رواية في لهيبك أحترق الفصل الرابع الأربعون 44 بقلم شيماء يوسف

               

رواية في لهيبك أحترق 
الفصل الرابع الأربعون 44
بقلم شيماء يوسف



مَا عَالَجَ النَّاسُ مِثْلَ الحُبِّ مِنْ سَقَمٍ
ولا برى مثلهُ عظمًا ولا جسدا
ما يلبثُ الحبُّ أنْ تبدو شواهدهُ
مِن المُحِبِّ، وَإِنْ لَمْ يُبْدِهِ أَبَدَا
_الأحوص

يبقى الحب بلا إثبات حتى تؤكده المواقف، فالحب الحقيقي ليس عبارة عابرة أو رسالة مزخرفة، وليس سحابة زائلة أو فصل من فصول المناخ المتغيرة....
ولكن الصدق في الهوى هو أن تحمل عن المحبوب ما لا يستطيع حمله من صعاب الحياة، وأن تقف حائلًا بينه وما بين يُحزنه إذا هاجمته الهموم القساة.....
إن تُنير عتمة روحه إذا ما حاوطها الظلام، وتواسيه في أحلك لحظاته البائسة وتكون إرادته إذا ما رغب الاستسلام، بل وتدفع عنه ما لا يُطيقه حتى وإن كنت المُلام....
فمن السهل أن يقول الإنسان أحببت، ولكن من الصعب أن يثبت بأفعاله ذلك الود....
كلمات ظل صداها يتردد بطيات عقلها المتبرم منذ البارحة، تحديدًا مُذ وجدت نفسها تتساءل في تيه عن ماهية الحب، فامتدت يدها في تلقائية شديدة تفتح هاتفها وتُفتش داخل محرك البحث الشهير عن إجابة لسؤالها الحائر، حتى توقفت عند تلك الكلمات المختصرة، ثم بدأ عقلها في عقد مقارنة سريعة بين تلك الحروف المرتبة وتصرفاته وتتذكر.....
كم مرة امتدت يده لها عند السقوط؟!...، كم مرة وقف جوارها وقتما حاصرتها لحظات القنوط؟!...
وكم مرة تمسك بها عندما حاولت قطع ما يربطهم من خيوط!
كم وكم وكم!.... مئات من المواقف التي مرت بذاكرتها وفشلت في عدها ومضت بقوة أمام عينيها، قبل أن يقاطع انغماسها في التفكير به طرقة خفيفة فوق باب الغرفة، يليها صوت ذكوري مألوف يقول في حنان :
-(( أنا عمك أنور يا رحمة.. لو مش هضايقك افتحيلي الباب اطمن عليكي ومش هطول ))..
حاربت حالة الانسحاب التي تريد الاستسلام لها بالنهوض من الفراش وجلب وشاح الرأس وتثبيته فوقها، قبل أن تسير بثقلها نحو باب الغرفة وتفتحه على مصراعيه لاستقباله بابتسامة باهتة، ولم تستطع منع عينيها من مسح الممر بحثًا عنه، وقد خذلتها عزيمتها بعدما أعلنت البارحة صراحةً رغبتها في المبيت بمفردها، ولدهشتها أو ربما إحباطها، لم يجادلها في طلبها مثلما توقعت، بل انسحب بهدوء بعد تقبيله جبينها، وتركها تعاني من الشوق إليه إلى الآن....
تنهيدة يأس خافتة صدرت من حلقها، مقاطعًا تفكيرها الصامت صوت عمه يقول مبررًا في خبث :
-(( قال مش عايزه تشوفيه أو تقعدي معاه فوصلني بالكرسي لحد باب الأوضة ونزل ))..
هزت رأسها في فتور، ثم استدارت تقف خلف الكرسي المدولب وبدأت بدفعه إلى داخل الغرفة، بينما ضربت بقدمها الباب تُغلقه من خلفهم، ثم استأنفت السير إلى أحد الأركان الأربعة حيث الأريكة التي اعتادت الجلوس عليها بجواره، وظل زائرها يجلس فوق سجنه الدائم مراقبًا ذبولها في تعاطف، ثم وبعد أن تأكد من جلوسها في وضع مريح فوق الأريكة، تحدث على الفور يقول في نبرة مشفقة :
-(( مش هلف وأدور وهدخل في الموضوع على طول.. طاهر بلغني أنك عرفتي بالجواب ))
تشنجت ملامحها وتململت داخل جلستها في تعبير واضح عن انزعاجها ولكن لم تُعقب، بينما أردف زائرها يقول بصوته الدافئ ونظرته الحانية :
-(( ربنا وحده يعلم أنا حبيتك قد إيه.. من أول مرة شفتك فيها.. فكرتيني بيها الله يرحمها.. آه صحيح أنا محبتهاش حب الرجل للست أو حب الزوج لزوجته بس حبيتها كبنتي أو أختي.. شفت فيها نفس براءتك.. الحقيقة أنك واخدة منها صفات كثير يا رحمة.. أولهم الطيبة والحنان والبراءة.. براءة تخلي اللي قدامك عايز يقف يحميكي ويدافع عنك من غير حتى ما يعرفك.. وده اللي حصل معايا زمان.. حسيت أنها مسؤولة مني كطفلة محتاجة حماية.. مش هنكر أن بعد انفصالنا على طول رجعت بيتي ونسيت الحكاية من أولها لأخرها.. بس ده لأني كنت بحب كريمة من كل قلبي وندمت على تسرعي في حل المشكلة بس زي ما قلتلك فيكم حاجة تخلي الشخص عايز يدافع عنكم ويحميكم من غير سبب أو تفكير ))..
