رواية في لهيبك أحترق الفصل الثالث الأربعون 43 بقلم شيماء يوسف

               

رواية في لهيبك أحترق 
الفصل الثالث الأربعون 43
بقلم شيماء يوسف


أُحِبُّك حُبَيْن حُبِّ الْهَوَى
وَحُبًّا لِأَنَّك أَهْلٌ لِذَلِكَ.
قَالُوا الْفِرَاق غدًا لَا شَكَّ قُلْت لَهُمْ
بَل مَوْت نَفْسِى مِنْ قِبَلِ الْفِرَاقِ غدًا
فَفِي ودعينا قَبْل وَشَكّ التَّفَرُّق
فَمَا أَنَا مِنْ يَحْيَا إلَى حينِ نلتقى.
-المتنبي
من مسلمات الحياة أن الأب هو حامي الفتاة الأول واليد التي تحيل بينها وبين السقوط، كما أنه هو ذاك الفارس والقدوة وواهب العشق غير المشروط...
هو النبراس الذي ترى من خلاله ضوء الحياة، ويمثل لها في مختلف مراحل عمرها طوق النجاة، ربيعها الدائم، وظلها القائم، قاهر الأحزان ورمز الأمان، ولكن ماذا لو.....
أجلسته الفتاة على عرش قلبها، ونصبته ملكًا لفؤادها، ثم استيقظت ذات صباح واكتشفت أن ذلك التمثال العالي الذي ظلت تنحته منذ نعومة أظافرها سقط حطامًا إلى ملايين الأجزاء، ثم أتته ريح عاصف بعثرته هنا وهناك، فأصبحت حتى ذكراه منثورة كالهباء!!.....
يا له من خذلان لا يضاهيه خذلان!!!....
همستها كهلوسة أقرب منها إلى جملة خبرية موجعة، نطقتها بمُقلات زائغة وكأنها تستجديه أن ينفي عنها ما لا يستطيع كاهلها حمله، ومضات وومضات مرت أمام عينيها، عن حمله لها فوق أكتافه والركض بها، عن مواساته عندما سخرت إحدى رفيقاتها من لباسها.....
عن ابتسامته المشجعة عند سقوطها للمرة الأولى من فوق دراجتها، عن ربته المستمر فوق ظهرها، عن ثقته الدائمة بها، مئات، بل الآلاف الذكريات الحية تحولت إلى أظافر دب ينهش روحها، نافذًا بيده أعمق وأعمق وكأنه يرفض الخروج من داخلها، إلا ومضغتها بين براثنه متهالكة.....
بينما وقف "طاهر" على بُعد مسافة ضئيلة منها، يتابع صورتها المرتجفة أمام عيناه بجسد متأهب للوصول لها في أي لحظة، ولم يدري أهي من ترتعش، أم حدقاته فتظهر صورته له بالتبعية مهتزة خائفة!...
وقبل أن يلهمه عقله جملة مفيدة للنطق بها أو الاعتذار، استأنفت هذيانها تقول مبررة :
-(( أنـ... أنا مككنش قصدي.. أنا لقيت أسمى على جواب وأنا برفع الظرف اللي طلبته.. فـ...فكرتك عاملي مفاجأة وقاصد أفـفتح الخزنة وأشوفه.. فأخدته قريته.. وطلع اغتصبها.. أنا بنت أب مغتصب.. أنا بنت حر........... ))..
سقطت الورقة أسفلها عندما ارتخت قبضتها من فوقها وتركتها ترقد هناك تحت أقدامها بازدراء، بينما قاطع كلمتها يد طاهر التي ارتفعت إلى فمها كي يمنعها من النطق بها بعدما قفز الخطوات القليلة الفاصلة بينهم، يقول لها مستجديًا في يأس :
-(( متكمليش.. أنتِ أحسن حد في الدنيا.. أنتِ في عيني أشرف وأطهر من أي واحدة عرفتها.. اللي حصل زمان ميعبكيش ولا ذنبك.. وصدقيني مكنتش عايزك تعرفي.. كنت عايز السر يموت بموتهم سوا.. غيرت تحليل إثبات النسب عشان متعرفيش.. واتحايلت على عمي وجواد يثبتوا نسبك ليهم رغم أنه غلط بس عشان متمريش بالموقف ده.. وكنت مستعد أعمل زيادة.. أخليكي تورثي في عمي من فلوسي.. وأتنازل عن جزء من أسهمي في الشركة على قد نصيبك.. ولولا أن مرات خالك وصلتلي الجواب ده وأمنتني عليكي وعليه كنت قطعته ودفنت الحقيقة معاهم ))
وكأنه باعترافه عن علمه بكل ما حدث وبل ومشاركته في إخفاءه أعاد إلى عقلها جزء من عمله، والبداية كانت من الغضب، إذ قامت بدفعه من أمامها بقوة، تُبعده عنها بقدر ما سمحت لها قوتها الهزيلة، متمتمة في هياج :
-(( أنت كنت عارف.. كنت عارف أن باب..... ))..
