رواية في لهيبك أحترق الفصل الخامس الأربعون 45 والاخير بقلم شيماء يوسف

               

رواية في لهيبك أحترق 
الفصل الخامس الأربعون 45 والاخير 
بقلم شيماء يوسف



مُزِجَت روحُكَ في روحي كَما
تُمزَجُ الخَمرَةُ بِالماءِ الزُلالِ
فَإِذا مَسَّكَ شَيءٌ مَسَّني
فَإِذا أَنتَ أَنا في كُلِّ حالِ
-الحلاج

يقول أحد الشعراء... "لا يصح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا".....
"يا أنا"... هكذا قال قيس لـ ليلى، وهكذا يصف الصوفيين الحبيب... فـ "الأنا" دلالة عميقة على ما لا نبوح به من مشاعر ومذاقات الحب، فإذا قال المُحب لمحبوبه يا "أنا"... فإنها تشير فيما تُشير إلى الفناء به، والذوبان، التتُيم، الفتون، والتوهان....
فلا حدود للمحب في عشق المحبوب، كما أن الحب الصادق ليس به رتابة ولا تكرار، بل هو غرق في غرق، وسفر في سفر، واكتشاف يليه اكتشاف، يفنى فيه المحب وجوده ووجده ووجدانه فداءًا لعين المحبوب التي بسحر لقاءها يحلو كل مر.....
وليست "يا أنا" هنا تعبر عن الذات الأنانية بشكلها المعروف المرفوض، بل هي في تفسير أهل العشق والتصوف نداء سامي، فما بين حرف النداء "يا" و"الأنا" التي تلحق به مسافة خاصة، ينصهر بداخلها الأنا " كناية عن المحب"، وآناها "أي المحبوب" بلا حد أو قيد....
لذا كان أعظم تفسير لنداء "يا أنا"... هو أن" الأنا" تستجدي" أناها" الساكنة داخلها والممتزجة بها.
رفع الطبيب ذراعه كي يربت على كتفه مواسيًا، ثم أردف يقول آمرًا في عملية معتادة من كثرة معايشته للمواقف المشابهة :
-(( مدام أفنان نزفت كتير جدًا ووضع الرحم من أسوأ ما يكون.. محتاجين تدخل جراحي فوري عشان ننقذه.. ودلوقتي محتاج منك موافقة كتابية على العملية عشان نبدأ فورًا.. وبعدها هبعتلك ممرض يرشدك للمعمل تحت.. عايزك تعمل فحص متقدم شويه نعرف منه سبب الإجهاض المتكرر.. معلش هو هكون مكلف عن العادي بس أنا لازم أعمل فحص كامل لجينات حضرتك وللمدام أفهم بيهم السبب.. دي خطوة محبتش أعملها من البداية بس بعد اللي حصل أظن أنها ضرورية ))..
حرك رأسه موافقًا قبل أن يسير في تيه، يترنح بجسده هنا وهناك داخل الرواق على أهواء الممرض الذي حضر في الحال ليرشده الطريق، فكان كالعاجز، أينما يوجهه الرجل يسير بلا مقاومة أو رفض.
**************************
يقول الشافي... "الدهر يومان ذا أمن وذا خطر..... والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر".
كلمات لو تأملها العاقل لحفظ نفسه من أهوال المستقبل، ولكنها النفس البشرية، وما أدراك ما النفس البشرية، كانت ولاتزال العدو الأول للإنسان، وإن لم تجد من يُذكرها بالخير الكامن بها، غلبتها الأمارة بالسوء ومالت به إلى طريق الهلاك!.
حرك ساقيه في عصبية شديدة، بينما هو جالس داخل غرفة وكيل النيابة يتابع بعينان كالصقر كل حركة تصدر عن المحامي الخاص به، وكلما تعمق في تفرسه أكثر، كلما ازدادت الشكوك بداخله، فأنفه بعد كل تلك السنون من التعامل مع الأشرار تستطيع شم رائحة الخيانة من على بعد أمتار؛ لذا تحدث يسأل في احتقار :
-(( بعتني بكام ليه يا نعيم؟!! ))..
رفع المحامي ذراعه يمسح من فوق جبهته بضعة قطرات عرق وهمية، ربما يُخفي خلف فعلته تلك بعضً من الارتباك الذي أعتلي قسماته، وظهر واضحًا في نبرته عندما تحدث يُنفي عن نفسه التهمة، قائلًا في تعلثم واضح :
-(( هبيعك لمين بس يا نادر باشا.. أنت عارفني أهم حاجة عندي مصلحتك ))..
ضرب نادر سطح المكتب براحة يده في عنف أجفل على أثره جسد الخائن الجالس أمامه متشنجًا، ثم قال بحزم بعدما أنتصب في وقفته :
-(( وأنا اللي عندي قلته.. بلغ اللي اشتراك قدامه ٤٨ ساعة يخرجني فيهم من هنا وألا....... قسمًا بالله هجيب سيرته هو واللي أكبر منه وكله بالفيديوهات وعلى عينك يا تاجر.. أنا قلتها من قبل لو وقعت مش هقع لوحدي ))..
أنهى تهديده، ثم صاح يستدعي المجند المسؤول عن حراسته ويطلب منه إعادته إلى زنزانته الخاصة، حيث استطاع الحصول على زنزانة مرفهة بالمال كما هي العادة، بينما تابع المحامي بأجفان مرتجفة انسحاب موكله، وبعد أن اطمئن وتأكد من ذهابه، أخرج هاتفه يبتغي بذلك التواصل مع من أرسله، هاتفًا فور سماعه الإجابة من الطرف الآخر :
-(( مصمم على رأيه يا باشا.. معرفتش أقنعه يسكت بالفلوس.. وفهم أني معاك فبعتلك على لساني رسالة.. بيقول لحضرتك قدامك مهلة ٤٨ ساعة.. يا تخرجه من الحبس يا أما هينشر فيديوهاتك مع البت إياها وفيديوهات الناس الكبار )).
