رواية في لهيبك أحترق
الفصل الأربعون 40
بقلم شيماء يوسف
ما استُكمِلتْ لي فيك أولُ نظرة
حتى علمتُ بأنَّ حبّك فاضِحي
أهواهُ حتى العينُ تألفُ سُهدَها
فيه، وتطربُ بالسقامِ جوارحي
-ابن سهل الأندلسي
قيل قديمًا إن الحب والحرب سواسية، يتشابه فيهما الجندي والفارس، العبد ومن يسكن القصور العالية، فأما يرفعان قدرك، وأما يورداك موارد الهاوية، كما كلاهما قادرين على إحراق روحك بنيراهم الحامية، ولا مفر سوي المحاربة حتى تظفر بما تريد، أو تكن خسارتك هي القاضية...
نطقها وكأنها خاتمة الكلمات وأغلى ما يوده من أمنيات، أخر ما يعرفه من حروفه ومنتهى ما يعلمه من أبجديات، لقد لفظها ولا مجال للتردد فأوان التراجع قد فات، والآن....
وقت المواجهة والبوح بكل ما يحبسه من اعترافات، وأما أن تحييه بقبول ما يقدمه لها، أو ترسله بيدها إلى عالم الأموات....
ودون انتظار ردها أو التعقيب على ما قاله أردف يعيدها، بينما عيناه مثبتة على ملامحها المركزة فوق فمه تترقب منه ما هو آت :
-(( أنا بحبك يا عالية.. في الحقيقة أنا محبتكيش من النهاردة ولا من إمبارح ولا من شهر ولا حتى سبعة... أنتِ بذرة حبك اتزرعت في قلبي من أول تنهيدة خرجت من بين شفايفك.. ومع أول جملة سمعتها من صوتك.. ومن أول لقاء بينا.. متستغربيش كلامي الحب ده حاجة مش بايدينا.. دي قلوب بتبدل بين أيدين ربنا.. وأنا منعت نفسي عنك لما عرفت أنك على ذمة واحد تاني وميأستش.. فضلت صابر لحد ما ربنا عوضني بالحلال ))..
أصابتها حالة من الانتشاء كمن تعاطي جرعة محفزة من المخدر للمرة الأولى في حياته، كل خلاياها ترتجف دَاخِلِيًّا وَخَارِجِيًّا، حتى دمائها تغلى بداخل أوردتها، ويكاد ضجيج ضغط الدم يصم أذنيها وقد فصلها عن سماع كل ما حولها، أما عن حالة القلب، فحدث ولا حرج، كان ينتفض بين أضلعها في هيستريا دون رأفة بجسدها الضعيف الذي أخذ يترنح من هول المفاجأة، فمدت ذراعها على مضض تتلمس منه الدعم، ولم يخيب ظنها، إذ حرك كلا ذراعيه في اتجاهها يسندها، محاوطًا بذلك خصرها، وبعد فترة من التحديق بأحجار عينيه الزمردية، همست تسأله في عدم تصديق ونبرة متقطعة مذهولة :
-(( أنت.. افــتكرررتني!! ))..
ابتسم في إشراق حتى لمعت عيناه، ثم قال في نبرة مشبعة بالعشق :
-(( منستكيش عشان افتكرك ))..
أحنت رأسها تُريحها فوق موضع قلبه شاعرة بدقاته الثائرة أسفل جبهتها، ومن دون تمهيد وجدت الدموع تشق طريقها وتندفع كما الشلال فوق وجنتيها، وكأنها ببكاءها تطرد أخر ما يربطها بالحزن والترقب والحيرة، أشهر وهي تنكوي بعذاب عشقها ذو الطرف الواحد....
والآن ذهب كل ذلك إلى غير رجعة، وكلما عاد يهمس الكلمة بجوار أذنها، كلما شعرت بروحها ترتفع حتى وصلت إلى حدود السماء من فرط سعادتها....
وبعد فترة من النشيج المتواصل وضمه لها في صبر، رفعت رأسها تطالعه بأنفها القرمزي وعينيها الحمراوتين، ثم ومن بعد أن تلاشت نوبة بكاءها تمامًا وقبلت منه المحرمة الورقية التي قدمها لها، همست تقول في هدوء :
-(( في حاجة مهمة أنت لازم تعرفها )).
لم تنتظر منه رد فعل أو تعقيب، فقط استمرت تقول بنفس النبرة الهادئة الساكنة :
-(( يوم كتب كتابي الفرح متلغاش عشان الصور.. ممكن يكون ده السبب الظاهري.. بس في حاجة تانية محدش يعرفها ))..