صمتت لوهلة وقد تجهمت ملامحها، بينما اسنانها تضغط فوق شفاها في عنف تحاول تدارك خطأها، قبل أن تستطرد عتابها :
-(( كنت عارف أن عز هو اللي اغتصبها!... وإن أبو رائف بريء من كل حاجة ورغم كده وقفت قدامي تتهمه إن هو اللي كان بيضايقها وحاول يعتدي عليها!!.. ظلمته زي ما هو ظلمه زمان!!.. وكل ده عشان إيه.. عشان خالي رفض يجوزهاله لأنه كان فعلًا مرتبط!!.. أزاي سمح لنفسه يضحك ويلعب بالكل عشان يوصلها!.. يعني أنا دلوقتي مش بس بنت مغتصب.. لا وكمان بنت إنسان ندل وجبان خاين حتى لاصحابه!!.. طب ما طبيعي يحصل فينا كده!... طبيعي كل اللي عمله زمان يتردله.. طبيعي يفلس ويتعب ونخسر فلوسنا وبيتنا! ده أقل عقاب من ربنا على خداعه.. طبيعي رائف يكرهه ويكرهني ومش بعيد يكون اللي عمله فيا كمان عدل.. مش بيقولوا الأبناء بتدفع تمن أخطاء الآباء!......))..
توقفت عن الحديث تسحب نفسًا طويلًا إلى داخل رئتيها لتهدئة انفعالها، وقد نجحت أخيرا بعد خضوعها إلى كثير من جلسات التدريب الخاصة السيطرة على نوبات مرضها أو على الأقل الحد منها، ثم أردفت تختم جملتها في حسرة :
-(( وفي الأخر أنا شايله اسمه مش حد تاني.. يعني رجعت رحمة عز الدين النويري من جديد!.. بس عارف إيه اللي مش طبيعي؟!.. إنها تقبل تتجوزه وتعيش معاه حياة كاملة بعد كل اللي حصلها منه!.. لا وتخلف منه تاني وتوهمنا أننا أسرة سعيدة محترمة! ))..
تهدلت أكتافها وطأطأت رأسها للأسفل، بينما ارتفع ذراعها الأيسر يحاوط بطنها، بعدما سلطت أنظارها فوق الانتفاخ الظاهر أمامها، وكأنها تحميه أو ربما توعده في صمت ألا يلاقي مصيرها، هذا أقل ما تقدمه له، فعلى عكس ما يقال، فاقد الشيء يعطيه بقوة، يعطيه بروحه وبكل جوارحه....
أما عن طاهر فقد أستغل فرصة هدوءها النسبي في الاقتراب منها، وقبل أن تصل يده إليه، كان تصرخ به ناهره في حدة، وقد جدد باقترابه منها شحن طاقتها الغاضبة من والدها ووالدتها، بل ومنه ومن الجميع :
-(( أيدك!... أوعى تفكر تقرب مني.. مش عايزه حد في حياتي.. سامع.. كفاية عليا أبني.. ابعدوا عنني.. محدش يقرب مني.. كلكم كدابين.. أنت كمان كدبت عليا سبني.. سبني وأبعد عني.. أنا تعببببت ))..
حرك رأسه رافضًا في تشنج واضح، بينما ركض بجسده الشبه متخشب نحو باب الغرفة يغلقها بالمفتاح، ثم عاد يقف أمامها يضمها إليه هاتفًا في نبرة حاسمة قاطعة :
-(( مستحيل.. مش بعد كل اللي مرينا بيه تقولي كده.. ازعلي واحزني وصرخي واحنا هنا.. مش هنخرج من الأوضة دي غير واحنا متراضيين.. حتى لو قعدنا فيها مية سنة.. سمعاني ))
بدأت تلكمه بكلا كفيها في صدره وذراعيه، تحاول إبعاده عنها، في حين صوتها لا يتوقف عن النحيب والصراخ، حتى خارت قواها وأعلنت قدميها عليها العصيان فارتمت بجسدها المتعب والمثقل بحمله فوق كتفه وقد تحول نشيجها إلى همهمة خافتة بفعل يده التي تمسح على ظهرها، وصوته الناعم الذي يهمس مواسيًا ومفسرًا لها، ففي الأخير مهما بذلت من جهد لن تستطيع إخفاء الحقيقة إلى الأبد، بل سيأتي وقت وتفوح به رائحتها معلنة عن وجودها للجميع!.... وهذا ما حدث :
-(( أنا أسف إني خبيت عليكي الحقيقة.. بس وقت ما عرفتها كنت لسه مكتشف وثيقة تاريخ ميلادك الحقيقية ومش عارف راسي من رجلي أو اتصرف ازاي..
ويومها لقيت السكرتيرة داخلة عليا وبتقولي أن في واحد طالب يشوفني ضروري وبيقول أنه ابن خالك شهاب.. وجايلي مخصوص من القليوبية..
استقبلته على طول وبعدها بلغني أنه مرسال من والدته مريضة السرطان.. عندها أمانة تخص ميلادك.. ولازم أجي بنفسي استلمها منها.. طبعًا مكدبتش خبر وسافرت من غير تفكير.. ولما وصلت لقيت مرات خالك حالتها مدهورة.. وحكتلي معاناتها مع الكيماوي وأنها حاسة أن الآجل قرب.. وما صدقت عرفت من عمك أنك اتجوزتي.. وشافت أن الأمانة اللي فريدة والدتك سابتها معاها وحلفتها إنك متعرفيش جواها إيه غير بعد موتها هي وعز ده وقتها.. وطلبت مني أشيل أنا الحمل ده عنها.. ووقت ما أحس أنه الوقت المناسب أقولك الحقيقة وأسلمك الجواب.. بس من فضولي مقدرتش استني وأول ما استلمته فتحته وعرفت اللي فيه ))..
