحدش عارف الحقيقة غير يحيى اللي مش فاكر حاجة وهي.. فطبيعي تكدب وهي متأكدة أن محدش هيراجعها.. غير أني واثقة في يحيى جدًا ومتسألنيش أزاي لأنى مش هقدر أجاوبك.. بس يكفي أني عارفة أنه مستحيل يعمل كده ويخبي عليكم حاجة زي دي.. مش ده طبعه وعمره ما هيكون ))..
صمتت قليلًا تطالعه وتنظر داخل مقلتيه تستبين منهما ما يجول داخله، ثم أردفت تقول في ضيق بعدما تنهدت :
-(( جواد.. جيداء تعرف أبو المجد وأنا متأكدة أنهم عملوا تمثيلية سوا عشان يجرجروا يحيى للي حصل كله ))..
أرتفعت نبرتها نسبيًا كأنها بذلك تمنعه من مقاطعتها أو الاعتراض أثناء اتباعها القول في إرهاق :
-(( وقبل ما تدافع هقولك أني راقبتها.. وشفتهم سوا وهما خارجين من شركته.. للأسف معنديش تفاصيل أكتر بس أنا بدور لحد ما أعرف كل حاجة.. وصدقني يا جواد وجود علياء دلوقتي جنب يحيى لحد ما نتأكد مهم جدًا.. مينفعش وهو في الظروف دي نسيبه لوحده مع جيداء ))..
تابعت ارتخاء ملامحه وانطفاء الغضب من عدستيه فأردفت تضيف أخيرًا في توسل :
-(( عشان خاطري لو بتثق فيا أسمع كلامي وأهدي وسبني أتصرف ))..
عاد الرفض يملأ محياه والتأهب يكسى جسده قائلًا في نبرة قاطعة :
-(( مفيش حاجة أسمها تتصرفي دي.. من هنا ورايح تعرفيني هتعملي أيه قبل ما تتحركي ))..
لمح التمرد في نظرتها فأردف ينهي الحديث محذرًا في إصرار والعنف يطل من مقلتيه في نبرة لم يحدثها بها من قبل :
-(( صدقيني يا غفران لو عرفت أنك خطيتي خطوة واحدة في قضية أبو المجد من غيري هتلاقي تصرف مني مش هيعجبك ))..
أرتعش جسدها من عدائية نبرته ووجدت رأسها يتحرك تلقائيًا في إذعان خانها به جسدها، غافلة عمن يقف على الطرف الآخر ويلتقط صورة فوتوغرافية لكل حركة تصدر منهم.
**********************
فى المشفى.....
ظلت تجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا بجسد متشنج تدعي الانشغال بترتيب الفراش من حوله تارة، والنظر داخل نشرات دوائه وأشعات جمجمته في تمعن تارة أخرى، ثم التحدث مع الممرضة والطبيب في كل تفتيش دوري لهم تارة أخيرة، بينما جلست شقراء الشعر فوق الفراش الأخر في أريحية شديدة تعبث بهاتفها وتتصفح مواقع التواصل الاجتماعي في لا مبالاة وتجاهل واضح للحالة العصبية التي تمر بها غريمتها، ولم لا وقد وصلت إلى غايتها وحققت هدفها بمنتهى السهولة، في حين اضطجع ثالثهم في فراشه يتابع حركتها من حوله مقاومًا النعاس الغاشي عدستيه وقد فاق شوقه مراقبتها أي شعور أخر حل بجسده، لذا وعلى الرغم من الألم الذي يكاد يشق رأسه نصفين من شدته لم يستسلم لسلطان النوم وإغراء الراحة بل راح يتأملها في شغف مستمتعًا بنظراتها المشتعلة التي ترمقه بها في كل التقاء عابر لأعينهما، لا يكاد يصدق أن تلك الصغيرة المتمردة اختارته بكامل إرادتها الحرة بعد سبعة أشهر من المطاردة والتوسل، حقًا فضلته على الجميع!