رواية في لهيبك أحترق الفصل السابع عشر 17 بقلم شيماء يوسف

             

رواية في لهيبك أحترق 
الفصل السابع عشر 17
بقلم شيماء يوسف



مابَيْنَ قَسْوَةٍ وَحَنَانٍ ، حائِرةٌ ضائِعة ، تائهةُ الأسَاريرِ
صُدْفْةٌ كانَ أَو قَدَرُ اللِقاءِ ، لا أَدْرِى فَقَدْ أَرْهَقَنى التَفْكير
هَلْ تَعْشَقُنى؟ أَم تَكْرَهُنى؟ هَلْ لا تُبِالِى ، أَم تُغِير؟
فَتارةً تُدٌلِلُنى بِعِشْقٍ يَجْتاحُ نَظَراتِكَ ، ثُمَّ تارةً مِن قَسْوَتِكَ أَسْتَجِير
أَراكَ حَوْلى ، وٌكأَنَّكَ ظِلٌ لى لا يُفارِقُنى ، أَراكَ أَمامى كُلَّمَا أَستدير
تُحيطُنى كما لَوْ كُنتَ ذاتَك ، وتُعَذِّبُنى وكَأَنَّ عذابى لك إِكْسِير
جُنونٌ يَجتاحُ الوجدان وعَجَباََ من نفسٍ لا أسْتطيعُ لها تفسِير
ظَنَنْتَنى أَمقُتَكَ ولكن دقاتُ قلبى تُخِبِرُنى أَننى فقط لا أُحسنُ التقدير
فَمِن جَوْفِ الغموضِ يَنْمو عِشْقاََ لا أُدرِكُ سبباََ لَهُ ، ولا أَظُنُّكَ به جَدِير
وَلكنَّهُ العِشْقْ إِن أصابَ القَلْب ، أَصْبَحَ مُقَيَّداََ بِسَلاسِلِهِ كالأَسيرْ
ولكِنْ مَهْلاََ ، لِمَ أنا موقِنة مِنْ أنَّكَ مُجْبَرٌ ، مِثْلى تَماماََ لَمْ نَمْنَحْ فُرْصَةََ للتَخْيير؟
رُبَّما أَنْتَ مُجْبَرٌ على أَنْ تَكونَ هَكَذا؟ هَلْ وَراءَكَ سِرْ ، أَمْ ماضٍ مَرير؟
لِم أَكادُ أُقْسِمُ أَنَّ بِداخِلِكَ رَجُلاََ آخر يعشَقُ كَيْنونَتى ؟ فَدَعْكَ مِنْ قَسْوَةٍ بِلا تَبْرير
وهَيَّا أَخْبِرْنى بِخَبَايَا نَفْسِكَ ، وإِفْتَحْ لى قَلْبَكَ الكبِير
إسْتَسْلِم لِلْعِشْق فلا مَفَرْ مِنَ الهَزِيمة ، لَن تَستَطعَ لواقعهِ تغيير
وكَمَا فِى لَهِيبِكَ أَحْتَرِقْ ، تَكْويكَ نارى ، فكَفانا عَذاباََ يفوقُ الخيالَ و التصويرْ
ودَعْنا نَعيشُ نَعيمَ العِشْقْ ، فَقَدْ إِكْتَفَيْنا مِنَ النيرانِ بَعْدَ أَنْ أَصْبَحَ العِشْقُ لَنا مَصِيرْ .
-الخاطرة إهداء من المبدعة 🌷شاهندة 🌷.
أزداد أتساع بؤبؤ عيناه ، وتحشرجت أنفاسه ، وأضطرب سكونه الموضعى ، قبل قفزه من مقعده ، وأنتصابه واقفاً ، يطالع بحدقات يطل منها الفضول فم صديقه ، الذى يتحرك صعوداً وهبوطاً فى توتر ملحوظ ، بينما ما تبقى من قسمات وجهه وجسده ، دخلت على الفور فى حالة من التيبس ، حتى أنه كاد يقسم برؤيته لبعض حبات العرق تُزخ من فوق جبينه ، قبل أستدارته برأسه ينظر إلى والده الجالس بهدوء فوق المقعد المتحرك ، يستشف ما فاته من تلك المحادثة دون جدوى ، فقد كان الأخير ينظر فى صمت إلى الفراغ ، ينتظر صدور حكم الأعدام على مصداقيته ، شاعراً بالاختناق يُرخى سدوله على المكان من حوله ، لذا سارع يتسائل بتوتر انتقلت ذبذباته إليه تلقائياً من الجو المحيط به :
-(( فى أيه يا طاهر ؟! ، فى أيه يا بابا ؟! ، نسب أيه وتقرير أيه وعشان مين ؟؟ ، ما تتكلم يا طاهر وتفهمنا الموضوع !! )) ..
قال طاهر بنبرة شبهه مرتبكة :
-(( حاضر هقول .. بس قبله هطلع كل أوراقى )) ..
صمت لوهلة يُخرج من جيب بنطاله الخلفى مغلفان أخران وضع أحدهما فوق الطاولة المربعة الموضوعة أمام المقعد ثم أستطرد يقول بثبات نسبى :
-(( دى وثيقة زواج ، بأسم السيدة فريدة حسين السيد ، والدة رحمة )) .
صمت مجدداً يرفع المغلف الأخير أمام وجهه بعدما رمق عمه بنظرة جانبية يستبين بها ردود فعله ثم أردف يقول بجدية شديدة بينما أصابعه تقبض على المظروف ويكأنه كنزه الثمين :
-(( وده جواب ، وقع فى أيدى بالصدفة وكان سبب سفرى ، هتعرفوا جواه أيه لما يجى وقته )) .
تسائل جواد هاتفاً بنفاذ صبر :
-(( أيوة !! ، أنت عايز أيه دلوقتى !! ، ما تتكلم على طول يا أخى وبلاش ألـغــاز !! )) .