هتف الرجل ذو المكانة العالية، متسائلًا في عصبية فالمسؤولية كاملة تقع على عاتقه :
-(( يعني إيه مرداش!!.. هى وصلت الكلب ده يهددني كمان!.. بقولك إيه نفذ الخطة البديلة على طول متضيعش وقت ))..
سأله المحامي مماطلًا في نبرة مرتجفة، وقد هاله ما هو مُقدم عليه ومشارك به للمرة الأولى في حياته :
-(( يعني إيه؟! ))..
هدر به عضو مجلس الشعب المرموق مُعنفًا :
-(( أنت لسه هتسألني يعني إيه وتستغبى!!.. مادام مش راضي يسكت بالفلوس.. نكتم نفسه خالص.. بلغ الراجل اللي دخلناه معاه السجن من كام يوم ينفذ ويخلصنا.. وزي ما قلت.. عايزها تبان انتحار.. وبلغه الفلوس هتكون في حسابه على أخر اليوم.. مقدم يعني ))..

**************************

طالما كان الانتظار مؤلم، وخاصةً عندما يتعلق بشيء مصيري في الحياة، فكما قال أجدادنا... الأنتظار يشبه الجلوس على صفيح ساخن ".
شهيق دون زفير، يتبعه بعد لحظات من تبديل نظراته بين والدته الجالسة كالأسد المرابط من جهة، وفريستها المضجعة فوق فراش المشفى في الجهة الأخرى، زفير أخر دون شهيق وهكذا.....
استمر حاله لمدة يومين كاملين، يقف في المنتصف كحائط صد ضد بركان غضب والدته الثائر في أعينها، على أهبة الاستعداد للتحرك في أي لحظة وحماية زوجته من صب جام حنقها عليها، ناهيه عن بكاء رفيقته المستمر ونحيبها كلما ألقت والدته ببعض العبارات المؤذية على مسامعها، وما بين ذلك وذاك، يترقب في لهفة استلام نتائج الفحوصات التي طلبها الطبيب منه قبل أمس، خصوصًا بعد ظهور نتيجة فحوصات شريكته هذا الصباح وقد جاءت جميعها سلبية، الأمر الذي لم يمنع والدته من الهتاف في سخط مستفسرة :
-(( وأنت يا حبيبي هتفضل قاعد في المستشفى دي كتير وكل يوم بالشيء الفلاني؟!.. كفاية مصاريف لحد كده خلاص عرفنا أنها كويسه ومعندهاش موانع وربنا ستر.. يمكن العيب من عندي أنا!.. عمتًا لما الدكتور يجي أسأله صراحة ينفع تكمل علاجها في البيت ولا لأ.. كتر خيرك كفاية وجع قلب.. مش هيبقى وجع قلب وفلوس كمان!! ))..
فرك جبهته في عصبية بعد أن زفر حانقًا، ثم قال في عدائية واضحة :
-(( مصاريف إيه يا أمي بس اللي بتتكلمي فيها دي.. المهم أفنان تقوم بالسلامة ونطمن عليها.. وإن شاء الله ربنا هيعوض علينا.. يمكن وقت الفرح لسه مجاش ))..
حركت والدته زوايا فمها يمينًا ويسارًا في استهجان، قبل أن تتشدق ساخرة :
-(( عوض إيه يا أخويا ما الجواب بيبان من عنوانه.. لو كان هيحصل كان حصل.. يلا خير خليها قاعدة تحب فيك وتحب فيها مش ممانعة.. بس بعد التحاليل بتاعتك ما تطلع هتصرف أنا بمعرفتي خلاص أنا استويت.. واديك سمعت بودنك الدكتور بعد العملية قال إيه.. الرحم حالته صعبة وصعب أنها تحمل قبل سنتين قدام.. مين عنده صبر يستنى! ))..
كانت تتحدث في اريحية وببساطة دون مراعاة للشعور وكأن المعنية بحديثها لا ترقد أمامها واعية وقد خرجت للتو من عملية حرجة أوشكت بها على فقدان رحمها!....
وقبل أن يصدر عنها رد فعل معادي تعبر به عما يجول بخاطرها، دلف الطبيب المتولي أمر رعايتها الغرفة، موجهًا حديثه مباشرةً إلى "بدر"، بينما يده تقبض على مغلف أبيض كبير :
-(( أستاذ بدر بعد إذنك ينفع نتكلم سوا شويه لوحدنا.. عندي كام سؤال محتاج أعرف إجابتهم منك ))..
هوي قلبه أرضًا فور سماعه نبرة الطبيب الجدية الجامدة، بينما هتفت والدته معترضة بعدما انتفضت من مقعدها واقفة وقد تشنجت كافة عضلات جسدها :
-(( يروح فين يا دكتور.. أنا والدته.. أتكلم قدامي عادي ))..
حرك الطبيب رأسه في نفاد صبر، حيث لاقى هو الأخر الآمرين من حديث واعتراضات وتدخل تلك السيدة في عمله مُذ وصولها، ثم سأله في جدية :
-(( أستاذ بدر.. هل حد من الأطباء السابقين اللي تابع حالة مدام أفنان طلب منك قبل كده التحاليل دي؟! ))..
أجابه بعدما ازدرد لعابه في قوة، وكأن هناك حجر عثر يحول دون سلكان ريقه لطريقه المعتاد :
-(( لا.. أول مرة الدكتورة معملتش أي حاجة غير عملية الإجهاض وبعدها ماتبعناش معاها تاني.. والمرة اللي فاتت لما وصلنا المستشفى بالجنين متوفي قالوا إن السبب ولادة قبل الميعاد وبرضه محدش طلب مننا أي تحاليل أو فحوصات غير تحليل عادية.. اهتمامهم الأكبر كان بأفنان.. لكن الفحص اللي حضرتك طلبته ده أول مرة أسمع عنه أساسًا ))..