همهم يحثها على الاستئناف وعينيه مسلطة فوقها في تركيز تام، فأردفت تقول في توتر :
-(( قبلها أنا طلبت من محمد ننفصل.. مكنتش عايزه أكمل معاه ))..
انفرج ثغرها بابتسامة خجل واسعة، بينما اللون الأحمر يتوغل في زحفه فوق وجنتيها، هامسة في بطء بعدما عضت طارف شفتها السفلية :
-(( عشان لحظتها أول ما غمضت عيني شفتك قصادي مش هو.. ومن وقتها كل ما بغمض عيوني بشوفك قدامي ))..
ازدردت لعابها في قوة دون النظر إليه، وبالرغم من احتراقها شوقًا لرؤية تعابير وجهه كانت تعلم بأنها ستفقد كامل شجاعتها أن تحدثت وهي تناظره، لذا قررت الهروب من زمرديتاه حتى تنتهي من قول ما تريد، وبالفعل ختمته بجملة بسيطة، لخصت بها ما عايشته لشهور :
-(( وبعدين اكتشفت أن ده.. أبسط إشارة عن الحب ))..
رفعت أهدابها تلك اللحظة وقد أرادت فجأة قولها والاعتراف مباشرةً أمام عيناه حتى وإن كلفها ذلك كل شجاعتها :
-(( يحيي.. أنا بحبك ))..
اتسعت عيناه الجائعتين إليها في دهشة، يكاد يفقد السيطرة عن الجزء البسيط الباقي من تعقله، بينما أنفاسهما تتسارع معًا في رتم عنيف، قبل أن يجذبها نحوه في تملك شديد ويلتهم شفاها كرد فعل صريح بعد أن صرخ اسمها في لهفة هزت أركان ثباتها....
وبعد فترة طويلة من التحام ثغريهما معًا، أفلتها كي تلتقط أنفاسها فسارعت تقول مغيظة وهي تبتعد عنه :
-(( حضرتك بقي كنت عامل ناسيني مش كده!!.. وسايب ست جيداء تغيظ فيا ))..
هرول خلفها مَادًّا كلا ذراعيه نحوها يجذبها نحوه مرة أخرى حتى تمكن منها واستطاع حبسها بين ذراعيه قبل حملها والركض بها نحو غرفتهم هاتفًا في إصرار :
-(( لا ورحمة أموات عيلتي واحد واحد.. مفيش بعاد تاني عشان تبقى عارفة.. أنا استويت ))..
أرادت التلاعب به قليلًا ولكن هيهيات، فبمجرد أن دنى منها ورأت غمامة العشق التي غطت عيناه، حتى استسلمت وذابت تحت عبث يداه، بينما شفاه لا تتوقف عن همس اسمها في خشونة، قبل أن يحلقا سَوِيًّا إلى سماء كوكبهم الخاص وكلاهما بات يعرف أن قلب الأخر لا يحتله سواه...
**************************
"يقال بأن المصاب بداء الهوى، ليس له دية ولا دوا".....
ابتسم عن مليء فاه وهو مستلقي جوارها فوق الفراش، وقد قفزت تلك الكلمات فجأة أمام ذاكرته، إذ أخبرته بها عجوز ما مُذ فترة طويلة في إحدى الليالي، عندما جاورته في المقعد ولمحته يجلس مهمومًا في انتظار الحافلة لنقله، وقتها باغتته بتلك القافية ممازحة تحاول مواساته والتخفيف عنه...
أما الآن فيود لو يصادفها مرة ثانية ويخبرها بأنه وجد دواءه وترياقه، وها هو الآن قد أكتمل بوصالهم شفاءه...
وقبل أن ينغمس أكثر في ذكرى اكتمالهم منذ ساعات مضت، والذي كان أكثر بكثير من لقاء بين رجل وزوجته، بل هو أقرب لاتحاد عاشقين طال بهم الشوق حتى أضني روحهم، شعر بها تتململ برأسها الموضوعة فوق صدره، فبادر بالتحرك وشد ذراعه أكثر فوقها، بينما فمه يطبع قبلة ناعمة فوق شعرها فور استماعه لها تغمغم مستنكرة بصوتها الناعس المتحشرج بعد شعورها بالضياء وقد أرخي سدوله من حولهم :
-(( يحيى! أنا نمت كل ده؟!.. ده النهار طلع ))..