، فقط لو تعلم كم يبعث ذلك الشعور السرور على قلبه، وما زاد من سعادته هي نظرة الفخر التي لا تبارح مقلتيها، وقد تبدلت نظراتها من التذبذب والتراجع إلى القوة والتحدي، وكأنه غاب عنها لسنوات وليس لثلاث لَيَالٍ، كل ما كان ينقصهم هو التخلص من ذات النظرة المخادعة والتمتع بأحضان حليلته الحقيقة بعيدًا عن الأعين المتطفلة، وعلى عكس غليانه منذ ساعات مضت وجد عقله يستسيغ طلب غفران ويوافقه، بل ويكاد يشكرها على فكرتها التي أتاحت له الفرصة في رؤية علياء الهمة تتمسك به، شعور لا يضاهيه شعور، وكأنه يمسك السماء بين يديه، وبعد فترة من الصمت كانت جيداء هي أول من قطعته قائلة في تأفف :
-(( أنا هنزل أمشي رجلي شوية واشرب حاجة سخنة بدل القاعدة دي.. حد محتاج حاجة؟! ))
تظاهر يحيى بعدم استماعه لها حتى لا يضطر إلى إجابتها، بينما حركت علياء رأسها رافضة في اقتضاب، ثم أخذت تتابع في امتعاض سير الشقراء أمامها وقد بالغت في المشي بشكل أنثوي يفيض بالإغراء، حتى اختفت من أمام ناظريها وقتها فاجئته تسأل في شرود :
-(( شبهي صح؟! ))..
رفع رأسه في حدة وقد باغتته بسؤالها الغريب الذي نطقت به في بساطة، قبل أن تتوجه نحوه وتجلس على حافة الفراش وتقابله بجسدها، واضعة كلا كفيها أسفل فخذيها وضاغطه فوق شفتيها في تفكر، مستأنفة تمتمتها الخافتة كأنها تتحدث إلى نفسها أقرب من التحدث إليه :
-(( حتى لون العيون قريبة.. تفتكر لو صبغت شعري اللون ده هنبقى واحد؟! ))..
ارتفعت ذراعها تلقائي إلى خصلات شعرها الملساء تمسدها في ترو، بينما قال هو في حذر، يشعر وكأنه يسير داخل حقل ألغام وضعته هي بنفسها وعليه الخطى بتأني حتى لا يدفع حياته ثمنًا لتهوره :
-(( معتقدش.. أنتِ حلوة زي مانتي ))..
حركت رأسها موافقة في هوادة، ثم قالت بعدما رفعت عينيها إليه وتعلقت بزمردتيه الحائرة :
-(( عندك حق.. أنا فعلًا حلوة زي ما أنا ))..
لم تكن نبرتها تحمل أيًا من علامات السخرية بين طياتها كما ظن في بادئ الأمر، حتى نظراتها كانت تنضح بالثقة وتشع بحب الذات، وكأنها تقبلت وتيقنت أخيرًا من حقيقة جمالها الناعم الذي لا يشوبه شائبة، ورغم ذلك لم تتوقف عن الاستفسارات إذ واصلت القول بنفس النبرة المفكرة :
-(( يا ترى أخترتني عشان شبهها، ولا أنقذتها عشان شبههي ))..
انفرج ثغرها بابتسامة واسعة ولامست بأحد أناملها محبس الزواج الخاص بهم، ثم أردفت تقول في حيرة يشوبها بعض الإحباط :
-(( بما أنك فاقد الذاكرة.. ومش فاكر حاجة عني.. اعتقد ده سؤال مش هنعرف اجابته أبدًا ))..