حرك الطبيب رأسه متفهمًا، ثم قال علي مضض :
-(( فعلًا الفحص ده متقدم ولسه مُكتشف من فترة قصيرة.. قبل كده كنا بنعتمد على التحليل العادي زي ما قلت من شويه.. بس للأسف يا أستاذ بدر الطريقة التقليدية ممكن تبقى مضللة ومتظهرش المشكلة زي ما حصل مع حضرتك بالظبط.. يؤسفني أبلغك أن نتيجة فحص مادة "اليوبيكويتيين UBIQUITIN " عندي مطلعة نسبة تشوهات ما تقارب ال٩٩.٩٪.. ومعاها طبيعي جدًا حدوث الإجهاض.. أساسًا حمل المدام منك كذا مرة ورا بعض ووصوله للمرحلة دي في حد ذاته يعتبر معجزة ))..
سقط الخبر على رأسه كالصاعقة، حتى أن الأرض مادت به أسفل قدميه وقد فقد القدرة على التعقيب، بينما هتفت والدته تُنفي مستنكرة في صدمة :
-(( تشوهات إيه وتخاريف إيه اللي بتقولها يا دكتور!!.. أنا أبني زي الفل.. تقولي معجزة ومعرفش إيه!!... طب على فكرة تحليلك اللي غلط.. لأن اللي أنت متعرفهوش أن بدر كان متجوز من قبل وطليقته عملت حقن مجهري كذا مرة وحملت.. يعني لو كان عنده حاجة كانت ظهرت!.. لا احنا كفاية علينا قعاد هنا ونشوف لنا دكتور تاني.. يلا يا أفنان قومي اتحركي!.. يلا يا بدر واقف عندك مستني إيه!!! ))..
كانت كلماتها الأخيرة تتخذ منحني تصاعدي نحو الصراخ، خاصةً وقد مدت كفها نحو ساعد وحيدها تدفعه وتحثه على التحرك، فوجد الطبيب نفسه يتعاطف معها تِلْقَائِيًّا رغم سخطه على أفعالها، وعليه تساءل مهاودًا إياها :
-(( وهل في أي عملية منهم نجحت؟!.. هل الأستاذ بدر عنده أي أطفال؟! ))..
أجابته ناهرة في نبرة شبهه هيستيرية، بينما حرك بدر رأسه نافيًا في انهزام :
-(( لا أنا مش هاخد وادي معاك في الكلام.. يلا يا بدر من هنا بقولك ))..
مرر الطبيب نظراته بين الواقف أمامه كالثمال الحجري لا شيء يعمل به سوي رمشة عيناه، وبين زوجته التي تحركت داخل فراشها تجلس في وضع أكثر تأهبًا، وقد شعر أن من واجبه توضيح الصورة كاملة؛ لذا قال شارحًا في ترو :
-(( يا مدام اسمعيني من فضلك.. النكران مش هيحل المشكلة.. في بعض الحالات زي حالة الأستاذ بدر التشوهات مش بتظهر بتحليل السائل المنوي العادي وكان بيفضل سبب العقم مجهول.. بس دلوقتي العلماء اكتشفوا تقنية فحص جديدة بنقدر نحدد الخلل من خلال البروتين اللي أنا ذكرته فوق.. البروتين ده بيرتبط بس بسطح الحيوانات المنوية المشوهة وكل ما زادت النسبة المشوهة زاد العدد.. واللي عادةً مش بتظهر بطريقة الفحص العادية وصعب الاستدلال عليها من غير التقنية دي .. عشان كدة مظهرتش لما عمل الحقن لأنهم بيعتمدوا على طريقة الفحص التقليدي المضلل.. ولنفس السبب لما مادام أفنان ورتني تحاليل الاستاذ في أول زيارة ليها لقيتها سليمة ))
هنا تدخلت أفنان تسأله في نبرة مرهقة، وقد شحب وجهها أكثر مما كان عليه وظهرت لمعة غريبة بداخل عينيها :
-(( قصدك إيه يا دكتور!.. مفيش أمل أن بدر يخلف؟! ))..
تنحنح الطبيب ثم أجابها في حرج مشفقًا على حالهم :
-(( مفيش حاجة مستحيلة.. بس لما بتزيد نسبة التشوهات عن ٩٧٪.. بنعتبرها حالة عقم صريحة.. بس كل ده تكنهات علمية وفي الأخر كله بإيد ربنا.. لو الأستاذ بدر مستعد نبدأ علاج والأمل في الله.. بس من غيره للأسف أه مفيش أمل هنفضل نعاني من مشكلة الإجهاض المتكررة ))..
لم تُرضيها تلك الإجابة أو تُقنعها فملامح وجه الطبيب توحي بعدم اقتناعه هو الأخر بما يتفوه به، وكأنها أسطوانة مسجلة يُمليها على كل من يُشبه حالتهم لتسكين الألم!....
أما عن الطبيب فقد شعر بتوتر الجو من حوله فقرر الانسحاب قائلًا في تعاطف :
-(( عمتًا لو الأستاذ حابب يستفسر أكتر أنا في مكتبي.. وبالنسبة لحضرتك العملية زي الفل والرحم طبيعي محتاجة راحة مش أكتر والبعد عن أي حمل لحد ما يستعيد وضعه الطبيعي ويتعافى.. عن إذنكم ))..
ما أتعس تلك التي ظلت تبني القصور العالية، وتضع الخطط الدامية، تظن بذلك أنها تحمي أحبائها من الريح المفاجئة العاتية، ثم وفي لمحة عين تهب الرياح بما لا تشتهيه السفن الجارية، ناكسة أعلام ما شيدته يداها وتتركها مفقرة خاوية!!..
همهمت والدته بنبرة أقرب إلى الهذيان منها إلى اليقظة والإدراك :
-(( يعني إيه!!.. ابني مبيخلفش!.. طب واسم العيلة.. وأحفادي!!.. وتعبي كل السنين اللي فاتت!.. كله راح؟! ))..