تحرك يجلس بها فوق الأريكة حيث شعر بإرهاقها وخفوت تنفسها الضارب نسيج قميصه، وكان صمتها وقبولها التحرك معه هو خير دليل على خوار قواها، لذا انتهز الفرصة في استئناف حديثه وإخبارها ما حدث والاعتراف لها ربما تهدأ قليلًا من ناحيته إذا علمت بالظروف التي اضطرته إلى الكذب عليها :
-(( صدمتي مكنتش تفرق حاجة عن صدمتك لما عرفت أن والدك خدع الكل.. عمي وأبو رائف وحتى شهاب خالك.. وفي الأول عمل كل التمثيلية دي عشان يوصلها وهو اللي يتجوزها.. بعد ما أتقدم لها وخالك رفض لأنه عرف أنه خاطب بنت خالته هنا في مصر.. ولما عمي عرض يتجوزها ويحميها ملقاش قدامه حلول غير أنه يغتصبها..
وقتها كنت حبيتك.. فخفت عليكي من الصدمة.. واللي شجعني على فكرتي رائف.. ساعتها اتقابلنا وهددني بسرك.. بس هو كان عارف نص اللي أنا وصلتله بس وفاكر أنك بنت عمي.. وجزء مني حب الفكرة دى.. كنت أناني وشفت أني كده بربطك بيا وبحميكي.. يعني مصلحة ثنائية
فـ جريت اعترف لعمي وجواد بحبك.. واتحايلت عليهم يساعدوني نقنعك أنك بنت عمي أنور.. وحلفتهم أن اللي في الجواب واللي هنتفق عليه محدش يعرف بيه..
غلطت ؟!.. اه معترف.. بس غلطي كان بسبب حبك ولو رجع بيا الزمن هكرر غلطتي تاني.. وعليهم هقطع الجواب ده عشان مايوصلش لأيدك ومتحسيش باللي أنتِ حساه دلوقتي ))..
رفعت رأسها من فوق صدره، ثم مسحت ما تبقى من عبراتها العالقة بأهدابها وقد جفت دموعها حَقًّا، بل جفت رغبتها في الحياة من الأساس، ثم همهمت تقول في إعياء :
-(( لو سمحت.. عايزه أقعد مع نفسي شويه )).
فتح فمه للاعتراض فقاطعه مضيفة في إنهاك واضح :
-(( طاهر من فضلك.. محتاجة ارتاح في سريري.. افتحلي الباب عايزه أروح اوضتي ))..
استسلم لطلبها خاصةً بعد رؤيته زيغ إبصارها، وعليه تحرك يفتح باب الغرفة من جديد ويحررها، بينما سارت هي حتى موضع سقوط الورقة البيضاء وانحنت تلتقطها، قبل أن تستقيم من جديد في وقفتها وتسير بجسد مترنح نحو معزلها، وصدى كلمات والدتها المكتوبة لازالت تتردد في دهاليز عقلها المصدوم، وربما سيظل يتردد إلى الأبد مع باقي الخيبات العالقة هناك.

*************************
( طفلتي الغالية.. رحمة....
إذا كنتِ تقرئين هذا الخطاب الآن فذلك يعني إنني لم أعد بجوارك، وقد أدت "رئيفة" مهمتها بتسليم تلك الأمانة إليك بعد وفاتي بِنَاءَا على وصيتي الخاصة لها.....
في البداية وقبل أن أقص عليك بضع صفحات من الماضي أود أن أطلب منك التمهل والقراءة إلى النهاية، فأنا أعلم طباعك جيدًا عزيزتي، ولن أستبعد مطلقًا إذا القيتي بالخطاب بعيدًا عنكِ وأعرضتي عن استكماله...
كما أعلم بأنك ستثورين وتغضبين، بل وستلومين نفسك على ما لم تجنهِ يداك، وعلي الجُرم الذي لم تشاركي به من الأساس....
وهذا ينقلني إلى الطلب الثاني.... "المغفرة"، لذاتك قبل كل شيء، ثم له ولي، فالحياة ليست أبيض أو أسود كما اعتدتي رؤيتها، بل هي في أغلب الأحيان رمادية كئيبة، وعلي المرء قبولها بكل تقلباتها السيئة قبل الجيدة، فالحزن على ما مضى كما البكاء على اللبن المسكوب، لا يُغني ولا يُسمن من جوع....
وأخيرًا عليك المعرفة أنني أبدًا لم أكن انتوي إخبارك بالحقيقة الموجعة، ولم يكن مقصدي من الكتابة إيلامك، بل على العكس، كنت أود الالتحاق به إلى العالم الآخر وأنا أحمل سرنا الصغير بين طيات صدري، ولكني خشيت عليكِ المستقبل، فالحقيقة مثل مجرى النهر دائمًا ما تشق طريقها وتصل إلى وجهتها الأساسية....
وبعد وفاة والدك ومرضى توجست خيفة من ظهور نصفها فقط، لذا قررت إخطارك بها كاملة، ولأنني دائمًا ما كنت سلبية ضعيفة أتنقل من تبعية شخص إلى آخر دون امتلاك شجاعة المجابهة، قررت عدم مواجهتك كالعادة وإخبارك بها من خلال الحروف ومن خلف السطور، فاقرئي جيدًا عزيزتي الجزء المثير من حياتي والخاص بميلادك....
كنت قد أتممتُ عامي الثامن عشر للتو وحصلت على شهادتي الثانوية في مجال التمريض، مجرد فتاة تملك قدر عالي من الجمال مع صوت عذب اتغني به ليلًا ونهارًا داخل أروقة المنزل والمشفى وقتما كنت خالية البال، وكان الرجال يتنافسون على إرضائي ويتهافتون على الاقتراب مني، وعلى عكس الكثير من بنات جنسي ممن يرونها نعمة، فقد أعتبرها منذ البداية نقمة...