صمت للحظات ابتلع خلالها لعابه وتأكد من إصغائها للحديث، ثم أردف يقول في جدية :
-(( وهو ده اللي حصل مع طاهر مع اختلاف الأسباب.. حب يحميكي بطريقته ))..
ابتسم في هدوء وكأنه يطالع صفحة من الماضي القريب، ثم أستطرد يقول في حنين :
-(( مش هنسي يوم ما جالي بعد ما اكتشف اللي جوه الجواب.. أزاي كان خايف عليكي ومرعوب.. ده كان متأثر ولا كأن الجواب يخصه هو مش أنتِ.. ساعتها من قبل ما ينطقها عرفت قد إيه غلاوتك في قلبه.. ولو تشوفيه أتحايل عليا أزاي لو رائف كشف اللي يعرفه أطاوعه فيه.. كنتي وافقتي من غير تفكير.. والصراحة أنا عمري ما فرقت بين طاهر وجواد.. كلهم عيالي وغلاوتهم عندي واحدة.
وهو بشطارته عرف يقنعني أوافق.. مانتي عارفة الواحد مننا بيخاف على عياله أزاي وبيبقي عايز يحميهم من ضله.. ده اللي خلاني أقبل طلب طاهر حتى لو غلط.. وأظن ده اللي خلي فريدة وعز يخفوا عنك الحقيقة حتى ولو غلط برضه ))..
توقف يفترسها قليلًا ويُعطي عقلها مساحة ولو بسيطة لتقبل حديثه قبل أن يُضِيف في فراسة :
-(( كلنا أبهات ووقت ما الموضوع يوصل لأولادنا بيختلط على عقلنا الصح من الغلط.. وده لأن غريزة حبكم دي ربنا خلقها فينا من قبل حتى ماتيجوا على وش الدنيا.. وأكيد أنتِ جربتي خلاص ))..
تحركت يدها تِلْقَائِيًّا نحو انتفاخ بطنها تتحسسه في عشق وتحاوطه، بينما أستطرد الرجل الفطيم حديثه :
-(( بس تفتكري إيه اللي يخلي طاهر وهو مش منك يحاول يحميكي بالطريقة دي ألا لو حبك.. ومش أي حب.. ده حب خلاه يحط راحتك قبل كل حاجة في حياته.. تفتكري اللي زي ده ينفع نزعل منه حتى لو غلط في حقنا بنية سليمة؟! ))..
فتحت فمها للإجابة عليه ولكنها أوقفها برفع إبهامه في وجهها، ثم استأنف يقول في رزانة :
-(( لو جواكي بجد.. من أعماق قلبك زعلانة منه يبقي متستاهليش حب ابن أخويا ليكي.. مش هجاملك بس لازم أقول الصراحة.. لو مفيش في قلبك معزة ليه تنسيكي غلطته يبقي يا خسارة كل الحب اللي شايفه في عيونه ليكي....
ويبقى للمرة التانية معرفش يسلم قلبه للشخص الصح.. بس لو زي مانا حاسس أن قلبك ليه.. يبقي هتتعاتبي وتنسى.. وأوعي تفكري أني جيت هنا بطلب منه.....
لا أبدًا أنا كنت مستني اللحظة اللي هتعرفي فيها عشان أتكلم معاكي الكلمتين دول.. ربنا وحده عالم أنا اتصدمت ازاي لما عرفت اللي جوه الجواب.. عز كان صاحبي ومشفتش منه غير كل خير.. عارف أنك غضبانة ويمكن مش عايزه تسمعي أي حاجة تخصهم الفترة دي بس ده ميوقفنيش عن قولي الحقيقة.. ولولا أني قريت الجواب بنفسي وشفت شهادة ميلادك الأصلية مستحيل كنت أصدق أن ده يحصل منه.... مش هبررله ولا هعذره..
انا جاي هنا عشانك أنتِ وعليه هقولك أن الغضب بيحرق صاحبه فمتخليهوش يظلمك مرتين.. قطعي الجواب وانسيه...
ومتلوميش فريدة لأنها ضحية ولأن اللوم والعتاب مش هيفيد ولا هيحل.. بس هيوجع قلبك.. طبعًا دلوقتي تلاقيكي في سرك بتقولي إيه الراجل المجنون ده اللي جاي يطلب مني أعيش وأنسى ))
حركت رأسها نافية، قبل أن تُعلنها عالية في تأييد :
-(( لا مش هقول.. أنا شفت كانوا بيعاملوا بعض أزاي.. وشفت الحب والاحترام اللي كان بينهم لدرجة أن عقلي مش مستوعب اللي حصل.. ولا قادرة أصدق أن اللي كانوا قدامي دول.. ماضيهم كان في حاجة زي كده.. ماضيهم اللي رجع دلوقتي عشان يحرقني ))..
هز رأسه مستحسنًا حديثها، ثم قال في فطنة :
-(( طب يعني هما دفنوا الماضي ورا ضهرهم.. وأنتِ دلوقتي اللي المفروض تتحرقي بناره!.. ده مش عدل.. مش لازم تدفعي التمن مرتين.. وكده يبقي عنده حق طاهر في اللي عمله ولو كنت أنا مكانه كنت يمكن هعمل أكتر من كده .. عمتًا هسيبك تفكري في كلامي.. وافتكري أن الغضب سم بيقضي على صاحبه أول حاجة.. غير أنه سلاح الجبان.. ومعتقدش أن اللي قاعدة قدامي بعد كل اللي مرت بيه فيها الصفة دي.. وأخر حاجة لو قبلتي اعتذاري وانك تسامحيني وتسامحي جواد والغلبان التاني اللي هيتجنن من خوفه عليكي.. فيشرفني أكون والدك.. بلاش والدك اعتبريني حماكي.. اسمحيلي بالفرصة دي وخلي الأيام تثبتلك حبي واحترامي ليكي.. وصدقيني لو هتمني بنت جنب علياء مكنتش هتمني أحسن منك يا رحمة ))..