ارتفع جانب فم أفنان بابتسامة شامتة، وقد تذكرت حديث والدته منذ دقائق عن نيتها في جلب عروس أخرى له، بل تذكرت حديثها مُذ إجهاضها الأول، وجال بخاطرها كل ما عانته من ويلات بسببها، كل ليلة خاصم النوم جفناها وهجر مضجعها بسبب تلميحاتها!، كل تلك الكوابيس التي عانت منها بسبب تهديدها، مئات ومئات المواقف التي عاشتها كالذليلة تظن أن العطب منها ومحاولتها البائسة إرضائه وإرضائها، وها هي الحقيقة قد ظهرت واتضح أن لا فائدة تُرجي من وحيدها كما كانت تتفاخر به دائمًا، فوجدت نفسها تقول بصوت مسموع مليء بالتشفي والغل :
-(( عايزه تسافري تشوفي حالك ها!.. دلوقتي وريني هتشوفيه أزاي بعد ما المشكلة طلعت منه!.. وأنا اللي جيت على نفسي بدل المرة تلاتة عشان أحافظ على بيتي.. طلع أصلًا بيت خربان مفيش منه أمل!! ))..
كان حديثها بمثابة المُنبه الذي احتاجه عقله للعودة إلى العمل، فاستدار نحوها يسألها من بين نظراته المترقبة المذهولة :
-(( قصدك إيه يا أفنان؟! ))..
قاطعته والده تصيح في هياج :
-(( قصدها واضح يا عين أمك.. الك*** بتعايرني بيك!!.. بعد ما اكلتها وشربتها وعلمتها ولبستها وعيشتها عيشة مكنتش تحلم بنصها بتشمت فيا وفيك!!.. فكراني هغلب ولا هسكت.. لا ده أنا اخليك تطلقها وترميها برة رمية الكل***.. واجبلك ست ستها!.. أخس عليكي طلعتي قليلة أصل بصحيح! ))..
استدار بدر بجسده المتشنج يضع يده فوق فم والدته كي يمنعها بذلك من الاسترسال، وقبل أن يدير رأسه نحو زوجته وفي نيته الاعتذار منها، صدمته قائلة في امتعاض :
-(( ومين قالك أني هقعد مع واحد مبيجبش عيال!.. هعيش معاه ليه وعشان إيه!.. أنا اللي مش هضيع عمري اكتر من اللي راح بسببكم.. كفاية كنت هضيع رحمي من تحت كدبكم!.. تلاقيكم كنتوا عارفين من الأول أن العيب منه مش من غفران وضحكتي عليا وفهمتيني أن العيب منها عشان أوافق بيه.. بس لأ.. لحد هنا وكفاية.. أنت تطلقني وتديني مؤخري وحقوقي وتسبني أرجع بلدي أشوف حالي ))..
خيانة، طعن، جرح، كسر، والحرق حيا، مجموعة من المشاعر المتباينة داهمته جماعة عندما سقطت كلماتها الجارحة فوق أذنه دون رحمة وكأنها بحديثها ذلك نزعت الحياة من أحشاء روحه، إحساس لا يوصف بالخذلان، وقد نجحت في شنقه بحديثها وتركته صريعًا يحاول جاهدًا عدم الاستسلام لتيار اليأس الذي يلوح له مغويًا، ثم ودون جدال وبعد فترة طويلة من الصمت المطبق إذ لا مفر من المواجهة ودفع ثمن سوء الاختيار، همس يقول في انكسار بعدما نكس رأسه لأسفل واستدار نحو باب الخروج :
-(( انتِ طالق! ))..
صاحت والدته اسمه تستوقفه متوسلة وهي تهرول من خلفه، إذ دفع باب الغرفة بعد نطقه اليمين ثم اندفع هاربًا، فصرخ يقول في كره صريح :
-(( أبعدي عني.. مش عايز اعرف حد فيكم تاني.. وأنتِ بالذات كفاية خربتي حياتي.. سامعة!!.. حياتي باظت بسببك وعمري ما هسامحك طول مانا عايش ))..
راقبته يبتعد عنها بأعين دامعة متحسرة، وقلب تشب به النيران المتأججة، فإذا كان للهزيمة وصف، فهو رؤية الكره في أعين من أحببته وأفنيت عمرك من أجله ثم تراه ببساطه عن طريقك يّعَزُفَ!
******************************
في صباح اليوم التالي...
انتهى من تريضه في ساعة مبكرة لذلك اليوم على عكس العادة، مقررًا بعدها العودة إلى زنزانته الخاصة والاستراحة داخلها بعيدًا عن ضوضاء الجميع، بالطبع لم يكن ذلك التساهل بالأمر الشائع أو المعتاد عليه داخل السجون المصرية، ولكن بنفوذه وقوة ماله استطاع الحصول على كثير من الاستثناءات فيما يتعلق بفترة محبسه، فكان الأمر أشبهه بنزهة ترفيهية أقرب منه إلى انتظار محاكمته على كل جرائمه التي ارتكبها في صغار السن، وما قام به من خروج عن القانون كل تلك السنوات المنصرمة...
وقبل وصوله إليها شعر بحركة ما آتية من خلفه، حيث باغته القاتل على حين غرة بوضع القناع الأسود الخانق فوق وجهه بعد أن راقب الممر ما يقارب الساعتين منتظرًا الاختلاء به، ثم ومن بعده لف الحبل الغليظ حول عنقه واستمر في شنقه بيد، بينما يمنع بالأخرى صراخه عن طريق وضع كفه فوق فم الضحية، وما بين مقاومة المغدور التي آخذت تتضاءل بسبب منع الأكسجين عن رئتاه، وصلابة قبضة الغادر التي تزاد اشتدادًا حول عنقه كلما خارت قوي المعدوم، لفظ أنفاسه الأخيرة، وقد دفع ثمنًا لخطاياه قبل تحقيق العدالة.