-(( أنا اللى هتكلم مش طاهر )) .
ألتفت كلاهما على صوت السيد أنور الذى هتف يقول تلك الجملة بقوة ، ثم أستطرد يقص عليهم بثبات ما حدث فى الماضى البعيد وعيونه تلمع بمزيج غريب من الحزن ، الندم ، وجزء صغير للغاية من الأشتياق :
-(( زمان ، كنتوا أنتوا لسة صغيرين كلكم ، وبعد ما قررنا أنا وابوك يا طاهر نسيب البلد ونيجى نستقر هنا ونفتح شركة ، جالنا عرض من شركة مقاولات فى الخليج ، تبادل خبرات ، شافوا أننا بفضل الله حققنا نجاح كويس فى فترة قليلة وحبوا يستعينوا بحد مننا فى شركة هناك لسه بتبدء ، وانتوا عارفين بقى المهندسين المصريين زمان كان ليهم قيمتهم أزاى ، أما أحنا طبعاً ما صدقنا ، أنا وحكيم شفناها فرصة متتعوضش ، أنتداب لحد فينا لمدة سنة وأعلان التعاون المشترك هيعلى أسمنا فى السوق ، ومنه نثبت لجدكم الله يرحمه اللى مكنش موافق نسيب أرضنا وبلدنا أننا فعلاً قدرنا ننجح ، ولظروف تعب والدتك يا طاهر عرضت أنا أسافر وحصل ، وهناك فى الشركة أتعرفت على زميلين مصريين ، أصدقاء من قبل السفر حتى ، شهاب حسين السيد ،  كان مسافر كمحرم مع أخته فريدة اللى كانت شغاله ممرضة ومنه لقى شغل فى الشركة دى ، وعز الدين النويري ، والد رحمة الله يرحمهم جميعاً وخلال فترة صغيرة بقينا صحاب بحكم أننا مصريين زى بعض والواحد فى الغربة بيتعلق زى الغريق فى اللى منه )) ..
قاطعه هتاف جواد يستفسر بعدم تصديق :
-(( أنت يا بابا كنت تعرف أبو رحمة ، وخالها !! )) ..
أجابه والده بنفاذ صبر :
-(( يا بنى أستنى هشرح كل حاجة ، متستعجلش على الكلام ، وبعدين مانا قلت قبل كدة لعلياء وأمك ، رحمة تبقى بنت صاحبى من زمان بس محدش أهتم )) ..
غمغم جواد معتذراً فى حين أردف والده يضيف بأستفاضة :
-(( شهاب وعز كان ليهم صاحب تالت ، أسمه أيمن ، أيمن الشافعى ، طبعاً مش محتاج أقول أبنه مين ، المهم نرجع لقصتنا ، بعد كام شهر من صحبتنا ، بدءت تحصل مشاكل وتنتشر ، وأسمع من عز الدين عن أخت شهاب ، الممرضة الحلوة ، اللى أيمن شافها مرة وأتجنن بيها ، وأتقدم لشهاب عشان يخطبها بس هى رفضت ، ورفضها جننه لدرجة أنه بدء يضايقها ، وفى يوم حاول يعتدى عليها عشان يجبرها تتجوزه ، ساعتها عز جالى يقولى شهاب مستنجد بينا ، بس محرج يكلمنى عشان ده شرف اخته ، وخلاص مش لاقى حل غير أنه ياخدها وينزل مصر عشان يحافظ عليها ويحميها من شر أيمن )) ..
توقف للحظة أبتلع خلالها لعابه ثم أستطرد يقول من جديد بأنفاس مثقلة :
-(( مش هكدب عليكم كنت وقتها نفذت كام مشروع وأسمى بدء يتعرف هناك وبقى ليا معارف مهمة ، فوقتها هددت أيمن ، يا يسبها فى حالها يا مش هيكون ليه عيش فى البلد دى من الأساس ، بس هو أنكر كل حاجة ، وقال أنه بس بيحبها وعايز يتجوزها وتكون أم بديلة لأبنه رائف ، وكل اللى أتقال عليه كذب وأفترى من عز، صدقته وسكت على الموضوع شويه لحد ما فى يوم لقيت شهاب بيتصل بيا وبيقولى أنه خلاص هيسيب الشركة ويرجع مصر لأن أيمن طلع على أخته سمعة مش كويسة ومفيش قدامه حل غير الهروب بيها )) ..
ألتوى ثغره بأبتسامة ساخرة ثم أردف يقول بتهكم واضح :
-(( وقتها العرق الصعيدى اللى جوايا طلع ، وعرضت عليه بناءاً على فكرة عز الدين أن حد مننا يتجوزها لفترة كحماية ليها ، وبما أنى كنت الطرف الأقوى من أيمن على عكس عز ، قررت أنى أكلم شهاب وأعرض عليه ، وفعلاً تم الجواز لفترة ، وبعد ما نزلنا مصر وأتاكدت أن أيمن يأس منها ، طلقتها ، ومن بعدها أتقطعت كل أخبارى بيهم ، حتى لما رائف ظهر كصاحب لعمرو الله يرحمه وعرفت أبوه مين ، أحتفظت بالسر لنفسى ومحبتش أعكر العلاقة بينهم بماضى راح وأنتهى )) ..
رفع رأسه يستوضح رد فعله أبنه ثم عاد يقول بندم واضح :
-(( طبعاً بما أن طاهر طلع قسيمة الجواز يبقى عارف الحكاية ، بس بالنسبالك يا جواد ، صدقنى دى غلطه ندمت عليها ، أمك متستاهلش منى كدة ، ومعرفش ليه أتهورت فى قرارى مع أن كان فى مليون حل غير الجواز أحميها بيه ، بس وقتها كلنا شفنا أنه الحل المناسب ، وعزائى الوحيد فى غلطتى دى ، أنى صارحت كريمة بيها ، وخيرتها تسامحنى وتفضل معايا ، أو تاخدكم منى وتنفصل ، وفاجئتنى أن قلبها أكبر من الكل ، وأنها كريمة حتى فى مسامحتها )) ..