تنهد في امتلاء، يشعر بالتخمة كمن وقع على بئر بعد طول جفاف فشرب منه حتى أرتوي، ثم قال بنبرة مبحوحة راضية :
-(( صباح الخير على اللي واخدة قلبي وعقلي بجمالها ورقتها ))..
ضغطت فوق شفتيها معًا في قوة، قبل أن تحرك رأسها وتُخفيها في تجويف عنقه، بينما وجنتيها تتضرج بحمرة الخجل، فأردف يقول مشاكسًا بعدما ملئت الابتسامة الواسعة وجهه :
-(( عرفتي بقي مين هي مراتي الحقيقية ولا نقول كمان ))..
همست تقول من داخل عنقه تستجديه بصوتها المكتوم :
-(( يحيى بجد بطل ))..
تحولت ابتسامته تلك المرة إلي قهقه عالية نِسْبِيًّا، بالتزامن مع رفع ذراعه الحر كي يُبعد وجهها عن عنقه حتى يستطيع رؤيتها، ثم سألها في نبرة حانية متفهمة بعدما تنهد في عشق :
-(( عالية.. أنتِ مكسوفة مني؟! ))..
حركت رأسها مؤكدة، بينما حمرة الخجل تنتشر على طول وجهها حتى وصلت عنقها في تضاد تام مع بعض العلامات التي دمغتها، ثم وبعد أن تأملها مطولًا يلتهم ملامحها همس يسأل في عجز من تيمه الحب :
-(( وأنا قلبي الضعيف هيتحمل أزاي كل البراءة دي ))..
لم تجيبه وقد انشغلت عنه حَقًّا بإسبال أهدابها كي تُخفي عينها عنه، فبعد كل الجنون الذي عاشاه سَوِيًّا لا تقو على مواجهته والنظر إليه، فسارع هو برفع ذقنها إليه مُتَمتمًا في توسل حقيقي :
-(( لا الله يخليكي متبعديهمش عني أنا ما صدقت.. وبعدين عندي كلام مهم لازم تعرفيه ))..
تجاوبت معه برفع أجفانها والنظر نِسْبِيًّا إليه دون تعقيب، وقد ألهاها ولو مؤقتًا عن الخجل منه عندما تحدث يقول في جدية ولكن بنبرة لازالت ناعمة :
-(( أنا كمان محتاج أقولك حاجة وأفهمك حاجات ))..
همست تقول مشجعة في فضول :
-(( سمعاك ))..
حرك ذراعه نحوها يبحث عن كفها حتى وجده وشبك أناملها الصغيرة بفوارغ خاصته، ثم بدأ يقول في سكون :
-(( أول حاجة.. أنا مجتش يوم كتب كتابك لما عرفت بموضوع الصور.. أنا جيت على اتصال من غفران بتطلب مني من غير تفاصيل أني أجيلك لو كان في قلبي حاجة ناحيتك.. اتصالها أحيا في قلبي أمل.. وجريت أسوق بكامل سرعتي يمكن تكون حاجة حصلت وقفت جوازك.. ومتتصوريش إحساسي كان أزاي لما وصلت وسمعتك بتقولي مش عايزاه.. هتفضل من أحلى لحظات حياتي.. وكأني فزت بسباق بعد ما كان نفسي اتقطع من كتر الجري وأخيرًا وصلت لعلامة النهاية ))..
رفعت ذراعها الذي كان مسنود فوق صدره العاري تحتضن براحة يدها شطر وجهه، بينما أذنها تتشرب في ارتياح حديثه وقلبها يهدر في جنون متفاعلًا مع كل حرف ينطق به فمه، بينما استطرد هو يضيف :
-(( يعني محدش طلب مني أتجوزك زي ما قلتي أو خمنتي.. ))
ابتسم في سخرية هَازِئًا من حالته المتلهفة وقتها، ثم أردف يقول في خفة :
-(( بالعكس ده أنا اللي اتحايلت على والدك وجواد وقتها يجوزوكي ليا زي المجنون.. بعدما شرحتلهم قد إيه بحبك.. وأخدت منهم وعد محدش يقولك الحقيقة لأنك لازم تسمعيها مني وده اللي كنت ناوي عليه يوم فرحنا قبل ما تظهر جيداء ))..
توقف إبهامها عن مداعبة وجنته وتجعدت ملامحها في ضيق فور سماعها الاسم فبادر بلف وجهه إلى راحتها المفرودة فوقه وطبع قبلة راجية بداخلها، قبل أن يردف في نعومة :
-(( أنا عارف أنك مضايقة من سيرتها بس معلش أسمعيني للأخر ))..