وبعد ساعة من الواقعة.....
دلف المجند الزنزانة لاستدعاء ساكنها وقد أتى محامي المسجون لزيارته والتأكد من نجاح المهمة كما هو المتفق عليه، فاصطدمت عيناه بساق القتيل أولًا وصولًا إلى جسده المُعلق في سقفها عندما تتبعته عدستاه، بينما عنقه متدليًا على صدره وجسده يترنح يمنة ويسرى، وقد فارق الحياة، فصرخ الموظف متراجعًا للخلف وراكضًا بداخل الممر كي يستعدي مرؤوسه ويُخبر الحرس الخارجي بالحادثة، ثم استكمال باقي الإجراءات الروتينية المعتادة في تسجيل حالة الانتحار والتي دائمًا ما تحدث داخل السجون خاصةً بين الشخصيات المعتادة على الحياة المترفة مثله، بسبب الاكتئاب!.

**************************
بعد مرور أسبوع.........
قال العقاد..... إذا ميز الرجل المرأة بين جميع النساء؛ فذلك هو الحب... وإذا أصبح النساء جميعًا لا يغنين الرجل ما تغنيه امرأة واحدة؛ فذلك هو الحب... وإذا ميز الرجل المرأة لا لأنها أجمل النساء، ولا لأنها أذكى النساء، ولا لأنها أوفى النساء، ولا لأنها أولى النساء بالحب، ولكن لأنها هي هي بمحاسنها وعيوبها.....
فذلك هو الحب....
تحركت بقدر ما سمح لها ثقلها وقد بدأ الانتفاخ يظهر جليًا على بطنها معلنًا عما تحمله بداخلها لكل من يراها، وكيف لا وقد أتمت شهرها الخامس للتو وها هي تقف على أعتاب السادس متلهفة، وكل ما يفصلها عن اختبار شعور جديد من السعادة أقل من مائة يوم.....
نعم ثلاثة أشهر أخرى وسترى ثمرة عشقهم متجسدة أمام عينيها وسوف تحملها بين ذراعيها، تمامًا كما ستفعل صديقتها وزوجة ابن عمها اليوم....
مجرد التخيل جعل الابتسامة الناعمة تُزين محياها، قبل أن تتنهد في وله وتسير حالمة إلى غرفة نومهم تجلب منها هاتفها كي تتواصل مع زوجها وقد تأخرا بالفعل على "طاهر" الذي ينتظر في المشفى وصول مولدته بعد ساعة من الأن، مقاطعًا بحثها عن الهاتف صوته يهتف اسمها مدللًا وقد وصل للتو :
-(( عالية.. يا لولي.. يام سدرة.. أنتِ فين! ))..
طلت برأسها من خلف إطار باب الغرفة تُجيبه مقطوعة الأنفاس كعادتها منذ بدأ ذلك الحمل الذي يستنفد قواها مع أقل مجهود تقوم به ويتركها شاحبة :
-(( أنا هنا يا يحيي أتاخرت ليه كل ده؟!... ماما كلمتني كذا مرة تستعجلني وقالتلي لو يحيى هيتأخر ناخدك معانا على الطريق قبل ما نطلع على المستشفى.. بس أنا قلتلها لا هستناك ))..
حاوط خصرها بذراعيه فور وصوله إليها، ثم أجابها بعدما طبع قبلة مرحبة فوق جبينها، وأخرى فوق بطنها كتحية لصغيرته القابعة بالداخل في أمان، قائلًا في اعتذار :
-(( معلش الطريق كان واقف شويه.. وبعدين أنا اتفقت معاكي هنروح سوا وإن شاء الله هنلحق الولادة في وقتها وهنكون معاهم.. ثواني بس أغسل وشي وأغير هدومي بسرعة ونتحرك على طول ))..
زمت شفتيها معًا للأمام، وضيقت جفناها فوقه، ثم سألته متوجسة في اندفاع وهي تنحني برأسها نحو قميصه تستنشقه :
-(( تغير ليه إن شاء الله!!.. أنت مخبي عني إيه مرحبا بقي؟!.. هى حاولت تقرب منك تاني صح؟!.. وعهد الله يا يحيي لو عملتها المرة دي لهروح اجبها من شعرها.. أنا حذرتك أهووو.. وياريت بقي جلساتها دي تخلص وترجع تسافر وتحل عني ))..
طغى شعور السعادة بغيرتها عليه وحبها له عن أي شعور أخر قد يُعكر صفو حياتهم، خاصةً مع هرمونات الحمل التي تجعل مزاجها يتغير عدة مرات في الدقيقة الواحدة، وكل ما يملك فعله هو إرضاءها حتى تنتهي تلك المرحلة الهامة من حياتهم بالشكل المثالي المطلوب؛ لذا همس يقول مداعبًا وجنتها بذقنه الخشن :
-(( وعهد الله ما حصل.. وهو أنا برضه هسيب حد يقرب مني غير أم سدرة الجميلة اللي بين أيديا دلوقتي.. وبعدين أنا كنت هغير هدومي عشان أليق بالقمر اللي هخرج معاه ))..
ارتخت ملامحها على الفور وتبدلت تقطيبة جبينها إلى ابتسامة خجلة، وقد نجح في احتواء نوبة غضبها قبل أن تتسع، قائلة بعدها في دلال ورضا :
-(( يا سلام اضحك عليا بقي وسكتني بكلامك عمتًا هعديها عشان متأخرين.. بس قبلها عايزه أفهم إيه حكاية أم سدرة دي إن شاء الله.. من دلوقتى هتنسي أسمى وتبطل تقوله.. أومال لما بنوتك تشرف هتعمل فيا إيه ))..
أجابها وهو يوزع قبلاته فوق وجهها وفمها يسحب بذلك تركيزها إليه :
-(( هعمل كل خير يـا....... ))..