تنهدت طاهر مطولاً بتوتر عائداً بالذاكرة إلى زيارته الأخيرة مع ذلك الكريه المسمى رائف ، حينما أوشك على الخروج وأستوقفه يقول بشماتة :
-(( ويا ترى عصبيتك دى كلها عشان عرفت أن مراتك تبقى بنت عمك ؟! ، ولا عرفت الحقيقة دلوقتى ؟! متاخر كدة زيى ؟! )) ..
مسح فوق قسمات وجهه المتجهمة بعدما عاد إلى الوقت الحاضر ثم قال بخفوت :
-(( أنا دلوقتى فهمت كل حاجة ، فاضل حاجة أخيرة محتاجها منكم عشان لو رائف كشف السر اللى للأسف طلع عارفه ومحدش يسألنى أزاى ، مع وعد منكم أن اللى هيتقال ده يتحفظ بينا )) ..
**************************************
سار وحيداً بخطواته الرتيبة مهتدياً بضوء القمر المتسلل إلى الأرض ، يمشى فى الطريق المفضى إلى منزله على مهل ، تاركاً المساحة الكاملة لعقله فى التفكير فيما حدث اليوم ، وكم الحقائق التى تحصل عليها منذ البارحة إلى وقته هذا ، مقاطعاً تفكيره ، رنين هاتفه الذى دوى فجأة وجعله يجفل قبل أن يجيب بشرود :
-(( خير يا ماسكيم ؟! ، أتصالك فى الوقت ده قلقنى ؟! )) 
أجابه ماسكيم بنبرة مرتاحة :
-(( لا تقلق سيد طاهر ، لقد علمت بخبر عودتك ، وفى الحقيقة فيما يخص قضية شقيقك الراحل ، هناك بعض الأدلة الجديدة التى ظهرت أمامى ، فأذا أردت يمكننا التحدث الأن ، أو غداً فى الشركة )) ..
هتف طاهر يقول بلهفة :
-(( دلوقتى وحالاً ، أنا فى البيت لو تحب ساعة وأكون عندك )) .
أجابه ماكسيم معترضاً :
-(( ليس هناك داعٍ سيد طاهر ، أنا فى مكان قريب نسبياً من منزلك ، لذا سوف أصل إليك بعد قليل )) ..
غمغم طاهر موافقاً بقوة قبل أنهائه المكالمة ، ثم ركض على عُجالة إلى المنزل ومنه إلى غرفة مكتبه ، يتابع من خلف النافذة الممر المؤدى إلى بوابة المنزل الداخلية حتى لمح من بعيد طيف التحرى الخاص ودلوفه مكتبه ، وقتها هتف يسأله بتوق :
-(( ايه هى الأخبار ؟! ، ها عرفت مين ورا قتل عمرو ؟! )) ..
أبتسم التحرى الخاص متفهماً لهفة مستأجره ثم قال بترو :
-(( ليس تحديداً ، ولكن فيما يخص تلك القضية أشعر بأننى ملزم على أطلاعك كافة التفاصيل ، حتى الغير مهمة منها )) ..
أومأ طاهر رأسه مستحسناً كأنه يحثه على المضى قدماً ، فأستطرد ماكسيم يشرح بهدوء :
-(( بعد الأطلاع والتدقيق فى حيثيات الحكم ، أسمح لى أن أرفع القُبعة لمحامى دفاع السيدة رحمة ، لذكائها فى تقدير الأمور ، ورغم ذلك هناك بعض الثغرات البسيطة التى أغفلت عنها ، وأغلب ظنى هنا ، وأعتقادى لأنها تخص الجانى وليس موكلتها )) ..
قاطعه طاهر يسأل بفضول :
-(( قصدك أيه ؟! لسه فى دلائل تانية تخص براءة رحمة ؟! )) ..
أجابه الأجنبى شارحاً :
-(( نعم ، ولكنها جميعاً تخص الجانى الحقيقى ، أسمح لى سيد طاهر أن أخبرك بكامل شكوكى ، فنحن هنا بصدد حالة قتل أحترافية ، ومع ذلك أَجِد فيما يخص حالة السيدة رحمة الكثير من الثغرات الكفيلة بصدور حكم برائتها منذ الجلسة الأولى ، وهذا تحديداً ما حدث ، رغم صعوبة الأدلة الأخرى والخاصة بالقاتل الفعلى )) ..
تأفف طاهر فى مقعده يريد القفز إلى الجزء الخاص بالجانى ، لذا هتف يسأل بنفاذ صبر :
-(( يعنى اللى فهمته من كلامك ، بتأكد براءة رحمة ، ووصلت لمعلومات تخص الجانى الحقيقى !! ، صح ولا فهمى على قدى ؟! )) ..
قال ماسكيم مؤكداً :
-(( نعم سيد طاهر ، بصرف النظر عن وجود شاهد أساسى تعذر الوصول إليه من قبل المحكمة الأ وهو السائق الخاص بشركة الشافعى على حسب أقوال السيدة رحمة ، ومحاولة بعضاً من رجالى البحث عنه كشاهد أثبات ربنا يُطلعنا على مزيد من المعلومات ، أكتشفنا بعد فحص وتدقيق لجميع كاميرات المراقبة ، الخاصة بكل طوابق المنزل القاطن به شقيقك المتوفى ، أنحصرت شكوكنا حول ثلاثة أشخاص ، سكان جُدد ظهروا قبل الحادثة بمدة لا تقل عن أربعة أيام ولا تزيد عن التسعة ، والغريب فى الأمر ، جميعهم رغم أختلاف جنسياتهم ، دخلوا مصر فى الوقت نفسه ، كما أن هناك نقطة أخرى ، واحد يقطن فى الطابق العلوى لشقيقك ، وأحدهم فى الطابق الذى يليه ، أما الأخير وهو إيطالى الجنسية ، يقطن فى الطابق الأول )) ..