شعرت وكأن كلماته ماء، سقطت على نار الغضب الثائرة داخلها فأخمدتها، ونزلت كالبلسم على جروح قلبها فأبرأتها، ربما لم تُشفي بشكل كامل ولكنه استطاع بحديثه الحاني إطفاء شموع الحقد المقتدة بروحها وتذكر ما بين يديها من نعّم، والأهم تذكر ما تنتظره...
فهكذا أثر الكلمة الطيبة، كبذرة شجرة مورقة، إذا وقعت في القلب أحييته.

**************************

زوجي وعزيزي ونبض وجداني....
( الليلة يمر بخاطري ذكرى لقاءنا الأول، ليس لقاء المقهى ولكن ذلك الأخر وقتما كنت أعيش أسوأ أيامي وكنت أنت ألد أعدائي...
ثم رحت أتأمل حالنا وأتسائل متى صرت أقرب أقربائي!.. ربما لست قريبًا بالدم ولكنك رفيق الروح وأوفي خَلَانِي!!..
فلم أملك سوي التمسك بك كطفلة تاهت عن خطاها الدروب، ورأت في ظلك الوطن والعنوانِ...، متمردة نعم، وطائشة قليلًا ولكن هل تراني يومًا أنساك وحبك واحة سلام داخلها نامت كل أحزاني؟!، البارحة والليلة التي سبقتها رقدت داخل فراشنا بدونك ولو تعلم كيف هجر النوم أجفاني، أعلم جيدًا بأنه أعدل عقاب لي ولكني أتوسلك أن تزورني الليلة وتبقى بين أحضاني )..
بقلب مثقل بالشوق قبل الهموم دونت تلك الكلمات العاشقة ثم أغلقت دفترها ووضعته فوق الطاولة المجاورة للفراش، ثم استلقت متعبة بحملها الذي يزداد ثقلًا مع مرور الأيام، بينما يجافي النوم مضجعها، وهل لمثلها أن ينام قرير العين، وكأن الراحة لم تُخلق لها، حتى متنفسها الوحيد في الحياة نجحت بتهورها المعتاد في دفعه بعيدًا عنها!!...
تنهيدة حسرة حارقة خرجت من جوفها المشتعل تزامنًا مع دمعة حارة سقطت من جفنها المنسدل، قبل أن تلتقط أُذنها حركة أقدام خافتة يليها صوت فتح الباب ثم إغلاقه في هدوء، فانفرج ثغرها بابتسامة ارتياح وكأنه قلبه سمع نداءها فهرول ملبيًا!.....
وكم أسعدتها تلك الفكرة حتى وإن كانت ساذجة، فلتنسي كل شيء ولو للحظات وتستمتع بها هي وعطره المحبب الذي مليء انفها وتخلل غامرًا كل حواسها قبل أركان الغرفة، يليه شعورها بثقل جسده فوق الجانب المجاور لها من الفراش، الآن تستطيع النوم في سلام
هذا ما فكرت به بابتسامة خافتة في الظلام، ثم كتمت أنفاسها مترقبة شعورها بملمس يده على خصرها كما يفعل في العادة، قبل أن تستأنف ذراعه طريقها نحو باقي جسدها، ثم أخيرًا يجذبها نحوه فتركن إليه في سكون، هناك بالقرب من دقات قلبه ولكن...،
طال انتظارها وطال معه صمته، فقررت التحدث وقطعه متسائلة في وهن :
-(( هو ممكن في يوم.. يعني لو.. لو رفضتك.. تعمل زيه؟! ))..
عضت فوق لسانها فور تفوهها بذلك السؤال المُلح والذي لا يبارح عقلها منذ يومين، وكلما نجحت في وأده يقفز أمامها من جديد وها هو خرج الآن دون أدنى قدر من التفكير، وللوهلة الأولى عندما لم يأتيها الرد منه ظننته نَائِمًا فحمدت الله سِرًّا على الفرصة الثانية التي وُهبت لها، قبل أن تتفاجئي به يجيب بصوته الأجش الخافت :
-(( أنتِ عارفة أنا عايزك من أمتي؟ !.. تقدري تقولي من أول زيارة لينا في بيت عمي.. ويمكن من قبلها.. أمتي بالظبط صدقيني لو قلتلك مش قادر أحدد.. بس اللي عارفه أني طول الوقت عايزك.. وقت فراقنا ووقت مصالحتنا.. حتى دلوقتي عايزك ورغم كده محترم مساحتك وقبلهم طلباتك.. فاطمني أنا مستحيل أكون زيه ))..
كان صوته هادئًا، ليس حاد وليس غاضب، ناعمًا إلى الحد الذي يُشبه الحرير، ولكن لاذعًا كالسوط، باترًا كالسيف، وبين طياته يكمن العتب، فاستدارت بجسدها على مهل تستلقي على الجانب الأخر وتصبح بذلك مواجهة له، ثم عدلت من وضع رأسها بالقرب من كتفه وانتظرت، وللمرة الثانية لم يحرك يده نحوها، بل لم يحرك ساكنًا من الأساس عند رؤيته لها قريبة منه بهذا الشكل، إذ ظل على وضعه، يطوي أحد ذراعيه خلف رأسه، بينما راحة الأخر مفرودة في استرخاء فوق قفصه الصدري، وعندما لم تجد بُدًا تحركت تُزيح بكفها ذراعه وتستبدل مكانها رأسها، ثم همست تقول في حزن وكأنها تشكي إليه :
-(( عمو أنور فاكر أني مش بحبك ))..