هتفت تقاطعه محذرة بزاوية حاجب مرفوع، بينما رفعت كلا ذراعيها ووضعتهم فوق ساعديه استعدادًا لدفعه إذا لزم الأمر :
-(( هاااا يا إيه!! ))..
قال في عشق قبل التحام ثغريهما معًا في شوق :
-(( يا عالية الروح.. يا أنا..... ))..

****************************
ليس هناك ما يُعرف باسم الفرصة الأخيرة، لأن دائمًا ما يعقبها فرصة أخرى تُسمي بالفرصة ما بعد الأخيرة، وهكذا.....
يستمر القدر في وهبنا فرص لتصحيح مسار حياتنا حتى نلتقط أخر أنفاسنا، وقتها حقًا يمكننا الجزم بأنها كانت فرصة الإنسان الأخيرة، أما ما يُطلق على ما قبل ذلك فهو محض تُرهات اختلقها البشر كذريعة للهرب...
جلست بأنفاس ثقيلة فوق حوض الاستحمام وقد بدأت بعض حبات العرق تتجمع فوق صدغيها من شدة التوتر، بينما أنظارها مسلطة فوق كفها الأيمن القابض على علبة مُغلقة يوجد بداخلها جهاز منزلي لكشف الحمل كانت قد ابتاعته أمس مَسَاءَا من إحدى الصيدليات القريبة من مقر الجمعية، بعدما فقدت وعيها للمرة الثانية في يوم واحد، وقتها أصرت زميلتها في العمل على اصطحابها إلى المشفى أو أقرب معمل تحاليل لإجراء الفحص، خاصةً بعدما سردت عليها "غفران" باقي العوارض المعروفة، فما كان من الأخيرة إلا أنها اقترحت هاربة إجراء واحد منزلي في وقت لاحق، ولم يكن مُقترحها لشيء ألا لمهاودة زميلتها التي صمتت على مرافقتها إلى الصيدلية وحرصت على ابتياع أفضل الأنواع مؤكدة بأن ما تشعر به هي أعراض حمل واضحة، أما بداخلها لم تكن تُريد السير وراء أمل زائف
ولكن في الصباح وبعد أن انتابتها نوبة غثيان قوية قررت التخلي عن عنادها وتمسكها بالفرار، فحتى وإن كانت النتيجة عكس رغباتها!؛ يكفيها شجاعة المواجهة، وعليه... وبعد الانتهاء من ارتداء ثيابها والذهاب للوقوف جوار صديقتها في لحظتها الهامة، سحبت الكاشف من حقيبتها ودلفت به إلى الحمام وها هي تحاول جاهدة السيطرة على الارتعاشة التي أصابت جسدها حتى تبدأ في استخدامه.....
وبعد فترة من شخوص بصرها نحو الأرضية أسفلها تشجعت وأخرجته من العلبة الكرتونية واستعملته، ثم جلست في صمت مطبق تنتظر!...
مرت اَلثَّوَانِ كالساعات، ومرت الدقائق كألايام، وهي لازالت جالسة ترتجف دَاخِلِيًّا وَخَارِجِيًّا في انتظار تغيّر لونه، وقد أصبح فجأة رؤية اللون القرمزي هو أقصى أمنياتها في الحياة!....
ولم يُخيب اللون ظنها إذ بدأ يظهر على مهل ويزداد قوة مع مرور اَلثَّوَانِ مؤكدًا لها بما لا يدع مجالاً لإنكار، وجود نطفة ما تنمو بداخلها....
وبقلب يخفق بعنف رهيب اندفعت خارجة من الحمام، بينما يدها تقبض بقوة على الكاشف وكأنه كنزها الثمين، متمتمة بارتجافة أصابت صوتها، بل إصابتها كلها من مقدمة رأسها حتى أخمص قدميها :
-(( جواد!! ))..
استدار بجسده نحوها وقد دلف الغرفة للتو كي يبحث عنها، متسائلًا في لهفة :
-(( محصلتنيش ليه يا غفران زي ما قلتي؟! يلا أتاخرنا على طاهر ورحمة.. ماما وبابا سبقونا ع المستشفى من بدري! ))..
رفعت رأسها إليه بالتزامن مع رفع جهاز الفحص أمام وجهها، هامسة بخفوت مرتعش، بينما الدموع تتجمع في عينيها :
-(( جواد.. أنا...... ))..
قطب جبينه في عدم فهم، ثم سألها مستنكرًا في قلق بعد قطع المسافة الفاصلة بينهم ووقف أمامها يمد ذراعيه إليها كي يدعمها :
-(( مالك يا غفران!.. وإيه اللي في أيدك ده؟! ))..
فى تلك اللحظة كان كامل جسدها يختض تحت لمسته من فرط الانفعال، بينما الدموع تهطل من خلف جفنيها بسخاء، ثم وبعد فترة من الانهيار بلعت لعابها في قوة وهمست في نبرة أقرب إلى الهلوسة منها إلى الواقعية :
-(( جواد... أن.... أنا.....أنا حامل ))..
تمهلت في نطق كلمتها الأخيرة وكأنها تتشربها، تشعر بها وتصدقها، فهي حامل!، دون منشطات!، ودون الشعور بمئات من الإبر الطبية التي توخز جلدها، ودون مرور آلاف من أقراص الدواء من بلعومها!، دون معاناة، ودون مغالاة.. فقط حامل كأي أنثى طبيعية!....
حركت رأسها يمينًا ويسارًا تنفضها في قوة، وقد امتدت يدها نحو بطنها تتحسسها في عدم تصديق حتى أنها نست وجود زوجها جوارها، ولم يذكرها بوجود سوي يده التي جذبتها إلى أحضانه ثم بدأ في نثر قبلاته فوق شعرها ووجهها وعنقها، يعبر عن سعادته بها بطريقته الخاصة، متمتمًا من بين قبلاته الحارة :
-(( ألف مبروك يا عمري.. ألف مبروك يا أنا..... ))
هذا تحديدًا ما يفعله الأفراد الذي يهتمون لأمرك، يقفوا جوارك، يحبوك ويدللوك، يشجعوك ويساندوك، تراهم دائمًا معك في لحظات الفرح قبل الحزن، ويحرصون على التواجد دائمًا من أجلك، سمهم عائلة، أصدقاء، معارف، أيا كان المسمى لا يهم، المهم هو ذلك الشعور الرائع الذي يخلقونه بداخلك كأنهم بتلات ورد تزين لحظاتك الخاصة وقتما وجدوا..