قاطعه طاهر يسأل بعدم فهم :
-(( وأيه اللى خلاك تشك فيهم بالتحديد ؟! )) ..
أجابه التحرى ببساطة :
-(( سجل الكاميرات سيد طاهر ، يظهر أستخدام ثلاثتهم الدرج بدلاً من المصعد ، مروراً بالطابق الخاص بشقيقك ، وهنا تحديداً الحلقة المفقودة نظراً لعطل الكاميرا فى طابق السيد عمرو فقط ، أما النقطة الأكثر أرتياباً ، فهى مغادرة ثلاثتهم البلاد فى الصباح التالى لمقتل السيد عمرو ، إلى الثلاث مدن التالية على الترتيب ، لندن ، أمستردام ، مدريد )) ..
مسح طاهر فوق رأسه ووجهه بعنف ثم عاد يسأل من جديد بنبرة بدء يشوبها الغضب :
-(( قصدك اللى حصل ده تمويه ؟! ، عشان الجريمة تضيع بينهم ، طب وبالنسبة لوقت الجريمة ، الكاميرا سجلت ظهور حد منهم ؟؟ )) ..
هتف ماكسيم مؤكداً :
-(( نعم نعم ، بالطبع ، ثلاثتهم ظهروا وقت وقوع الجريمة ، ولذا من صبيحة الغد ، سنتوجه كفرق بحث إلى المدن المذكورة لأستكمال باقى التحريات )) ..
ترك مقعده وأنتصب فى وقفته أستعداداً للرحيل ثم أستطرد يضيف بثقة :
-(( قريباً سيد طاهر ، سيقف قاتل شقيقك الحقيقى إمام العدالة ، هذا أن لم أكن مخطأً بحق السيدة رحمة )) ..
مد طاهر كفه يحيه مودعاً وهو يغمغم برجاء :
-(( أتمنى ، وأتمنى زيك نكون غلطانين فى حقها والحقيقة تبان فى أسرع وقت )) ..
************************************
منذ ساعة مضت لم يكن مساؤه سوى ليلة من ليالى فبراير التقليدية بنسائمها الباردة وظلامها الكئيب ، فمتى تحولت لأحدى أمسيات العيد ، القادمة بسرورها دون تخطيط مسبق ؟! ، ثم ومن أين ظهر ذلك الطفل الفرح ، الذى يلهو سعيداً بين جنبات صدره ، وكأن سماعه شهادة نقاء سريرتها ، أضاف إلى عمره عمر ، وأعاده صبى صغير ، يمرح فى الحقول عشية أعياد الفطر ، يتوق إلى حلول الصباح كى يرتدى ثيابه الجديدة ، القابعة بأمان داخل خزانته فى الأعلى ، مع قطعة الحلوى الشهية ، المحرمة عليه حتى طلوع النهار البهيج ، وكم يتمنى لو يشرق نهاره سريعاً ، ويلتهمها كما فى مخيلته ، أما الأن فيسكتفى بالركض إلى أعلى حيث تسكن هى ، يمتع عينيه بالنظر إليها ، وحراستها ، إلى أن يأتى الوقت المعلوم ، قافزاً بتلك الفكرة ، الدرج الواصل إليها ، ومنه إلى غرفته ، بعدما أخذ أولاً حماماً دافئاً ، أزال به أرهاق سفره وعناءه ، ولم ينتبه لأختفاء الأريكة المحتلة جزء لا بأس به من غرفته الأحتياطية ، ألا بعد دخوله مثيلتها الأصلية ، يناظر بخفقات صدره المترقبة ، الفراش الفارغ منها ، لامحاً بعد وهلة من القلق ، جسدها الصغير ، غافياً فوق أريكته بسكون ، فأتسعت أبتسامته من سذاجة ترتيبها الطفولى ، قبل توجهه إلى خزانة ملابسه حذراً، يرتدى ثيابه بهدوء دون إبعاد عينيه عنها ، مسلطاً حدقتيه فوق وشاح رأسها ، الذى عادت ترتديه من جديد ، ثم إلى جفنيها مفكراً بأشتياق ، أن شفاء روحه يكمن خلف تلك الأهداب المنسدلة ، وأستكانة خفقاته ، تتناسب طردياً مع ظهور خصلاتها المخفية عن عدستيه ، رافعاً رأسه إلى الأعلى ومغمغاً بملامح يعلوها الندم :
-(( أسف أنى بدءت أصدقها .. ووعد مش هرتاح ولا هعيش .. غير بعد ما أوصل للى قتلك وأسلمه بأيدى ))
أبتلع لعابه بألم ثم أخفض رأسه للأسفل وتسلل ببطء شديد إلى حيث وجودها ، يركع بكلتا ركبتيه أمام وجهها المسترخى ، قبل أن يمد كفه على أستحياء ، يتحسس بأنامله التواقة ، وجنتها الحمراء ، وصولاً إلى وشاح رأسها الذى قام بخلعه والقاءه بعيداً ، يليه سقوطها مرةً أخرى إلى وجنتها يدلكها برفق ، هامساً أسمها بحنان :
-(( رحمة )) ..
همهمت معترضة بعدم وعى ثم فتحت أحدى جفنيها على مضض تطالع بعدم تركيز وجهه الملامس لها ، ثم كفه المحتضن شطر وجهها قبل أن تعود وتغلقه من جديد ، مستسلمة إلى حلمها الذى يغزوه ، ومنتهزاً هو حالة الأسترخاء التى تمر بها فى حملها بين ذراعيه والتوجه بها إلى الفراش مغمغاً بنعومة :
-(( تعالى على السرير الجو برد هنا )) ..