لم يأتيها منه الرد، فقط صوت أنفاسه الرتيبة ولو يعلم كم تاقت لسماع صوته يتدفق بالقرب من قوقعة أُذنها لما توقف عن الكلام، ولكن بالنظرة الأولية للموقف، يبدو أنه فضل الإصغاء كعقاب؛ لذا أردفت تسأل مستنكرة في عتب :
-(( معقول أنت كمان فاكر كده؟! ))..
شعرت بجسده يتشنج تحت لمستها وكأنه يُجاهد حتى لا يُجيبها، أو ربما يجاهد حتى لا ينطق بما يُحزنها، فهمست اسمه تستجديه في نبرة مختنقة :
-(( طــاهــر!! ))..
كرد فعل مبدئي على صوتها المشبع بالدموع حرك ذراعه سريعًا يحاوطها ويضمها إليه أكثر تاركًا أصابعه تموج في حرية فوق جانب جسدها، ثم رد ولكن بنبرة باردة عكس الحرارة المنبعثة من لمساته :
-(( لو سؤالك عشان عمي أنور فمتشغليش بالك بيه.. لأن مش من حقه يدخل في حاجة زي دي بيني وبينك ))..
حركت رأسها صعودًا وهبوطًا فوق صدره دون رفعها، فنتج عن ذلك احتكاك خفيف بينهم أجفل على أثره جسده، ولكن سرعان ما تجاهله وعاود إسدال أهدابه ونظراته الجائعة نحوها، بينما همست هي تقول في خفوت :
-(( أنا زعلانة.. وزعلي منك الحاجة الوحيدة اللي بتعجزني.. عشان وقتها بحس أني مخاصمة نفسي.. طاهر أنت لازم تفهمني.. أنا حاسة أني اتجرحت مرتين واتخدعت مرتين.. واتيتمت مرتين.. والأسوأ أني مضطرة أشرح لك ده.. من ساعة ما عرفت وأنا بفتكر يوم القضية.. أزاي بصتلي وكأني خذلتها.. أنت عارف كرهت نفسي قد إيه بسبب النظرة دي.. دلوقتي بس فهمت سببها.. عذرتها متأخر ويمكن لو كنت عرفت بدري كنت رحمت نفسي من تأنيب الضمير وفكرة أني خذلتها..
أنت عارف طول اليومين مش بعمل حاجة غير أني بفكر فيهم وفيك... وبعد ما فكرت كتير اكتشفت أني مش زعلانة منك.. بس زعلانة أكيد من تصرفك.. وفي عز مانا زعلانة من تصرفك وطلبت منك تبعد عني.. لقيت نفسي زعلانة عشان أنت مش جنبي!.. أنت فاهم حاجة؟! ))
في تلك اللحظة، تحركت ذراعه الأخرى كي تحاوطها ويصبح بذلك محاصرًا لها من جميع الجهات، ثم قام بطبع قبلة مهدأة فوق شعرها ولم يُعقب، بل اكتفى بالاستماع إليها، ففيما يبدو من حركة جسدها أسفله، لازال في جعبتها المزيد للإدلاء به، وبالفعل أردفت تشرح في حيرة دون النظر إليه ودون التفكير في إشعال ضوء المصباح، وكأنها تعمدت ترك الظلام يبتلعهم سَوِيًّا إلا من شعاع فضي بسيط ينير عتمة طريقهم في النهاية :
-(( أنا مستغربة نفسي أوي.. معرفش ليه حاسة أن عندي تبلد مشاعر.. وكأن بمعرفتي الحقيقة دي لقيت إجابة لكل سؤال كنت بسأله ومبلقاش ليه رد.. ولما لقيت الرد هديت ))..
صمتت لوهلة ابتلعت خلالها الغصة التي أصابت حلقها ثم استطردت تقول بتنهيدة عميقة :
-(( أنا الحمدلله راضية.. بس كنت دايمًا بسأل ليه بيحصل معانا كده.. ليه بابا يضحك عليه ونخسر كل فلوسنا وحياتنا؟.. ليه اتورطت في قضية زي دي وليه رائف بيكرهني كده؟.. ليه كل حياتنا متلخبطة!.. ليه اللي حصل في مصطفى بالذات.. وفجأة كل الإجابات اكتشفت بكشف الجواب.. عشان حياتهم اتبنت على باطل.. على غلط وعلى ظلم.. فطبيعي لا هما ولا ولادهم يرتـ.....))..
هتف يقاطعها في صرامة بعد أن وضع سبابته أسفل ذقنها ودفعها نحوه فمالت على أثر حركته رأسها للخلف :
-(( رحمة متكمليش.. لا أنتِ ولا مصطفى الله يرحمه ليكم ذنب في اللي حصل زمان.. كلها أقدار ومكتوبة.. كل اللي نقدر نعمله أننا نرضى بيها.. مصطفى بطل وشهيد.. وأنتِ متقليش عنه في الظلم اللي اتعرضيله.. ذنبه هو يخلص منه يوم القيامة.. مش منكم ))..