ألقت نظرة أخيرة ممتنة على وجوه كل من حضروا، عم زوجها وأبناءه وبجوار كل واحد منهما يقف رفيقه في الحياة، وقد آتوا جميعًا لمشاركتها تلك اللحظة الخالدة، وفجأة أدركت وهي تطالعهم أن العائلة الحقيقة ليست بالدم، بل بمن حَقًّا بنا يهتم....
وبابتسامة مشجعة لاحت للجميع مودعة، قبل أن تختفي داخل غرفة العمليات حيث اللحظة التي انتظرتها تسعة أشهر كاملة، بينما يسير جوارها صاحب الدرب ومالك القلب وقد أصر على الدخول معها وعدم تركها، هامسًا جوار أذنها في حنان :
-(( جاهزة لمقابلة بنتنا؟! ))..
تنهدت مطولًا قبل أن تقول في شجاعة، بينما دموع التأثر تتلألأ داخل مقلتيها :
-(( طول ماحنا سواء جاهزة لأي حاجة ))..
مال يقبل كفها ثم استأنفا سيرهم على مهل نحو الفراش الطبي استعدادًا للقاء، فهما على موعد مع اكتمال بناءهم بعد نصف ساعة أو ربما أقل، ويا له من شعور!!، كان الترقب والتوجس هما سيدان الموقف فيه حتى صدحت صرخة طفلتهم الأولي داخل الغرفة معلنة عن حضورها سالمة، وقد أتم الله نعمته عليهم وملئت مولدتهم أركان حياتهم بالسرور والبشر، بينما من خلف الزجاج تتراص أفراد العائلة منتظرة في لهفة وعلى رأسهم السيد "أنور"، والذى هتف فور رؤيته ملامح المولودة الناعمة مرحبًا في حبور :
-(( فريدة.. فريدة الصغيرة وصلت يا ولاد..... ))..

**************************
في المساء.. بعد منتصف الليل.....
وبعد الانتهاء من كافة الخطوات والإجراءات اللازمة، استلقت "رحمة" فوق الفراش الطبي تتابع بأعين لامعة وابتسامه مشرقة التفاف الجميع حولها، تستمع إلى ضحكاتهم وتسامرهم دون القدرة على المشاركة، وليس لشيء سوي لاختناقها بدموع السعادة والامتنان وقد صار كل شيء على ما يرام، بل وأفضل... حتى ولادتها كانت من أسهل ما يكون إذ حرص زوجها على اختيار أفضل أطباء المدينة وأمهرهم، فلم تشعر بالألم المعتاد الذي تعاني منه كافة السيدات في نفس وضعها، بل كانت ولادة سهلة يسيرة وإلى الآن يتم الاعتناء بها والاطمئنان عليها كل عدة دقائق من قبل الطاقم الطبي، الأمر الذي جعل الدموع لا تغادر عينيها كلما تذكرت فضل الخالق عليها، جاذبًا انتباهها صوت السيدة كريمة تهتف ضاحكة :
-(( بجد يا أنور.. مش مصدقة أنك أنت اللي سميت البنوتة وصممت على رأيك.. واللي مستغرباله أكتر مطاوعة طاهر ورحمة ليك ))
هنا تدخل طاهر يقول منتفخًا الأوداج ولمعة السعادة في عينه لا تقل عن زوجته :
-(( بصراحة أنا كنت بفكر من مدة أعملها مفاجأة لرحمة وأقترح كده يوم الولادة.. بس عمي سبقني ))..
ربت جواد الواقف جواره على كتفه، قائلًا في حسد :
-(( أه يا حبيبي.. مانت طالعله أكتر مني.. والله يابني ساعات بحس أنك أنت اللي ابنه ))..
ابتسم أنور في رضا على حديث أطفاله، قبل أن يتمتم قائلًا في منة موجهًا الحديث لزوجة ولده الأكبر :
-(( كلكم واحد عندي.. ألف حمد وشكر ليك يارب.. فرحتنا النهاردة فرحتين بخبر حملك يا غفران.. عقبال ما اطمن عليكي أنتِ وعالية واشيل ولادكم بين أيديا زي ما شلت فريدة النهاردة.. الحمدلله الصبر دايما اخرته جبر.. وانتوا يا ولاد صبرتوا كتير.. ربنا يخليكم لبعض ))..
ابتسمت الثلاث فتيات على حديثه، بينما أمن الجميع على الدعاء، قبل أن يقول يحيى في إنهاك :
-(( طب إيه الساعة عدت ١٢.. مش هنروح بقي ونسيب رحمة ترتاح بعد اليوم المجهد ده؟! ))..
حركت علياء رأسها موافقة، ثم سألت موجهة حديثها لطاهر :
-(( أنا كمان تعبت ومحتاجة أروح أرتاح كتر القاعدة بقت بتتعب رجلي أوي.. بس قولي يا طاهر الدكتور قال هتخرجوا أمتى؟! ))..
أجابها ولازالت الابتسامة تُزين محياه غير قادرًا على السيطرة عليها :
-(( بكره الصبح إن شاء الله بالكتير.. لسه سأل الدكتور لما نزلت اطمن على فريدة في الحضانة ))..
أومأ الجمع برأسه إيجابًا مستحسنًا، بينما سألت غفران في اهتمام جلي بعدما سارت إلي رحمة وانحنت بجذعها تحتضن كفها :
-(( محتاجة مني أي حاجة يا رحمة؟! ))..