أومأت رأسها بهدوء دون فتح عينيها ، مصاحباً موافقتها أبتسامة خافته أعتلت ثغرها ، قبل رفعها لذراعيها تحاوط بكلتا كفيها الناعمتين عنقه ، وتخفى وجهها بداخلها ، بينما زفر هو بقوة ، يسيطر على ردات جسده المتجاوبة ثم قام بوضعها فوق الفراش ، وأستلقى جوارها ، سامحاً ليده بشق طريقها نحو جسدها ومحاوطة خصرها ، أما عنها رحمة ، فبعد عدة دقائق أستعادت خلالها وعيها ، شعرت بوجود خطأ ما ، ففراشها أبرد من أن يكون حلم ليلة صيفية دافئة ، لذا فتحت عينيها على عدة مراحل بتأهب تنظر إلى الغرفة من حولها ، قبل أن تستدير برأسها ، تطالع ذلك الغافى جوارها ، وتقفز من مرقدها متسائلة بحنق :
-(( أنا أيه اللى جابنى هنا ؟! )) ..
أجابها بهدوء بعدما أعتدل من نومته :
-(( عشان ده مكانك )) ..
قالت محتدة بعنف :
-(( ده مش مكانى ولا عمره هيكون !! ، أنت ليه مصمم تتجاهل الحقايق ؟! ، وتنسى أنى هنا أسيرة !! ، مستنية يوم الفرج عنها ، ولا أنى غبية ، عارفة سبب رضاك ومن قبله غضبك !! ، ولو عقلك هيألك أنك تقضى معايا يومين حلوين تسلى بيهم نفسك لحد ما ترمينى .. فأحب أقولك أنك غلطان ، وأوى كمان ، لأن أهون عندى أموت نفسى من أنى أسمحلك تنفذ اللى فى دماغك ، معلش بقى حتى لو كنت شمال ، فمن حقى أختار الشمال اللى هعيش معاه )) ..
قال بهدوء ، عكس الأعصار الذى يضرب داخله ، محاولاً بكد ، السيطرة على نبرته المتشنجة :
-(( على فكرة أنتى سرحتى بخيالك لبعيد ، وأنا معنديش أى نية أقرب منك ، حتى لو مؤ.....)) ..
صاحت تقول بحدة مدفوعة بالأرتباك الذى أصبح يصيبها فى حضرته :
-(( حتى لــو ، حتى لو مش هتقرب !! ، ليه مش عايز تفهم أن وجودك جنبى بيأذينى ، مجرد أنى أفتح عينى والأقيك نايم جنبى بيفكرنى بــــ.... )) ..
رفع كفه المرتجف فى وجهها يمنعها من الأسترسال ، ثم قال بألم واضح قبل أنسحابه من الغرفة :
-(( متكمليش ، فهمت عايزة تقولى أيه ، مش محتاج توضحى )) .
عضت على شفتيها بندم وهى تراقب خروجه من الغرفة بضيق ، بعدما أندفع الحديث من فمها دون تفكير فى النتائج ، فقد أرادت إيلامه مثلما فعل معها من قبل ، ولم تدرك أن داخلها سيتألم من قولها ، قبله .
**********************************
رفعت هاتفها إلى أذنها بعدما تأففت فى المرة الخامسة ، من محاولتها الوصول إليه والتحدث معه ، فبعد سنوات من العمل فى مجال المحاماة ، أصبحت تدرك أن أفضل الطرق للتفوق على العدو هو بأستباقه بخطوة أو أثنتان ، بالطبع طليقها لم يكن عدو بالمعنى الحرفى للكلمة حتى بعد خيانته لها ، ففى الأخير هو والد طفلها ولكن ، كل ما يُشغل عقلها تلك الأيام هو أستلام وثيقة طلاقها بشكل رسمى ، حتى يتسنى لها الهرب إلى الخارج حيث شقيقتها المقيمة مع زوجها ، قبل كشف سرها ، وبعد المحاولة السادسة ، جاءها صوته يتسائل بفضول :
-(( أنتى شايفانى فى حلمك ولا أيه ؟! ، سادس مرة ترنى عليا ورا بعض ؟! )) ..
زفرت بصوت عال متعمدة إيصاله إلى مسامعه بوضوح ثم قالت بنفاذ صبر :
-(( من غير مواضيع جانبية ملهاش لازمة ، لو سمحت أنت بقالك فترة بتأجل إجراءات الطلاق النهائى وأنا عايزة أخلص !! )) ..
قال كاذباً :
-(( مانا قلتك أستنى عليا شوية ، معييش فلوس الفترة دى عشان نعمل تسوية وتستلمى حقوقك ، أول ما أزبط حالى هكلمك ونخلص الأوراق )) ..
هتفت تقول بعصبية واضحة :
-(( يعنى أيه ممعكش فلوس دى !!! ، أنت قلتلى قبل كدة وقلتلك هتنازلك عن كل حاجة ، مش عايزة منك غير الورقة !! ، يبقى ليه التلاكيك مش معقول الورقة صعبة عليك كمان !! )) ..
صاح بهوجائية يتهرب من الحديث :
-(( غفراااان ، قلتلك مش هتبقششى عليا ، وقت ما أمسك فى أيدى فلوس هبعتلك ورقتك على البيت من غير حتى ما تتعبى نفسك وتيجى ، بس دلوقتى مش فاضيلك ، وعن أذنك عندى شغل ضرورى مضطر أقفل )) ..
هتفت تستوقفه بنبرة عدائية محتدة :
-(( أستنى متقفلش ، ثوانـــ.... )) ..
قاطع جملتها صفير الهاتف من الطرف الأخير دلالة على أنتهاء المكالمة ، فسارعت تسب بضيق ، قبل أن تمر من خلال البوابة الألكترونية الخاصة بشركة إيواء ، تطلب من أحدى موظفى الأستقبال ، إيصالها بالسيد جواد المناويشى .