مالت برأسها أكثر نحوه حتى لم يعد يفصل بين وجهيهما سوي إنش واحد، ثم همست تقول في إنهاك حقيقي :
-(( طاهر أنا تعبت.. مش عايزة أزعل تاني.. عايزه أنسى كل حاجة.. حقيقي جوايا رغبة أني أنسى كل الماضي اللي اخد من حياتي كتير.. حاسه كأني عايزه أبدأ من دلوقتى.. مبقاش عندي طاقة حزن زيادة.. عايزة أربي أبننا أو بنتنا اللي جاي في هدوء من غير زعل وخصام ومشاكل.. مش عايزه أقوم يوم اكتشف أن لسه في حقايق تانية مستخبية.. والأهم مش عايزة أعيش مع تهديد أننا ممكن نتخاصم.. أو أنك تتخلى عني...
يمكن أكون مجنونة.. ويمكن أندم على قراري ده قدام.. ويمكن تقوم الصبح تلاقيني مغيرة رأيي.. بس دلوقتي.. وحالًا.. مش عايزة أقضي اللي باقي من حملي في قهر.. عايزة أجرب أفرح بيه معاك.. ينفع؟! ))..
ابتسم حتى ظهرت تلك الابتسامة في صوته عندما تحدث يجيبها ملاطفًا، بينما أنامله تعبث بخصلات شعرها المنسدل على جانب وجهها :
-(( وأنا إيه اللي رجعني الأوضة النهاردة من نفسي رغم أنك طلبتي تفضلي لوحدك ألا عشان مش عايز أسيبك أو أتخلى عنك!.. رحمة أنا بحبك.. يمكن بأسلوبي وعلى طريقتي الغلط بس خليكي عارفة أن أي خطوة هخطيها هتبقي عشان مصلحتك.. حتى لو هتزعلك مني.. حمايتك أنتِ واللي جاي منك هتبقي دايمًا أولوياتي.. خليكي عارفة ده كويس ))
حركت رأسها موافقة في هدوء، ثم سألته في خجل بعدما عضت طارف شفتها السفلية :
-(( مجاوبتش على تاني سؤال سألتهولك على فكرة ))..
تنهد في حرارة، ثم قال بعدما أحنى رأسه نحو فمها وطبع قبلة خاطفة فوقه :
-(( إجابته عندك أنتِ مش أنا ))..
تجعدت ملامحها وتململت بجسدها دون الابتعاد عنه، هامسة في ضيق:
-(( ده بجد!.. معقول تفكر أني مش بحبك!!.. مستحـــيــــل.. أنت خلاص بقيت عايش في روحي.. حبك أناني يا طاهر.. مقبلش غير لما خلاني كلي ليك.. بروحي وعقلي وأخرهم جسمي.. أنت الأول والوحيد ))..
ألصقها أكثر لجسده ماحيًا حتى فراغ ذرات الهواء من بينهم، بينما طاف فمه وجهها وصولًا إلى فمها مُسْتَقِرًّا عنده وقد تدفق داخل جسده بركان من فيض المشاعر المحمومة عند سماعه إجابتها، محررًا بعد لحظات فمها، فأردفت تُتمتم في حرج :
-(( أنا آسفة على السؤال الأول مكنش قصدي.. لأن ثقتي فيك أكبر من أني أسأله.. ولأن اللي بينا مختلف.. محدش هيفهمه ويقدره غيرنا ومينفعش يتقارن بحد.. وأنت بالذات مينفعش تتحط في خانة واحدة معاه ))..
حرك رأسه متفهمًا في بساطة، بينما يداه تمارس فوق جلدها كل فنون العبث والإغواء، قائلًا من صميم قلبه الهادر :
-(( وأنا كمان أسف.. تعرفي أني مخفتش في حياتي من حاجة قد ما خفت من الجواب ده.. كنت خايف يفرقنا عن بعض.. وكل ما كنت أنوي أقولك الحقيقة واشرحلك موقفي أخاف تبعدي عنه أو تزعلي مني فأسكت.. بس لازم اعترفلك اني محسبتهاش صح.. ومفكرتش ان كدبتي هتوجعك مرتين غير لما أنتِ نبهتيني دلوقتي.. عشان كده بعتذرلك.. أسف أني كنت سبب في جرحك من جديد ))..
طبع قبلة معتذرة فوق جبهتها، ثم أردف يقول في نبرة مبحوحة متحشرجة :
-(( وأسف أني خالفت كلمتي معاكي بعد ما وعدتك أعوضك عن الحزن اللي شفتيه ))..
أنهى جملته بطبع قبلة أخرى داخل راحة يدها، ثم استطرد يقول بنفس النبرة الحريرية المغرية :
-(( وأسف عشان خيبت ظني فيكي.. بس بوعدك من النهاردة مش هخبي عليكي أي حاجة.. مهما يحصل هنواجه سوا ))..
ختم اعتذراته ووعوده بإعادة نثر قبلاته فوق كل ما سبق ناهيًا رحلة شفاه عند ثغرها الذي انفرج تلقائيًا لاستقبالهم، بينما همست متأوهة من ضغط أصابعه فوق خصرها :
-(( طب بالنسبة.. لإجابة سؤالي.. الأول.. لسه محترم.. مساحتي؟! ))..
رأت في عينيه القريبة منها الإجابة وسمعتها من لهاث أنفاسه، وأيقنتها من نبض قلبه الصارخ مطالبًا بها.....
نعم سمعتها بوضوح وكلما أرهفت السمع أكثر كلما اشتعلت دواخلها تجاوبًا وتفاعلًا معه، وقد أدركت فجأة أنها تشعر به بكل حواسها وليس فقط بفؤادها...
ومثلما تآلفت القلوب واتحدت الأرواح، امتزجت وتعانقت الأبدان ترتوي من نهور العشق وتطفىء جمرات الشوق المتقدة.