وكما تعرفين فقد توفي والدي في سن مبكر وتولى "شهاب" شقيقي الأكبر مسؤوليتي مُذ نعومة أظافري، وعندما عُرضت علي تلك الوظيفة في إحدى مشافي دول الخليج لم أتردد في قبولها، وشجعني "شهاب" على السفر والانتقال معًا وبدأ صفحة جديدة من حياتنا، ومن هنا حدث ما لم أتوقع حدوثه
كان "عز الدين" هو أول من تعرفنا عليه في الغُربة، ولن أنكر إعجابي به كما لم يحاول هو إخفاء إعجابه بي في لقاءاتنا القصيرة المتتالية، فقد كان بشوش الوجه، بهي الطلعة، طموح وجاد، إلى جانب صفاته الجسدية الممتازة، باختصار كان نموذج للزوج المثالي، ولم يُخيب توقعي، إذ طلب مني بعد فترة قصيرة الزواج فكنت كالفراشة، أحلق هنا وهناك من شدة سعادتي إلى أن اكتشف شقيقي ارتباطه بابنة خالته في العاصمة.....
وقتها ثارت ثائرتي ورفضته كما فعل خالك ولم نتطرق إلى ذلك الموضوع ثانية، بل كتمت حسرتي وجذوة عشقي بداخلي ولم أبدها لهم.....
ومرت الأيام سريعًا وظهر رجل يدعي "أيمن" في حياتنا كصديق لشهاب ووالد طفل يتيم يُسمى "رائف" ، تعلقت بالصغير وكذلك فعل هو، وعلى الفور تفاجأتُ بوالده يطلبني للزواج، ولأن قلبي مازال مُعلق بما لن يستطع الفوز به، رفضته كما رفضت من قبله......
وتوالت علينا بعدها الكثير من الأحداث والتفاصيل لن أسردها لك اختصارًا للوقت، كل ما في الأمر إنني تعرضت لعدة مضايقات من مجهول، علمنا فيما بعد بأنها صادرة من "أيمن" لأجباري على الزواج به، حتى أن الأمر وصل إلى محاولته اختطافي من خلال ملثمين لم أستطع رؤيتهم "بالطبع هذا ما ظنناه جميعًا في البداية بناءَا على رواية "عز" الذي كنا نثق به ثقة عمياء لما كان يُبديه من الاهتمام بوضعي.....
علي كُلًّا تأزم حالنا وضّيق "أيمن" من حصاره حولنا أكثر حتى قرر شهاب العودة بي إلى مصر، وقتها أقترح والدك على شقيقي أن يتزوجني أحد رفاقه وبذلك ييأس "أيمن" من اقتراني به وننتهي من كابوسه إلى الأبد...
وبرغم رفضي للفكرة ألا أنني كالعادة أفعل دائمًا ما أؤمر به، لذا أُجبرت على الزواج من أحد معارف شقيقي، رجل ميسور الحال ذو شأن ونفوذ استطاع دحر وإنهاء محاولات "أيمن"
كل ذلك مقابل شرط واحد وهو أن يكون ذلك الزواج صوري ولفترة معينة وهي فترة مكوثه في الخليج، ثم تطليقي فور وصولنا العاصمة، ولأنه لم يكن ارتباطًا حَقِيقِيًّا حتى وبمدة محدودة رضخت لطلبه على عكس والدك الذي جن جنونه وفقد جزء كبير من تعقله وظل يطاردني أينما ذهبت ويخبرني بمدى حبه لي واستعداده التخلي عن الجميع من أجلي، وفي أحد الأيام طلب لقائي فوافقت....
كان في حالة من الإعياء والهذيان، كل ما كان ينطق به أنه لن يتركني لغيره، لن يسمح لـ "أنور" بالفوز بي، فأنا ملكه فقط وسيجعلني ملكه بالقوة، حاولت تهدئته ولكن ثورته كانت أكبر من أن أحتويها، وكأنه فقد رشده!..، ثم بعدها بدأ يحاصرني ويخبرني بأنه خطط لكل ذلك واتهم أيمن بما لم يفعله حتى يظفر بي، ولكن "شهاب" خذله ووافق على تزويجي "لأنور" بدلًا منه، وأكد لي مرارًا أن هذا الزواج لن يمنعه عني!....
دفعته وقاومته بكل قوتي، صرخت وتوسلت، طالبته بالابتعاد ولكنه ظل يقترب وينتهك براءتي، ولم يكن الفارق الجسدي في مصلحتي فظفر في النهاية بما أراد....
عدت بعدها إلى القاهرة كمطلقة حاملة سري بداخلي وقد زهدت الحياة وفقدتُ الثقة في الجميعَََ
لم أخبر أحد بما حدث، كنت جبانة وظننت أن إخفاء الأمر هو الحل المثالي حتى اكتشفت حملي بك، وقتها اضطررت إلى أخبار شهاب بالواقعة، وكان رد فعله هو البحث عنه وتزويجي له....
لا تستغربي الأمر عزيزتي، ولكن في بلادنا العربية، المرأة هي دائمًا ما تدفع ثمن الاغتصاب وحدها، وكل اللوم يقع على عاتقها....
وللمرة الثانية تزوجت رغم إرادتي الحرة!
أعلم أن ما سأقوله قد ينافي رغبتك ويثير اشمئزازك ولكنني في النهاية استطعتُ مسامحتهَ، صدقيني عزيزتي والدك لم يكن بذلك السوء، وبعد زواجنا ظل يعتذر مني ويحاول تعويضي حتى رضخ قلبي في النهاية وقبله من جديد، وما دفعني إلى نسيان خطأ الماضي هو مدى حبه لي ولك.....
اعتذر منك لأننا لم نكن أباء صالحين ولكن كما قلت لك في البداية، هناك ألوان أخرى في الحياة....