أما فى الأعلى فسار هو جنباً إلى جنب ، بجوار رفيق دربه ، يتأمل بضيق عبوسه الدائم قبل أن يقرر أثارة حنقه فسارع يهتف مدعياً البساطة :
-(( الأ قولى يا طاااااهر ، أختى عاملة أيه النهاردة ؟! )) ..
توقف الأخير عن السير ، ثم أستدار برأسه ينظر إليه محذراً ، قبل معاودة سيره متجاهلاً الرد على سؤاله ، فعاد جواد يهتف من جديد بأستفزاز :
-(( مادام مش عايز تطمنى على أختى هروح أنا أزورها بنفسى )) 
أبتسم بأنتصار أخيراً بعدما أستطاع إخراجه من صمته حينما صاح يقول بتحذير شديد اللهجة :
-(( أختك فى البيت جنبك أبقى أطمن عليها لما تروح إن شاء الله ، غير كدة تحط لسانك فى بوقك وتنسى اللى أتقال عشان تعرف توصل بيتك سليم )) ..
قهقه جواد مطولاً ثم أردف يقول متعمداً إثارة غيظه :
-(( معلش هو الح.... كدة بيذل )) ..
فتح طاهر فمه ثم عاد وأغلقه ، قبل أن يعاود فتحه من جديد بينما ذراعه تشق طريقها إلى وجه قريبه الذى سارع يركض إلى غرفته مختبأ بداخلها ، ولازالت ضحكته الرنانة تصل إلى مسامع طاهر بوضوح فتزيد من غضبه .
****************************************
فى الداخل وتحديداً وهو جالس خلف مقعده ، رفع رأسه على طرقة خفيف فوق باب الغرفة ، يليها ظهور سكرتيرته الخاصة تقول بمهنية :
-(( جواد بيه ، أستاذة غفران برة ، حابة تقابل حضرتك )) ..
أجابها بصوته الهادئ المحتفظ بجزء من مرحه :
-(( خليها تتفضل )) ..
أومأت المساعدة رأسها موافقة بأحترام قبل أنسحابها من أمامه ، يليه ظهور غفران التى هتفت تقول بمرح مقلدة نبرة سكرتيرته :
-(( جواد بيه ، ممكن أقعد ولا مش طايق تشوفنى وهطرد ؟! )) ..
قال بجفاف :
-(( لا عيب ، احنا ولاد بلد برضة ميغركيش كل دة ، ولا متعرفيش أن الصعايدة بطبعهم كرما ، ميعرفوش يكسفوا أو يطردوا مين وقف على بابهم )) ..
تنحنت عدة مرات ثم قالت بنبرة خفيفة بعدما فركت جبهتها بأناملها :
-(( أحم ، واضح كدة أنى بتقطم بالمدارى )) ..
صمتت للحظات تنظر خلالها إليه ثم أردفت تهتف بأعتذار مبطن :
-(( طب يعنى مادام أنت عارف أنهم ولاد بلد وجدعيين وشهما ، متعرفش أن قلبهم أبيض وبيسامحوا بسرعة ؟! )) ..
رمقها بنظرة جامدة ولم يعقب فعاودت تقول بنبرة محبطة  :
-(( لا انا شكلى نسيت أهم حاجة وهى أن دماغهم ناشفة أوى ، عمتاً ، أنا جاية أعتذر عن قلة ذوقى اللى حصلت من كام يوم ، وبعدين يعنى أنت لازم تعذرنى وتعرف أن الحامل ليس عليها حرج )) ..
لاحت نصف إبتسامة فوق ثغره فعاودت تقول بمزاح :
-(( لا بلاش لعب دور الرجل الصامت ده ، أنا كدة خلصت كلامى وجه دورك ، المفروض فى اللحظة دى تقولى ، خلاص يا غفران ، مش زعلان يا غفران ، المسامح كريم يا غفران )) ..
كانت تحاول فى جملها الأخيرة تقليد نبرته مما جعله يقهقه ضاحكاً قبل أن يقول مستسلماً :
-(( وأقول ليه مانتى قلتى كل حاجة أهو نيابة عنى وعنك )) .
هتفت تجيبه بأرتياح :
-(( يا ساتر أخيراً تبسمت ، وبعدين المفروض تقولى رغم أننا عارفين بعض من فترة قليلة بس كل مصايبك معايا ، يعنى استحالة أزعل منك )) ..
قال مستفسراً ومتجاهلاً التعقيب على جملتها الأخيرة :
-(( طب قوليلى عملتى أيه ؟!)) ..
تهدلت أكتافها ثم أجابته بنبرة منهزمة :
-(( لا جديد ، كنت لسة بكلمه من شوية عشان إجراءات الطلاق الرسمية ، وأتهرب منى كالعادة بحجة أنه معهوش فلوس النفقة والمؤخر والكلام الكتير ده .. مع أنى عارفة ومتأكدة أنه بيكدب ، بس مش فاهمة بيتهرب ليه )) ..
سألها جواد مستفسراً من جديد :
-(( طب وناوية على حاجة ولا ؟! )) ..
أجابته بثقة وهى تتحرك من مقعدها وتنتصب واقفة :
-(( طبعاً ناوية ، أخره معايا أسبوع ، لو ماخدش خطوة ، هتحرك والمحكمة تفصل بينا )) ..
سألها بتقطيبة جبين :
-(( طب رايحة فين ؟! )) ..
قالت بأرهاق :
-(( لا خلاص يومى خلص لحد كدة ، هروح البيت أرتاح بقى ، شفت تعبتنى أزاى وخلتنى أجيلك مخصوص لحد عندك ومأرفتش بروح حامل بريئة زيى ؟! )) ..
أزداد أتساع إبتسامة ثغره ثم قال بصوته الأجش :
-(( طب خلينى أعوضك وأوصلك فى طريقى كدة كدة مروح البيت )) ..