يقال إن العبرة بكمال النهايات، لا بنقص البدايات، ولطالما آمنت وعلى عكس الجميع بأن النهايات دائمًا ما تكون فرصة لبدايات جديدة حتى وإن استصعبت طريقها في بادئ الأمر، وأن أفضل طريقة لفتح صفحة جديدة هي بالعفو عمن ظلمك، والامتنان لربك، والحفاظ على ما وهبك....
تنهيدة حالمة صدرت من فمها المغلق، بالتزامن مع التهام عينيها لملامحه الغافية جوارها، أو لتكن أكثر دقة، ملامحه الملاصقة لها، ودون أن تعي ما تفعله وجدت فمها يقترب منه واضعة في حذر قبلة وداع فوق وجنته، قبل أن تنسحب من أحضانه خارجة، وعندما قاربت على النجاح في التسلل من فراشه شعرت بيده تجذبها نحوه أكثر، متسائلًا في نعاس :
-(( رايحة فين يا أستاذة؟! ))..
همست تُجيبه في حرج وذكري جنون وصالهم البارحة لازالت تطاردها وتشعل وجنتيها بحمرة الخجل :
-(( هقوم ألبس حاجة مناسبة أحسن لينة تدخل الأوضة علينا زي ما متعودة ))..
تحرك يُخفض جسده للأسفل فأصبح وجهه مقابلًا لتجويف عنقها، بينما ذراعه تشدها من خصرها حتى يُعيدها إلى موضع نومها الأصلي داخل أحضانه، متتبعًا بشفاه أثار ما طبعه البارحة فوق بشرتها البيضاء، فارتجفت بشعور حلو غريب ثجاوبًا مع نعومة لمسته، وقد بدأت دماؤها تفور داخل أوردتها عندما وصل صوته المكتوم إليها يقول مطمئنًا من بين مداعباته المدروسة :
-(( متخافيش.. قفلت باب الأوضة بالمفتاح.. لو حاولت تدخل مش هتعرف هتخبط الأول.. وبعدين طلبت من ماما بليل تخلي بالها منها لحد ما أقوم.. يعني اطمني ع الأخر.. محدش هيزعجنا ))..
شهقت في عدم تصديق، قبل أن تهتف متذمرة في حرج :
-(( كده يا جواد!!.. طب مامتك هتقول عليا إيه دلوقتي.. أكيد هتفهم ليه لينة مش بايتة معانا.. خصوصًا بعد طلبك ده ))..
رفع رأسه ينظر إليها مستنكرًا بزاوية حاجب مرفوع، ثم تشدق يقول في حنق :
-(( ومفكرتيش هتقول عليا إيه لما لينة تنام معانا كل ليلة!.. ولا مش همك غير نفسك ))..
نطقها بمنتهى الجدية وكأنها مسألة حياة أو موت بالنسبة إليه، فلم تستطع تمالك نفسها من جوابه الساخط وانفجرت ضاحكة دون القدرة على كبت ضحكاتها العالية، بينما أردف هو يقول في نبرة أقل حدة :
-(( عجبك الوضع دلوقتي!!.. قال لينة قال!!.. مش كفاية بقالي شهرين بتنام بينا لما تلاقي البيت كله قطع في فروتي! ))..
همهمت تسترضيه من بين ضحكاتها المتفرقة :
-(( لا يا حبيبي محدش يقدر يقول عليك حاجة.. خلاص اللي أنت تشوفه.. بس في كل الأحوال عندي اجتماع في الجمعية محتاجة اتحرك كمان شويه عشان ألحقه ))..
زمجر مستفسرًا وهو يلف بعضًا من خصلات شعرها الثائرة على أصبعه ويجذبها منها ببعض العنف الظريف :
-(( اجتماع إيه ده إن شاء الله.. أنا واخد النهاردة إجازة ومش ناوي أقضيه معاهم تحت سمعاني ))
تأوهت في خفوت رغم علمها بمشاكسته لها، ثم قالت على مضض :
-(( ده اجتماع يا جواد كان متحضرله من أسبوع وهيبقي شكلي وحش لو محضرتش ))..
صمت قليلًا يتفرسها في تركيز، قبل أن يميل برأسه جانبًا يتفحصها ويتأمل احمرار وجهها وقد تبدلت ملامحه في الحال، ثم سأل مستفسرًا بنبرة عذبة متحشرجة، بينما يده تشق طريقها نحو الرداء الحريري القصير الذي ترتديه :
-(( طب مينفعش حد يحضره غيرك ))..
قفز قلبها بداخل أضلعها تأثرًا بحلاوة نبرته ونعومتها، وارتعش جسدها من وقع أنفاسه الدافئة اللافحة ترقوتها، واضطربت جوارحها من قربه دون أن يقترب حقًا، بل كان يحاول إقناعها بأسلوبه الخاص، فهمست تستوقفه في مقاومة وهنة :
-(( جواد.. خليني....... ))..
سألها مستفسرًا من بين مداعبات شفاه لبشرة وجهها :
-(( أخليكي إيه ))..
همست تُجيبه بعدما أغمضت عينيها باحثة عن مقاومتها الهاربة، بينما امتدت يدها الخائنة نحو خصلاته واختفت بداخلها :
-(( خليني أروح.... ))..
همهم رافضًا قبل أن يبتلع اعتراضها بداخل فمه، وتستسلم هي لإرادته ولجنون ما حدث بعد ذلك، ففي قوانين العشق يقال أن العناق حياة، وما يليه هو منتهى لذة تلك الحياة
**************************
الناس في فتن المحن نوعان، أما رافض وقانط، وأما صابر مرابط، والعهدة على قوة الإيمان...