لا تكرهيه رحمة.. فأنا لم أستطع وأتمنى منك فعل المثل... فقط تذكري كل ما فعله من أجلك وامضي في حياتك وارمي وراء ظهرك ما علمتيه عنه وما مررت به معه.....
فهذا قدري الذي تقبلته وأتمنى أن يكون قدرك أفضل مني ومختلف عني....
وفي النهاية لا تنسى الترحم علينا فنحن بين يدي الله الآن، والله هو من يتولى الحساب... )..
قرأت الخطاب مرة، اثنان وعشرة، ظلت تقرأه حتى تاه منها العد، وحفظت كل حرف به عن ظهر قلب، وأخيرًا حتى اعتادت على كل ما مكتوب به وتوقفت مشاعرها عن التفاعل معه، ثم قامت بإحراقه وعادت إلى غرفتها تختبئ بها، وتتكأ برأسها المتعب على وسادتها...
لن تحزن على ما رضت به غيرها، هذا ما قررته ببساطة وهي مستلقية فوق الفراش تُعيد كلمات الخطاب بداخل عقلها وخاصةً الجزئية الأخيرة، فبطريقة ما استطاعت مسامحة والدتها له إطفاء غضبها من ناحيته، أو ربما العكس!!...
كانت غاضبة من صفح والدتها عنه إلى الحد الذي جعلها تفقد شعور التعاطف معها هي الأخرى، فالأسوأ من عدم المقاومة هو إقناع غيرك بالأمر الواقع بل والطلب منه التعايش معه!.....
كان الأمر أقرب إلى تبلد في المشاعر منه إلى أي شيء آخر، وفي الوقت الحالي، كان حنقها من تلاعب طاهر بها، أكبر من سخطها على والديها، الأمر الذي هالها بالتأكيد، بل وسهدها طوال الليل تحاول الوصول إلى إجابة منطقية، فكيف يمكنها الغضب ممن أخفي عنها الحقيقة، أكثر من غضبها على الفاعل نفسه؟!..
وبعد ساعات من التفكير وصلت إلى الاستنتاج التالي....
على قدر الحب يكون الزعل...، وفي اللحظات الحالية كان حبها لزوجها، يتفوق على حبها لأي شخص آخر... وعليه لن تعفو بسهولة.
*********************
في مساء اليوم التالي.....
دائمًا ما كان يؤمن بأن العبث بمشاعر المرء هي أسوأ جريمة يمكن ارتكابها في حق البشرية، فالصدق والوضوح من وجهة نظره هي أول مراحل العشق، فإذا أحببت شخص ما من كل قلبك، فأول ما تود فعله هو تعرية روحك أمامه، والكشف عن عيوبك قبل مميزاتك، أخطاءك قبل نزاهتك....
وإن كان الطرف الأخر يبادلك نفس الشعور، أو على الأقل يكنُ في نفسه إليك بعض الاهتمام، فسيقبل صراحتك ويقدرها، وبالنسبة لقانونه الخاص.... فإن الصدق مع الحبيب حتى وإن كان موجعا، خير من ألف كلمة حب تخرج من فم كاذبا...
قطع رواق المنزل وهو غارقًا في أفكاره تلك قبل أن يتهادى إليه ويُخرجه منها همهمات تَجَمُّع العائلة وعلي رأسهم صوت ضحكات والده قادمة إليه من غرفة الطعام، فرفع ذراعه ينظر في ساعة يده في تعجب إذ تُفَاجِئ بها قد تجاوزت الثامنة!...
هل حَقًّا سار كل ذلك الوقت بمفرده دون الشعور بالوقت؟!، هذا ما فكر به مستنكرًا وهو يشق طريقه إليهم، ففي منتصف اليوم وبعد خروجه من الشركة قرر الترجل قليلًا قبل العودة إلى المنزل، فدائمًا ما كان السير يُحسن من حالته المزاجية ويساعده على التفكير بوضوح، واليوم كان في أشد الحاجة لتنقية أفكاره وتحفيز عقله على فعل التصرف السليم، خاصةً وزوجته لازالت تختبىء في غرفة طفلته وتتعمد عدم رؤيته أو حتى مصادفته في الأنحاء!...
وبقلب مثقل تقدم إلى غرفة الطعام وداخله ينتوي الاعتذار عن مشاركتهم وجبة العشاء ثم البحث عنها والتحدث إليها ووضع حد لذلك الحضور الغياب.
وبينما كان عقله يبحث عن حجة مناسبة للهرب بها، كانت عيناه تمشط الغرفة رغمًا عنه عله يلمحها، وبالفعل آتاه ما تمنى إذ رأها تجلس في المقعد المجاور لطفلته وتحرص على إطعامها بيدها، فسارع يتخذ من المقعد الأخير الشاغر جوارها مجلسًا له، وذلك بعدما تمتم مُلقيًا تحيية المساء على الجميع، ثم قام بطبع قبلة خاطفة فوق شعر صغيرته، وأخرى مماثلة ولكن طويلة وعميقة فوق رأس من يبحث عنها، والتي سرعان ما حاولت تحريكها بعيدًا عن فمه كعلامة رفض صريحة، فابتعد عنها بابتسامة عابثة ارتسمت على ثغره، وازدادت اتساعًا عندما مال بجذعه نحوها، وهمس في خفوت لم يصل إلى سواها :
-(( سلام ع اللي باللقا بخلان ))..
واصلت تحريك ملعقتها والعبث بمحتويات صحنها دون النظر إليه، متجاوزة تلك الرجفة الخفيفة التي أصابت داخلها من عمق نبرته، ثم ردت تجابهه بنفس الخفوت :
-(( وعلى اللي قلبه لغيري مال ))..