رفعت رأسها تنظر إليه مرةً أخرى بعدسات تلمع حماسة ولمحة من الغموض، قبل أن تقول وكأنها تحاصره بالكلمات فتصيبه بحالة من التوتر هو، العالم بكافة الالاعيب وخبايا النفس البشرية، وكأنه الأدوار قد تبدلت وصار هو مريض مشتت الفكر، مذبذب الأفعال وهي مرشدته :
-(( أو يمكن نعرف ))..
كان مرهقًا إلى أقصى درجة ممكنة، ولم يكن قد استعاد حتى ربع قوته وطاقته، ناهيه عن تشوش الرؤية وألم الرأس الذي يزداد مع مرور الدقائق فيحرمه من لذة مسايرتها وتحليل لغة جسدها وأسئلتها، أو حتى الاستماع إلى صوتها دون تلك المطارق التي تدق جوانب صدغه وتعتصر جوانبه، فقط كل ما يعرفه أن علياءه لم تعد بعلياءه، كل ذلك التقهقر والاستسلام اختفى إلى غير رجعة، وحل محله الإصرار والعزيمة وقبلهم الثقة بالنفس، وكان موقفها في الصباح أمام شقيقها ووقوفها أمامه تدافع عن رغبتها وتتحمل ثورته بذقن مرفوع خير دليل على ما يقوله، بينما شردت هي بنظرها إلى نقطة ما فوق كتفه، تعيد أحداث الصباح داخل عقلها، وتفكر في استنكار كيف تقبلت وجود زوجة أخرى في حياته تشاركها به، ولم لم تنهي كل ما بينهم وترحل يدًا بيد إلى جانب شقيقها فور طلبه، كل ما كانت تعرفه أنها أرادت المحاربة، وكأن هناك أخرى داخلها استنهضت فورًا ووقفت تحارب وتطالب بحقها المشروع به، على الأقل إن خسرت، يكفيها شرف المحاولة، ومع تنهيدة ألم فلتت من شفتيه سارعت بالوقوف والانحناء بجذعها نحوه تساعده على الاستلقاء بجسده فوق الفراش وقد أعياه الألم وأخذ منه مأخذه، قبل أن يتذكر هاتفه، فسألها مستفسرًا في حذر :
-(( أنا أكيد معايا تليفون صح؟!.. يعني قصدي ممكن لما أفتحه يساعدني أفتكر حاجة ))
ضغطت فوق شفتيها بقوة ثم أجابته معتذرة على مضض :
-(( أحم.. بصراحة عايزة أقولك حاجة.. أنت فعلًا كان معاك تليفون والاستقبال سلمهولي تحت مع باقي هدومك.. بس للأسف من النهاردة الصبح اختفي.. عمالة أدور عليه في كل مكان مش لاقياه ))..
قال يطمئنها في حنو، بينما يده تحتضن كفها الدافئ :
-(( فداكي يا عالية ))..
تسمرت نظراتها فوقه فور سماعها أسمها المدلل منه كما اعتاد مناداتها قبل هتافها تسأله في لهفة مع تهدج صوتها في أخر كلمة :
-(( أنت فاكر ؟! ))..
رفع ذراعه يمسد بسبابته عنقها في حركة محببة إليها تذكرتها على الفور حيث أعادت إلي ذاكرتها الحية أخر تقارب بينهم، قبل أن يقاطعهم ليلتها استنجاد قريبته، أو "زوجته الحالية" إن أعطت للأشياء مسمياتها الصحيحة، فدفعت يده في حدة ترفض لمسته وكأن سيرة منافستها زر تنبيه، بمجرد صدحه داخل عقلها عاد غضبها الكامن منه يندفع إلى السطح من جديد، فيبدو أن طريق محاربتها وعر للغاية، وواهمة لو ظنته ممهد بالورود.
*************************************
كان صوتها بالنسبة إليه كترنيمة سلام، تشدو فوق أشجان روحه فتزهر، كما الأرض بعد الغمام.