فالبعض يري البلايا منحة ربانية، عظة، وفرصة للتغيير، وآخرون يعتبرونها نقمة ويسلكوا نهج التدمير...، والبداية من تدمير الذات ثم الإنكار والحجود، ونسيان أن الرضا والصبر أفضل من رسم الخطط، وأن القبول هو الخطوة الأولى في طريق الجبر...
فكم من امرىء ظن العباد به خيرا، نكص على عقبيه ساقطًا في وحل الضغينة والكراهية، وكم من شخص تخلي عن مبادئه وقت الشدائد، فإذا به ينقلب حليفًا لأهواء لشيطان، ومنفذًا لرغباته....
فالشدائد دائمًا ما كانت كاشفة لقيم المرء ومدى صدق فضائله، وفي النهاية لا يصحُ إلا الصحيح ولا ينجح الإنسان ألا بسلكه الطريق المستقيم....
هذا ما اكتشفته مؤخرًا، بعد كل ما قطعته من أشواط في الدروب الخاطئة، ها هي تعود إلى نقطة البداية، تجلس أمامه والخجل يأكل داخلها، حتى أنها لا تقوى على رفع عيناها في وجهه ومواجهته، ولكن.....
إذا أرادت بدأ صفحة جديدة وجبت عليها المصارحة، حتى وإن كانت زوجته تجلس جواره بعد أن رفض رفضًا قاطعًا الاختلاء بها؛ لذا وبعد أن سحبت نفسًا عميقًا تستجمع به شجاعتها الزائفة، همست تقول في خزي، بينما رأسها مطأطأ للأسفل :
-(( أنا عارفة كويس أني مش مُرحب بيا هنا بعد أخر مرة.. بس الزيارة دي لازمة.. اعتبرها كرامة لخالك الله يرحمه )
أومأ يحيى برأسه للأسفل كأنه يحثها على الاستئناف وقد استنفرت كل حواسه استعدادًا لهذا اللقاء الملغم، في حين ذراعه امتدت تبحث عن يد زوجته حتى وجدها فسارع باحتضانها والضغط فوقها يؤازرها ويبث الطمأنينة إليها في صمت، وقد جلس كلاهما فوق الأريكة يستمعان إلى "جيداء" وهي تستطرد على استحياء :
-(( قبل أي حاجة ورغم أني متأكدة أني اتاخرت.. بس عايزه اعتذر من علياء على أخر موقف حصل مني.. صدقيني معرفش أنا عملت كده أزاي.. بس كل اللي طلباه منك أنك تسمعيني للأخر يمكن تعذريني....
معرفش ممكن يكون يحيى حكالك أو لأ فأنا هقولك مختصر لمأساتي والحاجة اللي وصلتني للوضع ده.. مش هخوض في تفاصيل لأن الذكرى لوحدها بتوجعني.. فباختصار.... أنا كان عندي طفلة واتخطفت مني في باريس.. صرفت فلوسي زي ما صرفت عمري وأنا بدور عليها....
هتقولي اللي راح مبيرجعش هقولك قلب الأم ملهوش في المنطق.. فضلت عايشة على أمل ألاقيها لدرجة ان الموضوع قلب عندي هوس.. مانا رافضة اعترف أني فقدتها للأبد.. لحد ما وقعت في طريق رجل أعمال.. جالي وفهمني أنه محتاج مساعدتي في المقابل هيدلني على طريق بنتي بحكم شغله في المجال ده.. وأكدلي أن رجوعها ليا سهل بسبب علاقاته الكتير مع المافيا والناس دي.. كل اللي مطلوب مني أساعده في حاجة صغيرة.. تخيلي لو أنتِ مكاني وأم محروق قلبها على بنتها وجاتلك فرصة تجتمعي بيها من جديد هتعملي إيه؟! ))..
ابتسامة باهتة لم تصل لعينيها الدامعة اعتلت ثغرها، ثم أردفت تعترف على مضض :
-(( مش لازم أعرف ممكن تكون إرادتك أقوى مني.. لأني في لحظتها قدمت كل فروض الطاعة والولاء من قبل حتى ما اعرف طلبه.. اللي كان أنت يا "يحيى".. ))..
في تلك اللحظة وفور نطقها باسمه، شعر بكف علياء يرتجف تحت قبضته، فبدأ يمسح بابهامه ظاهر كفها دون تعقيب، فالأمر كان أقرب إلى جلسة اعتراف منه إلى لقاء عائلي، بينما استمرت الزائرة المذنبة في تعرية روحها والاعتراف بخطاياها :
-(( طبعًا مش محتاجة أقول رجل الأعمال ده مين.. هو أبو المجد الزفت.. كان طلبه بسيط.. محتاج أوراق منك ومش عارف ياخدها.. فكل اللي عليا أني أرجع مصر وأحاول أقرب منك وادخل بيتك أجبله الأوراق.. ولما تخلص مهمتي هيجبلي لارا لحد عندي.. وفعلًا بدأنا ننفذ واكتشفت أنك خاطب وهتبدأ حياة جديدة.. النار ولعت في قلبي.. ومش حب متقلقش.. بس حقد عليك ما لولا زيارتي ليك مكنتش لارا ضاعت مني.. يعني أنت السبب في اللي حصل وكان أقل حاجة أعملها انتقامًا منك هي أني ابوظ حياتك زي ما حياتي باظت.. ولما معرفتش أقرب منك مكنش قدامنا غير حل الحادثة.. واتنفذت صح ولتاني مرة بعد ما شفت حبكم لبعض الحقد عمي قلبي وقررت افرق بينكم بكذبة انك ردتني وأني مراتك ))..