ارتفعت زاوية حاجبه الأيمن في عدم تصديق، يحاول كتم ضحكته المستمتعة، فمن غيرها يستطيع مواجهته والوقوف أمامه بكل ذلك الكبرياء!!، وقبل أن يبدأ جولة أخرى من التراشق بالعبارات، قاطعه رنين هاتفه الذي دوى جاذبًا انتباه الجميع، فتنازل مجبرًا عن المجادلة، مُجيبًا بدلًا عنها على اتصال قريبه، ومستفسرًا في فتور :
-(( مساء الخير يا رضا.. كلكم كويسين ؟! ))..
أستمع إلى إجابة قريبه وقد بدأ في جذب انتباهها وانتباه والده على حد سواء رغم اختلاف الأسباب، حيث تبدلت ملامح جواد إلى الجدية، متسائلًا بعد فترة من الصمت في ترقب :
-(( متأكد أنه اتقبض عليه؟! ))..
هنا تدخل والده السيد أنور يسأل في قلق حقيقي :
-(( خير يا جواد!!.. استر يا رب مين اللي اتقبض عليه؟! ))..
رفع إبهامه يطلب من والده الانتظار، ثم قال موجهًا الحديث لقريبه :
-(( لا متكلمش طاهر دلوقتي سيبه.. اقفل وأنا مسافة الطريق وهكون عندك أحسن كده ))..
بلغ القلق ذروته على وجوه المتابعين وأولهم والده الذي هتف يسأل من جديد في نفاذ صبر :
-(( طمني يا جواد.. مين ده اللي اتقبض عليه.. وعشانه هتنزل تقابل رضا؟! ))..
تمتم جواد مطمئنًا وهو يدفع مقعده للخلف وينتصب بجسده استعدادًا للذهاب :
-(( مفيش يا حج متقلقش بالعكس ده خبر حلو.. أبو المجد صدر امر من النائب العام بالقبض عليه ))..
ارتخت ملامح والده، وتمتمت والدته تُحمد خالقها بينما قفزت غفران من مقعدها تقول في جدية :
-(( أنا جاية معاك ))..
الآن تُريد صحبته!، هذا ما هتف به عقله، في حين احتفظت ملامحه بهدوءها وصوته بصمته عدة لحظات مقررًا بعد فترة من التفكير انتهاز العرض والإجابة، وعليه همس يقول في اقتضاب :
-(( تمام.. هاتي شنطتك وتعالي ))
عبست في استغراب حتى اختفت المسافة ما بين حاجبيها، وهي من كانت تستعد لسماع كلمة لا!...، أما عنه وكأنه قرأ ما يدور في عقلها فعاد يقول ويشتت تفكيرها بابتسامة خافتة :
-(( هتقفي تبصيلي كتير ولا نتحرك عشان نلحق نرجع بدري ))..
حركت رأسها موافقة في لهفة قبل أن تنطلق راكضة إلى الأعلى وقد قررت ترك شكوكها والبحث عن غرضه الفعلي من تلك الموافقة جانبًا، بينما تابع هو هرولتها نحو الدرج بانتصار، فاختلاءه بها ذهابًا وإيابًا كل تلك المسافة يُعطيه الوقت والخصوصية الكاملة للتحدث معها بأريحية، آملًا في إنهاء حالة اللاسلم واللاحرب بينهم الليلة.
وفي الطريق العام....
بعد نصف ساعة من الصمت الكئيب الرتيب الخانق، قرر هو قطعه عندما تحدث يسأل في نبرة تبدو ظَاهِرِيًّا خالية، بينما دَاخِلِيًّا كان يحترق من شوقه انتظارًا للرد :
-(( مش حاسة أنك محتاجة تقولي حاجة؟! ))..
علمت مقصده وما يرمي إليه من نظرة عينه الجانبية لها ونبرة صوته، الأمر الذي جعلها تتساءل في حيرة، متى وأين أصبحت تفهم ما يُريده دون التصريح عنه!، حركت رأسها متجاهلة شق السؤال الخاص بها، ومقررة التلاعب بإجابة سؤاله قليلًا، فقالت تستفسر في نبرة جامدة ساخرة :
-(( أنا طول الوقت ببقي محتاجة أقول حاجة.. ده طبعي وأنت عارفه.. أظن ليه علاقة بكوني محامية ))..
رمت إجابتها في وجهه ثم استدارت برأسها إلى الطرف الأخر تدعي الانشغال بمتابعة الطريق من حولهم، متعمدة بذلك استفزازه، وقد نجحت في مرادها إذ هتف يقول تلك المرة في نبرة أكثر حدة وارتفاعًا :
-(( يعني ممكن تخليكي أكتر تحديد شويه.. وتفتكري أن من يومين كان بينا كلام قطعتيه وسبتيني ومشيتي ))..
جزءًا منها أراد الصراخ في وجهه، وجزء أراد معاقبته، وما بين الإثنين كان قلبها يتذكر عرضه الأخير لها فينتفض حماسة وسعادة، بل ويطالبها بالقبول ولكن هيهات، فرأسها اليابس وطبعها العنيد يأبى التسليم من أول جولة؛ لذا ردت معقبة في هدوء زاد من حنقه :
-(( قصدك أن رحمة طلعت مش بنتكم خالص وأن حصلت حادثة زمان لما اكتشفتوها اضطرتكم تنسبوا اسمها ليكم.. الله يكون في عونها بجد.. أكيد لما تعرف هتتصدم.. أنا مشفقة عليها وعلى طاهر من الحقيقة ))..