استند بجذعه على حافة إطار مدخل المطبخ دون الإعلان عن نفسه، منتهزًا فرصة أنشغالها عنه بالحركة المفرطة أثناء تحضيرها الطعام فلم تنتبه لحضوره في مراقبتها، تتتبع عيناه خطاها أينما حلت قدماها، وخفقاته تتعالى مع كل حركة وميلة عفوية منها صارخة خلاياه اعترافًا بسلطانها على قلبه وهواها، وبعد فترة من تشرب عيناه محياها، لاحظت خيالًا يلقى بظله الطويل على الحائط المقابل لها، فسارعت تلتفت متتبعة مصدره حتى رأته يقف هناك في كسل شديد، ونظراته تلتهمها شوقًا، وقتها هتفت تعاتبه في لين :
-(( طاهر أنت جيت أمتي؟!.. وبعدين قول أي حاجة بدل ما أتخض كده ))..
ببطء شديد أبتعد بجسده عن الإطار الخشبي وانتصب في وقفته ثم بدأ يتقدم نحوها، قائلًا في صوت أجش ونبرة ثقيلة، بينما عيناه لا تحيد عن جسدها بذلك الرداء القطني الخفيف ذو الأكمام القصيرة وفتحة العنق المنخفضة نِسْبِيًّا على غير العادة، أما عن تميمته السحرية فقد رفعته لأعلى على هيئة كعكة بسيطة وتركت عن عمد بعض خصلاته تداعب أسفل عنقها بمقدمة كتفها :
-(( يعني هي دي حمدلله على السلامة اللي المفروض تقابليني بيه بعد يوم طويل شغل ولف وأنا تعبان ))..
توقف خلفها وشابك كلا ذراعيه حول خصرها، ثم أردف يقول وأنفاسه الحارة تهبط على عنقها :
-(( مش كفاية طول اليوم من الشغل لجواد لعلياء لمصطفى ))..
تحولت نبرته إلى السخرية وهو يضيف في تعجب :
-(( ومعرفش ليه حاسس أن أخوكي مش طايقني.. عديت عليه بعد الشغل أشوف لو محتاج حاجة زي ما اتفقنا صمم مساعدهوش.. وقالي هينقل حاجته من بيت غفران واحدة واحدة من غير ما يحتاج لحد ))
سارع بانتهاز الفرصة ولثم ثغرها فور استدارتها بوجهها جانبًا لمطالعته، ولمفاجئته لم تتهرب أو تتراجع مثل الأيام السابقة، بل شاركته قبلته البسيطة الخاطفة بقدر ما تعلمته منه في اليومين الماضيين في تلقائية قبل أن تسأله في حزن رغم رقة صوتها البالغة وقد أنساها اعترافه بألمه أي حديث آخر :
-(( لسه تعبان؟! ))..
تنهد في حرقة واشتياق ثم قال بعدما شدد من حصار ذراعيه حولها واستند بذقنه فوق كتفها :
-(( تعبان.. بس كدة بكون أحسن ))..
تراقصت ابتسامة سعادة خفيفة فوق فمها، بالتزامن مع تراقص قلبها بين ضلوعها، قائلة في اعتراض واهن وقد عاد خجلها الفطري منه للسيطرة على ردات فعلها وجسدها :
-(( طب كدة هتحرك عشان أتابع الأكل أزاي ؟!.. ))..
تمتم قائلًا في بساطة رغم مشاكسة نظراته المخفية عنها :
-(( مش لازم تتابعيه ))..
هتفت معترضة في قلق :
-(( طب ولما يتحرق وأنت أكيد راجع من برة جعان ))..
شعرت بعضلات جسده تتوتر من حولها، قبل أن تفلت من شفتيها تأوه خفيف عندما شدها إليه أكثر يريد دفنها بداخل صدره غير عابئًا بألم أضلعه الذي راح يعلن عن نفسه في تذكرة وطلب واضح للتريث، ثم قال بصوت خفيض مبحوح أتاها من داخل طيات عنقها حيث دفن وجهه داخله :
-(( أنا أكتر بكتير من جعان ))..