هنا تدخلت علياء تهتف في ضيق بعدما تململت في مقعدها بنفاذ صبر :
-(( عارفين يا جيداء أنها كذبة.. يحيى رجعلته الذاكرة من فترة.. وحكالي كل حاجة متقلقيش.. وحياتنا مباظتش ولا حاجة اطمني )).
أومأت الأخرى رأسها موافقة في حرج وقد وصلت إليها كافة الذبذبات الغاضبة، ثم أردفت البوح بخطاياها بابتسامة ساخرة :
-(( عمتًا نفذت طلباته واكدتله أن مفيش نسخ أوراق في بيتك وآخر حاجة ساعدته فيها أنه ياخد الأوراق من بيت غفران.. في المقابل يجبلي البنت.. بس محصلش.. فضل يماطل ويماطل لحد ما اتقبض عليه للأسف.. والنهاردة لما زرته في الحجز قالي أنه ميعرفش مكان بنتي.. وإنها مستحيل تكون عايشة كل الفترة دي.....
حسيت أن ده عقابي.. أنا كنت أنانية وحقودة وطماعة.. مفكرتش للحظة واحدة أني أحمي البنات من آذاه زي مانت وغفران حاولتوا يا يحيي.. كان أهم حاجة عندي رجوع بنتي وبس.. ونسيت أن البنات دول كمان من لحم ودم وواجب عليا حمايتهم والوقوف قصاده.. وفهمت أن تصرفاتي هي اللي خلتني وحيدة وكل الناس بتكرهني.. وبعد كل ده طلع مفيش لارا......
وعشان كده أنا جتلك النهاردة يا يحيي.. أنا محتاجة أتعالج.. لازم أخف وأتقبل موتها ومحدش غيرك هيقدر يساعدني.. عارفة أني غلطت في حقك بس خليك أحسن مني وعالجني..
أنا قررت أتبنى بنت من بنات الملجأ وأتكفل بيها يمكن أكفر عن ذنوبي وأبدأ من جديد.. بس مش عايزه أخد الخطوة دي غير لما أتعافى من هوسي بـ لارا.. فأبوس أيدك يا يحيي أقبل أنك تساعدني.. وقبلها تسامحني.. صدقني أنا مساعدتهوش في أي حاجه تاني والله العظيم.. اتفاقنا كان عليك وبس ))..
أنهت توسلها بالركوع علي ركبتيها ومد كلا ذراعيها نحو يده، فسارع بسحب كفه بعيدًا عنها، قبل أن ينتفض من جلسته وَأْدًا محاولتها تقبيل يده، بينما تحركت علياء تجلس هي الأخرى على ركبتيها مقابلًا لها، ثم بدأت تمسح على ظهرها مواسية وقد أمتلئت مقلتيها بالدموع تأثرًا بحالها، خاصةً بعد اكتشافها في الصباح أمر حملها، لذا فهي باتت تعلم معنى الأمومة، والعشق الذي يحتله في قلبك من قبل حتى رؤيته، أما عن جيداء فقد ارتمت في أحضان من كانت تراها يومًا غريمتها، تنتحب في البكاء عله يُريح ويطهر داخلها، وعلها تبدأ من بعده عهد جديد.
**************************
بعد مرور أربعة أشهر........
من أسوأ الجرائم التي قد يرتكبها الإنسان في حق ذاته البشرية، هو إقناعها بأنه المخول بتصريف أمورها، وهو الوحيد القادر على تسيريها وفقًا لهوي رغباته الشخصية، فالأحمق هو من يعتقد أن خيوط اللعبة بيده، متناسيًا أن الكون بأكمله يخضع لقوة أقوى وأعظم منه، يمكنها تحويل أعظم لحظات انتصاراتك الخاصة، إلى أكبر الهزائم......
نفس الألم الضارب أسفل ظهرها في كل مرة، نفس ذلك الوجع الذي يعتصر رحمها فجأة وعلى حين غرة، ونفسها ذات الحسرة التي تُزهق روحها حتى الأعماق، وهو ذاته الشعور بالخواء والفراغ عند علمك بموت جزء داخلي منك وفقده إلى غير رجعة....
كل تلك الأحاسيس المؤلمة عادت تختبرها من جديد بكافة تفاصيلها، وكأنها حُبست داخل حلقة زمنية مكررة، فكل ما تفعله هو معايشة ذلك اليوم مرارًا وتكرارًا دون وجود أمل في المخرج!....
صرخت فدوت صرختها المستنجدة بداخل إحدى أروقة المشفى، حيث يركض جوارها زوجها، بينما يتابع بهلع الدماء المتدفقة من أسفلها :
-(( آاااااه.. بموت يا بدرررر.. اتصرف أبني بيروح مني تاني ))..
كان عاجزًا عن النطق كما هو عاجز عن فعل أي شيء آخر، وقد تيقن هو الأخر من فقدانه جنينهم بعد رؤيته كل ذلك الكم من الدماء فور وصوله المنزل، فكل ما استطاع فعله هو التواصل مع طبيبها الخاص وأخباره بما حدث، والذي أمره بسرعة إحضارها إلى مشفاه دون تأخير لفحصها والوقوف على ملابسات الموقف، وها هو يركض جوارها مقطوع الأنفاس وكل ما يأمله حدوث معجزةً ما تحمي طفلهم، وتُحيي الأمل داخل قلوبهم!.....
ولكن... طال انتظاره بعد إيصالها إلى غرفة الفحص، وطال معه ترقبه، وبعد حوالي نصف ساعة مرت عليه كنصف دهر كامل، خرج الطبيب المشهور يقول في أسى :
-(( للأسف يا أستاذ بدر مفيش في أيدي حاجة تتعمل.. وصلت المستشفى والجنين ساقط.. البقاء لله ))


تعليقات