هتفت معترضة بقوة :
-(( لا معلش ، هتصرف وأخد تاكسى متشغلش بالك )) ..
سألها بعدم فهم :
-(( ليه ؟! ، مانا فى كل الأحوال طالع من طريق البحر يعنى بيتك فى سكتى )) ..
أجابته بنبرة ذات مغزى ألتقطها هو على الفور  :
-(( معلش ، كدة أحسن للكل )) ..
أومأ برأسه موافقاً دون أن يظهر لها مدى أستحسانه من ألتزامها ، بل وسروره من تفكيرها العميق الواسع والذى لم يخطر بباله فى الوهلة الأولى لولا تحذيرها الخفى دون أن تتسبب فى إحراجه.
****************************************
وضعت أذنها فوق الباب الغرفة ترهف السمع حتى تتأكد من خلو الممر أمامها ، قبل أن تجازف بالظهور ومصادفته بعد أخر لقاء بينهم ، ففى الاسبوع الماضي ، تهربت أيضاً من رؤيته بترك المنزل أكمله ، ثم عند عودتها فى المساء بلغها شقيقها أعتذاره ، بعدما طرئ له سفراً ضرورياً منعه من القدوم وحضور جلسة العلاج ، أما اليوم ، فبمجرد أستماعها إلى صوتهِ ، أتياً من الأسفل ، حتى ركضت تختبئ داخل غرفتها ، تأبى بحزم الخروج ألا بعد رحيله ، وها قد تجاوز الوقت التاسعة ، أى بعد ساعتين وهى لازالت حبيسة الغرفة ، منعزلة عن الجميع حتى أن أصواتهم فى الخارج لا تصل إليها فتساعدها على معرفة بقاءه من عدمه ، أما بالنسبة إليه فقد كان يلتفت كل خمسة دقائق تقريباً ، عله يريح عينيه برؤيه محياها الناعم ، وعندما يأس فى لقائها ، هتف يستأذن من شقيقها فى الرحيل :
-(( جواد ، أحنا كدة خلصنا الجلستين ، بتاعة الأسبوع اللى فات وده ، أظن كدة فى تحسن ملحوظ بخصوص حالة لينة ، حتى أنها شبه بطلت تسأل عنها ، فاضل طلب أخير وهو مراقبتها الاسبوع دة كويس لحد الجلسة الجديدة ، حصلت أى كوابيس ، عصبية ، بلغنى فوراً وأنا هتصرف )) .
ربت جواد فوق كتفه مستحسناً ثم قال بأمتنان حقيقى :
-(( حقيقى يا يحيى مش عارف أشكرك أزاى ، ربنا بعتك ليا بعد علياء عشان تساعدونى ، وعمرى ما هنسالك جميلك ده أبداً )) ..
عقب مجاملاً بذوقه المعتاد :
-(( متقولش كدة ده واجبى ، وبعدين أنت ربنا أكرمك ببنت تدخل القلب من أول نظرة ، حافظ عليها وربنا يخليهالك ، عن أذنك ألحق أتحرك أنا )) ..
أومأ برأسه موافقاً ، قبل سيرهم جنباً إلى جنب داخل الممر الضيق ، والمطل على الغرف جميعاً فى نفس اللحظة التى قررت هى أنهاء عزلتها والخروج من محجرها ، فتلاقت أعينهما لحظات مرت كالدهر عليها وكسِنةً بالنسبة إليه ، قبل سيره نحوها ، مشدوهاً ، ومنجذباً إلى ضوئها كالفراشة ، قبل وقوفه على عتبة بابها يسالها بأشتياق :
-(( عاملة أيه ؟! )) ..
غمغمت تجييه بحرج ، بينما تفرك باطن كفيها معاً بتوتر  :
-(( أنا كويسة الحمدلله ، أنت عامل أيه ؟! )) ..
صمتت لوهلة تبتلع سؤالها الفضولى قبل أن يُباغتها منطوقاً بأرادة معدومة من جهتها :
-(( سمعت من جواد أنك كنت مسافر ، خير ؟! )) ..
عضت فوق شفتيها حرجاً ثم عادت تغمغم من جديد معتذرة بأرتباك :
-(( أسفة مش قصدى ، أقصد يعنى إن شاء الله يكون المانع خير )) ..
أبتسم لشعوره بالأهتمام منها تحديداً ، ثم أجابها بغموض :
-(( لا خير ، تقدرى تقولى ألتزام ، وقت ما ينادينى مقدرش غير ألبى الندا )) ..
قطبت جبينها محتارة بعدم فهم ، فى حين قاطع جواد حديثهم يقول بتلقائية :
-(( دكتور بالمناسبة ، بما أن باقى حوالى شهر على كتب كتاب علياء ، ينفع نكثف الجلسات مع لينة ، أنت عارف يعنى هى متعلقة قد أيه بلولى ، ومش عايز لما تتجوز وتسيبنا تتعب من أول وجديد )) ..
أمتقع وجهها ، وتجهّمت ملامحها قبل أنسحابها من أمامهم معتذرة بخفوت ، بينما اومأ هو رأسه موافقاً بجمود ، وكأن حديث شقيقها تذكرةً له ، بأن المتربعة على عرش الفؤاد ، مجرد حديثه إليها رفاهية محرمةً عليه.