أزداد توترها وأخذ قلبها يقرع داخل صدرها، شاعرة بارتفاع حرارة الغرفة من حولها، ثم همست تقول في ارتباك :
-(( احم.. طب عملت إيه مع مصطفى وعلياء عاملة إيه؟! ))..
رفع وجهه يناظرها ويلثم جانب ثغرها من جديد في نهم. فإن كان محرومًا من قربها الكامل لن يتنازل عن التقرب منها حتى تعتاد على قربه ولمساته، ثم قال بعد أن أتخذ وقته كاملًا في تمرير شفاه فوق بشرتها الناعمة متشربًا رحيقها :
-(( علياء كويسة.. زي ما بلغتك على التليفون يحيى فاق.. رغم أنه مش فاكر أي حد غير قريبته.. بس المهم أنه فاق وهي قررت تفضل جنبه لحد ما يبقى كويس.. والدكتور كمان قال أحتمال كبير يكون فقدان مؤقت.. أما أخوكي فرافض مساعدتي في كل حاجة ))..
استدارت بجسدها تقابله عند اختصاصه شقيقها بالذكر بتلك النبرة الطفولية وكأنه يشكوه إليها، ثم قالت معتذرة :
-(( أنا أسفة لو مصطفى ضايقك بأي حاجة.. بس هو لدلوقتى لسه فاكـــر.... ))..
مطت كلمتها الأخيرة ثم تركتها ناقصة، متيحة المجال لعقله في تكملتها نيابة عنها، فبادر يقول في تفهم :
-(( مصطفى لسه صغير وأنا فاهم موقفه ))..
قرب شفتيه من فمها، تاركًا أنفاسه الحارة تختلط بأنفاسها، قبل أن يضيف مغازلًا :
-(( أنا لو عندي أخت حلوة كده.. مش هسيب حد يخطفها مني أبدًا ))
عقبت وابتسامتها الخجولة تزداد اتساعًا فوق شفاها، بينما مقلتيها تتحرك في كل مكان هربًا من تأثير نظراته الوقحة التي تتوزع بين ثغرها وعيناها :
-(( يعني أنت معترف أنك خطفتني ))..
يا ويل قلبه من بسمتها وربكتها، من خصلتها المنسدلة على طارف جفنها ومن رمشها الساقط مُسْتَقِرًّا فوق منتصف خدها، بل يا ويله كله عندما تحين لحظة قربهم ووصالها، جمع طاق إليه قلبه منذ أشهر، وبتنهيدة حارقة لا تساوي عشر مقدار الحمم المشتعلة في دمه، قال مصححًا :
-(( ده أنا اللي اختطفت.. ولحد دلوقتي مش لاقى مرسي ))..
تلألأت عينيها بنظرات الحب، كما تزين المجرة المعتمة النجوم اللامعة، ثم قالت ببطء وبنبرة اخترقت صدره :
-(( مرسلك هنا ))..
أشارت بعد النطق جملتها حيث موضع نبضها، فارتفعت كفه تشاغل بعض خصلاتها المنسدلة عندما أحنت رأسه أسفل هاربة منه من اشتعال نظراته، ثم سرعان ما شعرت بشفتيه عند نحرها صعودًا إلى أذنها، قبل أن يقول بهمس خشن محمل بألم الاشتياق :
-(( أنا صبري معاكي قليل.. والله أعلم هينتهي أمتي ))..
شهقت خجلة في خفوت، ثم قالت هاربة، بعدما هرولت مبتعدة عنه :
-(( الأكل هيتحرق ))..
تمتم عاجزًا ومتابعًا ابتعادها عنه بقلة حيلة :
-(( صدقيني أنا اللي بتحرق ))..
****************************
داخل مقر شركة المجد...