ضرب مقود السيارة بيده، قبل أن يضغط على مكابحها ويوقفها على جانب الطريق، ثم صاح يقول في عصبية وقد بلغ انفعاله من مراوغتها له مبلغه :
-(( متخلنيش أسب لطاهر ورحمة دلوقتي!.. أكيد مش قصدي الجزء ده وميهمنيش عرفت ولا معرفتش ولا ده اللي مسهرني بقالي يومين مستني إجابته.. وبعدين بعد كده لما تحبي تعاقبيني بلاش تلعبي عليا لعبة الغباء عشان مش لايقة عليكي.. ولا أنا غبي عشان أصدقها ))..
أجفل جسدها من حدته وملامح وجهه المحتقنة فوجدت أطرافها تنكمش رغمًا عنها في شعور جديد لم تستسيغه إذ كانت تختبره للمرة الأولى ربما، ولذلك أرادت مقاومته بكل ما أوتيت من قوة قبل أن يتغلغل إليها أكثر وعليه هتفت تقول في شراسة :
-(( قصدك جزء أن حضرتك بتحب رحمة!! ))
سارع ينفي عن نفسه التهمة بالقول الواضح القاطع، الذى لا يفسح أي مجال للتشكيك :
-(( أنا مقلتش أني حبيت رحمة ولا عمرها هتحصل.. أنا كلامي كان واضح وضوح الشمس وصريح.. قلت أني في فترة ما كنت بدور على حد بديل لرنا.. وملقتش قدامي غير رحمة.. أعجبت بطريقة حياتها وعيشتها وشفت أن النموذج ده هو اللي هينفعني بعد التجربة الفاشلة اللي مريت بيها، وأن الالتزام اللي متمثل فيها هو اللي في المرحلة دي كنت بدور عليه.. إعجاب بالأخلاق وأسلوب الحياة.. بس حب مستحيييل.. معترف بغلطي وندمي أني في فترة ما فكرت أن بعد طلاقها من طاهر اقدر ارتبط بيها.. لكن فوقت بسرعة أول ما بدأت أحس بميل طاهر ناحيتها.. صدقيني أنا مش زبالة عشان أبص لمرات صاحبي وأخويا.. دي كان مجرد سقطة مني اعترفت بيها ليكي لأن شفتك الوحيدة اللي عايزها تشاركني كل حاجة حتى تفكيري الغلط.. الوحيدة اللي حبيت أعري نفسي وتفكيري قدامها ))..
مرر لسانه فوق شفاه الجافة يرطبها في عُجالة، ثم أردف يقول من جديد في سخط :
-(( وبعدين أنا حبيت أبدأ معاكي بداية مختلفة عشان أنتِ بالنسبالي مختلفة.. حالة خاصة مش هتتكرر تاني ولا عايزها تتكرر.. أنا حبيتها بكل ما فيها ومش عايز غيرها ولما حكيتلك عن ماضي كان سهل جدًا اخبيه.. حكيتلك عشان اتمنيت تتقبليني بأكتر حاجه عملتها غلط وندمت عليها.. باقي حياتي كتاب مفتوح قدامك ومعروف.. وكان عندي أمل تكون مشاعرك ناحيتي زي مشاعري ناحيتك.. أو على الأقل في أي حاجة في قلبك ليا ممكن تخليكي تعذريني وتقبلي تكملي معايا ))..
زفر مطولًا في عجز، ثم رفع كلا ذراعيه يمسح بعنف قسمات وجهه، قبل أن يُضيف في يأس :
-(( يمكن اتسرعت في كل حاجة.. يمكن كان لازم استني على علاقتنا شويه كمان قبل ما أقول اللي قلته بس مش بأيدي.. الإحساس اللي جوايا ناحيتك عمال يكبر كل يوم وبقي واضح وميتحملش إنكار أو تأجيل ))..
تعالت دقات قلبها وهي تستمع إلى الجزء الأخير من حديثه، يا الله لقد اعتزلته يوم بليلة حتى لا تضعف وتبرر له خطأه وها هو استطاع بعدة كلمات بسيطة إخماد غضبها منه، بينما استطرد هو يقول في حزن :
-(( أنا قلتلك وقتها بقدملك قلبي ومستني تقبليه.. هو ده اللي مستني الرد عليه.. عايزه تزعلي مني تمام.. عايزه تصرخي في وشي موافق.. حابه تفضلي نايمة مع لينة ومتشوفنيش هسيبك براحتك.. هقبل كل ده.. بس الشيء اللي مش هعرف ابلعه أني أقوالك بحبك وملاقيش رد ))..
فرغ فاها واتسعت حدقتاها، بالتزامن مع شهقة خافتة مذبذبة خرجت من بين شفتاها المرتعشة كحال كامل جسدها المتفاعل في عنف محموم مع تصريحه، كان كل شيء بها يثور ألا صوتها، الوحيد الذي رفض الظهور، فعاد جواد يقول في نبرة ناعمة حريرية، بينما يده تمتد نحو كفها يحتضنه ويداعب باطنه :
-(( غفران أنا بحبك.. أنا يمكن مبعرفش أعبر عن حبي زي طاهر.. ولا هتلاقيني في يوم عاشق مجنون ماشي يعلن لكل الناس عن حبه.. بس اللي لازم تتأكدي منه أن اللي حاسة ناحيتك أقوى حتى بكتير من مشاعر الحب.. وكأني بيكي بكتمل..
معرفش أزاي بس نظرة منك ليا بتمحي غدر الماضي وقساوته.. وبترجعي لقلبي شبابه وبحس أنه نفسه يعيش معاكي كل حاجة من أول وجديد..