***************************************
جالت غرفتها ذهاباً وإياباً مرة بعد مرة ، تفكر فى حل نهائى وصريح لمعضلتها والتى أضحت كبرى ، فمنذ خبر حملها وعلى عكس توقعها ، تتعامل والدته معها كما لو أنها مذنبة جاءت لخطف ولدها وتخريب حياته ثم الذهاب ! ، بدلاً من الفرح لأجله بعد ما عاناه ، وعليه قررت التحرك والتمرد ، فبعد الخلاص من شريكتها براحة وهدوء ، لن تتوانى فى التخلص من والدته ، حتى ولو اضطرت للتحالف مع الغير ، أو استخدام كافة الطرق المشروعة ، وغيرها ، فكل شئ متاح ، فى الحب والحرب ، لذا وقفت أمام مرأتها وتزينت جيداً ، ثم مشطت شعرها وأرتدت أحدى ألبسته المفضلة ، ثم تمددت فوق الفراش تنتظر عودته ، متأهبة ومترقبة ، ومدعية الوهن بمجرد رؤيتها له يدلف الغرفة بعد يوم من العمل الشاق ، هامسة بدلال :
-(( حمدلله على السلامة يا حبيبى ، خلينى أساعدك تغير هدومك ، والأكل أهو جاهز ، وقفت طول اليوم أعملك اللى بتحبه بأيديا دول ، وبعد ما خلصت جبته هنا ، عشان أأكلك بأيدى يا سيد الناس )) .
قال بدر معاتباً بضيق :
-(( وليه بس تعبتى نفسك يا أفنان ؟! ، مش الدكتورة منبهة عليكى بلاش حركة كتير !! ، أسمعى كلامها عشان خاطرى )) ..
همست خاضعة لأمره :
-(( خلاص والنبى أخر مرة ، أنا بس حبيت أفرحك ، بس مادام زعلت مش هكررها تانى ، أنت طلباتك أوامر وسيف على رقبتى )) ..
قال ملطفاً الأجواء بينما يُشرع فى تبديل ثيابه ويستعد للجلوس :
-(( خلاص ولا يهمك ، شكل الأكل ريحته حلوة اوى تسلم أيديك )) ..
هتفت تجيبه بسعادة :
-(( بالهنا والشفا على قلبك )) ..
رفعت ذراعها تمسد عضلات ظهره ثم أردفت تقول بتردد واضح :
-(( بدر ، هو أنا ينفع أطلب منك حاجة ، بس لو هتزعل خلاص أنسى أنى أتكلمت )) ..
سألها مترقباً بفضول :
-(( قولى يا أفنان سامعك )) ..
قالت بتوجس تخشى رد فعله :
-(( متفكرش أنه عشانى ، أنا كنت قاعدة هنا معاك وتحت رجلك راضية وساكتة ، بس أحنا خلاص ربنا هيكرمنا ونبقى عيلة ، مش المفروض برضة يكون لينا بيت خاص بينا ؟! ، ولا هنفضل نكبر ونربى عيالنا فى بيت ماما الحاجة ؟! )) ..
سألها بأرتياب :
-(( قصدك أيه يا أفنان ؟! )) ..
أجابته بصراحة مستمدة الشجاعة من هدوء نبرته :
-(( قصدى واضح يا بدر ، عايزة بيت بعيد عن والدتك )) ..
*****************************************
خلف ستار النافذة العريضة ، المحتلة معظم مساحة حوائط الطابق الأرضى تقريباً ، وقفت تتابع بملامح جامدة ، أنهمار المطر بالتزامن مع حدقتيها ، ووقع ألتقائه بالأرضية الحجرية المفضية إلى المنزل ، شاعرة بجدرانه الواسعة ، تضيق الخناق عليها ، وتكاد تجثو فوق صدرها على الرغم من براحها ، فها هى قد أنتهت من التحدث مع شقيقها وصديقتها ، ثم عادت لوحدتها من جديد ، تسير بلا هدف داخل طوابق وممرات البيت ، حتى ينتهى يومها وتصعد إلى الفراش ، ثم تستيقظ فى الصباح عائدة الكرة ، صارفة بقدر المستطاع تفكيرها عن ذكرى نقاشهم الأخير ، وما تلاه من أختفائه ، ففى بدء الأمر ظنت أنه يتجنب لقائها ، ولكنه لازال يشاركها نفس المنزل ، حتى وأن كان فى غرفة أخرى ، ومع أنقضاء اليوم الثالث وعدم ظهوره ، جازفت بسؤال مدبرة المنزل عنه ، والتى أخبرتها صراحة ، عن تركه للمنزل بعدما رأته ذاهباً بحقيبة سفر صغيرة ، ومن وقتها وبعد مرور أسبوع كامل ، وأخباره منقطعة عنها تماماً ، تاركها تشعر بتأنيب الضمير ، كلما تذكرت ملامح وجهه ، وكم الألم الذى أعتلاها ، عند ذكرها لشقيقه الراحل دون شفقة به ، تنهدت بضيق متجنبة الغوص أكثر فى تفاصيل الحدث ، وقد تذكرت سبب هبوطها الليلة ، قبل توجهها إلى غرفة " أم الحسن " تطمأن عليها بعدما اصابتها وعكة صحية قوية البارحة ، تطرق باب الغرفة عدة مرات دون أجابة ، والقلق ينهش جوفها مع مرور اللحظات ويتمدد داخل صدرها مع السكون من حولها ، قبل أن تقرر المجازفة وأقتحام غرفتها ، وتراها وهى مسجاة فوق الفراش ، دون حركة ، فتقدمت منها ، تهمس أسمها بهدوء ، تخشى أزعاجها حتى وصلت إليها ، ومدت كفها على أستحياء ، تهز مرفقها بنعومة ، هاتفة أسمها بنبرة أعلى قليلاً :
-(( ماما فادية ، يا ماما )) ..
زفرت بتوجس بعدما يأست فى الحصول على أجابة ، ثم رفعت ذراعها تتحسس بأناملها موضع النبض ، قبل صراخها بذعر ، تُخرج بيدها الحرة ، هاتفها الجوال من جيب ردائها ، تطلبه بأصابع مرتعشة ، وبمجرد أستماعها إلى صوته ، هتفت مستنجدة به ببكاء واضح  :
-(( طاهر ألحقنى ، دادا أم الحسن مش بتنطق ومعندهاش نبض تقريباً )) .



تعليقات