قالت رفيقتها مؤكدة في صرامة :
-(( محتاجة أنك تروحي وترتاحي.. وعشان خاطري تخلي بالك من نفسك ))..
حركت غفران رأسها موافقة قبل أن تميل نحوها وتعانقها، وقد هطلت دموع أحدهما على الأخرى من فرط السعادة، ثم حذى حذوها باقي أفراد العائلة مودعين وبقت هي بمفردها في الغرفة، حيث أصر زوجها على إيصالهم حتى الطابق الأرضي، منتهزة هي الفرصة في إخراج دفترها، إذ حرصت على اصطحابه معها، ثم بدأت تدون في شغف......
( مذكرتي العزيزة......
اليوم تخونني الحروف وتهرب مني الكلمات ولا أقوى على التعبير، ففي الحقيقة ومنذ علمي بحملي وأنا أتخيل شعور النظرة الأولى لطفلتي وأرتب بداخلي الوصف المناسب، ولكن فور رؤيتي لها، بل فور سماعي صراخها تبخر من عقلي كل شيء وتاهت الأبجديات من قاموسي...
أو ربما شعرت بضآلتها أمام هذا الشعور الذي لا يوصف وفقدت معه الرغبة في التوثيق، فهو مجموعة متباينة من المشاعر الغريبة التي اجتاحتني في آنً واحد، وكأني اختبر نوع جديد من الحب مختلف عن ذلك الذي أحمله بداخلي لوالدها؛ لذا سأكتفي بكتابة بضعة كلمات لها علها تقرأها في الوقت المناسب،  وتعلم كيف بدأت قصة وجودها.
صغيرتي وحبيبتي.. أميرتي والهبة التي أتت في أحلك أوقاتي... 
اليوم أود أن أسرد عليكي قصة غريبان التقيا في ظروف غير عادية، فكان الكره والحقد في علاقتهم هما السمة الطاغية، حتى أنهما كانا يتجنبان النظر في وجوه بعضهم البعض أو إلقاء كلمة السلام العابرة، ولكن... يبدو أن القدر أصر على جمعهم وجعلهم روح واحدة، وفجأة أو ربما مع مرور الوقت تحول هذا الكره إلى أنهار عشقًاًّ جارية، نبع دائم لا ينضب ولا يقل بل يزداد مع مرور الأيام القاسية، افترقا ثم التقيا ثانية، ثم أوشكا على الضياع من بعضهم البعض داخل موجات الحزن العاتية، ولو تعلمي كيف وقف والدك جواري وحارب من أجلنا وكيف اكتفيت به عن الجميع حتى أصبح كل عائلتي، عشيرتي، وقبيلتي الحامية...
ثم أتيت أنتِ أخيرًا فكنتِ ثمرة وجوهرة تاج قصة عشقهم الأبدية.. )..
قاطعها صوت توأم الروح يهمس في عشق جوار أذنها، وقد عاد للتو من الأسفل :
-(( بتكتبي إيه؟! ))..
رفعت كفها تحاوط شطر وجهه، مجيبة في وله :
-(( بكتب لفريدة أزاي بدأت قصتنا.. وأزاي كنت محظوظة كفاية بيك.. عشان لما تكبر تعرف قد ايه باباها استحمل والدتها.. وقد ايه هو عظيم ))..
انحني يقبل وجنتها، وطارف انفها، وأخيرًا راحة كفها، هامسًا في فتون :
-(( لو كنت عظيم فده عشان حبك صالحني على نفسي.. وبقيتي أنتِ الأنا ))..
همست تسأله في استفسار وقد أثارت الكلمة فضولها واستحسانها :
-(( الأنا؟! ))..
حرك رأسه مؤكدًا، قبل أن يضيف مفسرًا جملته :
-(( الكاتب صادق الرافعي بيقول في كتابه "السحاب الأحمر"... “لا يصح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا”... وهو بفلسفته شاف أن اللي بيوصلوا للمرحلة دي من الحب مستحيل الفصل بينهم.. لأنهم امتزجوا ببعض زي الجزيئات.. مينفعش تكتمل غير في وجود بعض ))..
فرغ فاها في انبهار، ثم قالت في تتيم وهي تمد ذراعها نحو شفاه تتتبع ببنانها حدود ابتسامته الساحرة :
-(( ربنا يخليك ليا.. يا أنا. ))..
**************************
كانت البدايات كالنهايات نيران مستعرة تكوى الوجدان
قدر ساقنا وربت على قلوبنا بعد أن سقانا طويلًا الخذلان
لهيب أحرقنا..ضمنا ثم فرقنا..و فيض من عشق أخمد النيران
لتشتعل من جديد جذوتها، ولكنها لم تحرق الكيان
بل صارت دافئة كلمسة أم على وجنة طفل يحتاج لحنان
كشعاع شمس فى نهار بارد يبعث في النفس الدفء والأمان
لولا التقينا لصار الكون رمادي اللون، تغيب عنه باقي الألوان
لولا إلتقينا لما عرفنا العشق، ولا مس القلب طول الزمان
رحمة ترجى من قلب طاهر، وهوى ليس لنا عليه سلطان
قلب الله القلوب فصار العشق قدرنا وأسكننا الجنان
لن نضيع أبدا طالما الهوى بيد الله يمنحه لكل قلب حان.

تمت بحمد الله...
  بدأت في
3/11 2019
  وانتهت في
1/12/2020.
    شيماء يوسف.
***********************
عندي تنويه ضروري واخير.. مقدمة الخاتمة مقتبسة فكرتها من مقال صوفي عن درجات الحب..
وخاطرة النهاية مهداه من الكاتبه المتألقة شاهندة سمير ❤️

                       تمت بحمد الله



وايضا زورو قناتنا سما للروايات 

 من هنا علي التلجرام لتشارك معنا لك

 كل جديد من لينك التلجرام الظاهر امامك
تعليقات