إحساس غريب بالفخر من ساعة ما بقيتي مراتي وتحت سقف بيتي.. كل الشروط اللي حطيتها عشان ارتبط تاني جيتي أنتِ في لحظة هدتيها.. وخليتي أقصى طموحاتي أن أسمع منك كلمة حلوة.. باختصار أنتِ خطر على قلبي ورجولتي.. وحتى دلوقتي وأنا بعترفلك بكل ده مش عارف ممكن أعمل إيه عشان أكسب قلبك ))
هطلت دموعها أخيرًا بعد باع طويل من المقاومة، ثم همست تقول في بحة طفولية خافتة :
-(( متعملش ))..
شعر بكلمتها تخترق صدره كالخنجر، وكأنه فقد للتو أعز ما يملك، شعور غريب بالعجز والفقد داهمه وهدم كل أحلامه إلى أن آتاه تفسيرها، تقول في خجل من بين دموعها المتناثرة :
-(( مش محتاج.. هو حبك من غير ما تعمل حاجة ))..
رفع رأسه ينظر إليها في ذهول وعدم تصديق، بينما أردفت تضيف مفسرة :
-(( أنا زعلت عشان خفت تكون بتحبها.. ده اللي وجعني بس مستحيل أزعل منك على غلطة من الماضي.. اللي بيحب حد بيسامحه حتى من قبل ما يطلب.. وده اللي حصلي معاك ))..
ظل يحدق بها في بلاهة فترة من الوقت كالصنم، لا شيء يدل على انتماءه لعالم الأحياء سوي دقات قلبه الهادرة، وتفاحة آدم التي تتحرك صعودًا وهبوطًا داخل عنقه في عنف، هامسًا في توسل بعد فترة من الصمت :
-(( قوليها صراحة.. قولي بحبك بصوت عالي عشان أصدق ))..
ارتفع وجيف نبضها حتى وصل إلى أُذنيها، ثم قالتها بصوت مبحوح يفيض عشقًا من بين أنفاسها اللاهثة :
-(( بحبك يا جواد ))..
لم يحتاج إلى دعوة أكثر صراحة للاقتراب، ودون وعي منه امتدت ذراعيه إلى خصرها يضمها إليها بجرأة رجل خبير يعرف ما يفعله، بينما شفتاه تلتهم خاصتها متذوقًا من فمها حلاوة كلمة العشق، ويختمه بختم رجولته، بل ويوعده بلقاء مكتمل قريب.

**************************

جلست بداخل إحدى العيادات النسائية المشهورة، تنتظر ظهور نتيجة تحليل الدم على أحر من الجمر، وتتابع بعينيها الزرقاء ذوات الأحمال من حولها وداخلها يتمنى أن تُكلل مساعيها بالنجاح وتصل هي الأخرى إلى تلك المرحلة بعد ما عانته في المرات السابقة، فها هي تفعل كل ما بوسعها وتأخذ بكافة الأسباب كي تقطع الطريق على حماتها في تزويجه بأخرى، حتى أنها بحثت على الإنترنت عن أمهر أطباء الحمل والولادة وقررت المتابعة معه بعدما حصلت علي إذن زوجها بالطبع فهي لا تتحرك إلا بموافقته، وها قد جاء موعدها بعد شهر كامل من الانتظار، لم تتذمر من طول الفترة فداخلها يشعر بالأمل والراحة من كثرة ما قرأته عن المعجزات التي يقوم بها هذا الطبيب، لذا تشعر وكأنها في يد أمينة، وقد ظهر هذا واضحًا من فحصه الأولي لها قبل ساعتين، كيف اهتم بها واستمع تاريخها المرضى كاملًا وإلى كافة التفاصيل التي حدثت لها في مرات الحمل السابقة، ثم في النهاية وعندما أخبرته بتأخر عادتها الشهرية سبعة أيام كاملة طلب منها عمل تحليل الدم ثم الانتظار في الخارج حتى ينتهي المعمل من فحص النتيجة وأخباره بها، وإلى الآن لازالت تجلس مترقبة، تتضرع إلى الله في صمت أن يعوض صبرها خير ويكافئها....
وبعد نصف ساعة أخرى من الانتظار المهلك، قضتها في الدعاء صدح صوت مساعدته الخاصة تهتف اسمها في بشاشة وتطلب منها الدخول إلى غرفة الطبيب حيث ينتظرها...
لم تدري كيف حملتها قدميها إلى الداخل، أو كيف سارت حتى وصلت إليه، فكل ما صبت تركيزها نحوه هو فم الطبيب الذي هتف يقول مبشرًا فوق رؤيته لها :
-(( مدام أفنان.. ألف مبروك لحضرتك.. حامل ))..
ارتمت بجسدها فوق المقعد الجلدي المقابل لها وقد خذلتها ساقيها وبدأت ترتجف من فرط السعادة حالها كحال سائر جسدها، بينما أردف الطبيب يخبرها بالمزيد في عملية :
-(( عمر الجنين كمان طبقًا لروايتك حوالي ٤ أسابيع.. يعني الحمل مش لسه في بدايته.. هكتبلك كده على شوية تحاليل كمان عشان نأمن نفسنا ونضمن أن إجهاض المرات السابقة ميتكررش معانا إن شاء الله.. وأهم حاجة الراحة والتغذية وتنفيذ كل التعليمات اللي هطلبها منك ))..
حركت رأسها موافقة في خضوع، في حين تناثرت دموعها هنا وهناك، ثم راح عقلها على الفور ينسج لها مشهد انتقامي وقتما تُخبر حماتها بخبر حملها في تلك المدة القصيرة وكيف ستكون ردة فعلها، ومع انغماسها في المشهد الخيالي أكثر فلتت منها ضحكة خافتة وهي تفكر رضا أن القدر دائمًا ما يبدو في صالحها.



تعليقات