جلس خلف مكتبه يراجع في حيرة المستندات الواقعة تحت يديه، فها قد مرت ٤ أيام على استيلائه عليها ولازال يشعر بغرابتها في كل مرة يعاود قراءتها وذلك الهتاف بداخله لا ينفك يخبره بوجود نقص ما، يكاد يجزم بتلاعب ذلك الطبيب به رغم منطقية الأوراق، تنهيدة حسرة حارقة خرجت من داخل جوفه المغتاظ، أجبرت مساعده ومن يجلس قبالته يتفحص معه الأوراق على رفع عينيه وسؤاله في قلق :
-(الباشا ماله؟!.. شكلك يقول مش مرتاح ))..
بعثر الأوراق من أمامه في غل، قبل أن يقول عاجزًا وهو يعود ويتكىء بجذعه فوق مقعده :
-(( مش عارف يا خليل.. بس الأوراق دي ناقصه ))..
هتف مساعده وخادمه الأمين، رفيق ضيق الحال والأيام الصعاب يسأله في استنكار :
-(( ناقصة أزاي يا نادر بيه.. ده هو سلمها للرجالة بنفسه وقت حوار الخطف.. يبقي أزاي ناقصه بس؟! ))..
هتف الأخر يجيبه في حنق بعدما أخرج أحد سجائره المعتادة ودفعها داخل فمه :
-(( متبقاش غبي.. هو لو عطانا حاجة ناقصه هنعرف منين واحنا أصلًا منعرفش هما وصلوا لأيه!!.. بس ربنا ميزنا بالعقل واللي جوة الورق ده عبيط ميخلهمش يكونوا واثقين من نفسهم كده.. لأنه ببساطة مش هيوصلهم لحاجة ))..
حك مساعده جانب وجهه بمؤخرة عنقه، يحرك رأسه وكأنه يقلب الحديث داخله، ثم أردف يسأل في قلة حيلة :
-(( طب والعمل؟!.. هنفضل كده تايهين؟.. لازم نتأكد عشان نطمن ونرجع نلتفت لشغلنا))..
أجابه الأخير بشيء من الارتياح :
-(( الحل مع جيداء.. بتقول أنه فقد الذاكرة والدكتور أكد ده.. يعني مش هياخد حذره مننا.. وخصوصًا من بنت خاله.. مهمتها هي بقي تدخل تعرف لو في أوراق تانية مستخبية هنا ولا هنا.. أنا متأكد أنه مخبيها بنفسه مش مع الست الافوكاتووو ))..
قاطع انغماسهم في الحديث والتفكير دخول سكرتيرته الخاصة تقول في وقار وهي تضع مغلف أبيض أمامه فوق طاولة مكتبه :
-(( نادر بيه.. الظرف ده لسه واصل لحضرتك ))..
صرفها بحركة نفاذ صبر من يده قبل أن يمزق المغلف مغمغمًا في ترقب :
-(( دي المفروض صور مراقبة الهانم النهاردة.. خلينا نشوف فيها حاجة مفيدة زي ما بلغوني على التليفون ولا ))..
تألقت عدستاه وازاداد التماعهما مع كل صورة فوتوغرافية يمرر مقلتيه فوقها، يتابع في انتصار إحدى الصور وهي تركض خلف رجل طويل القامة، وواحدة وهي تقف على بعد خطوة واحدة منه وترمقه بنظرة متوسلة، وأخرى وهي تضع كفها فوق ذراعه في مشهد شبهه حميمي، وأخيرة وهما يجلسان داخل العربة بجوار أحد الشواطئ، وبعد الانتهاء من مشاهدة الصور مرة تلو الأخرى، هتف يقول في حقد :
-(( والله ووقعتي تحت أيدي يا غفران ال*****.. ده أنا هعرفك أن الله حق وأخليكي تيجي تتحايلي عليا أرحمه بس تحلى عني.. صبرك عليا ))