أومأت بأهدابها تحسه على الاستئناف فأردف يشرح في استحسان بعدما سحب نفسًا عميقًا :
-(( أنا حكيت لك علاقتي بيها كانت عاملة أزاي وربنا يشهد على صدقي معاكي.. وإني مقلتش غير الحقيقة وبس.. جيداء مش مراتي ولا عمرها كانت حاجة أكتر من مشروع جواز انتهى عند نقطة كتب الكتاب.. لا عمري لمستها ولا ردتها ولا أي حاجة من كل اللي قالته في المستشفى.. غلطتي الوحيدة أني مبلغتكمش بكتب كتابي منها قبل فرحنا.. وده لان جوازنا جه بسرعة وفي الفترة الصغيرة دي مكنش شاغل بالي حاجة غير أنك تكوني حلالي وليا.. يمكن الفرحة أو اللهفة مكنوش مخليني أفكر صح.. بس صدقيني كنت ناوي أبلغك بكل ده أول ما تدخلي بيتي بس محصلش نصيب.. وعشان كده أنا آسف ))..
أنهى حديثه بطبع قبلة معتذرة فوق جبهتها، أما عنها فكانت تستمع إلى نبرته الذكورية الأجشة المتدفقة إلى قوقعة أُذنها في حالة من الهيام، لا يكاد قلبها الصغير يستوعب ما أضحى اثنتيهم عليه، ثم وعن أي اعتذار يتحدث وقد سامحته منذ جملته الأولي، أو ربما قبل ذلك بكثير.....
وبينما هي غارقة في تشرب ملامحه، استطرد يُخرج كل ما في جوفه، وقد قرر البدء معها منذ اللحظة بصفحة جديدة، دون مَاضٍ مؤلم، أو مستقبل مبهم :
-(( أخر حاجة بقي موضوع أبو المجد وغالبًا أنتِ عرفتي تفاصيله.. بس اللي متعرفهوش أني من فترة طويلة اكتشفت أن جيداء متورطة مع رجل أعمال مش كويس.. وللأسف طلع الراجل ده أبو المجد.. وده اللي خلي غفران وقت ما فقت من الحادثة تطلب مني أعمل فاقد الذاكرة عشان تكشف جيداء ونعرف نتحرك براحتنا.. وده السبب اللي خلاني أسكت وقت ما اتبلت عليا بموضوع جوازي منها.. وده غالبًا خطة بينها وبين نادر عشان تعرف تاخد مني معلومات.. وأنا مضطر أعمل نفسي مصدقها ومش عارف حاجة عشان خطتنا تمشي ))..
فتحت علياء فمها للتعقيب، فسارع يقاطعها متوسلًا :
-(( عشان خاطري متقفيش عند النقطة دي وتضيعي حلاوة اللحظة اللي استنها أكتر من سنة.. أنا والله مخبيت عليكي ألا عشان حمايتك.. ولا وافقت من الأصل على طلب غفران ألا عشانك أنتِ.. وأديني حكيتلك كل حاجة حتى لو كنت أتاخرت.. ومستعد أحلفك أني مش مخبي عنك أي حاجة تاني.. وكل اللي طالبه منك تستحملي وجودها شويه كمان ومش كثير لأن إن شاء الله غفران هتخرج جواد وهتدخل نادر مكانه وساعتها هنخلص من كل اللي بيأذينا.. بس لغاية ما الوقت ده يجي لازم نمثل أنك مش عارفة حاجة وإني فاقد الذاكرة ))
هتفت تسأله في لهفة :
-(( بجد يا يحيي جواد هيخرج ))..
ابتسم على سعادتها التي قفزت إلى عينيها فورًا، ثم رفع ذراعه الذي يحتضن كفها وطبع قبلة مؤكدة فوق ظهره، قبل أن يتمتم مجيبًا في ثقة :
-(( بجد يا روح يحيى ))..
ابتسمت في خجل فطري فور سماعها كلمة التدليل الأولى من فمه، ثم تمتمت تقول في حرج :
-(( ماشي.. بس أنا لسه زعلانة عشان خبيت عني أنك فاكرني.. وسبتني كل الفترة دي بموت من قهرتي وأنا فاكرة أنها مراتك برضه ))..
استدار بجسده يعتليها ويحيطها بكلا ذراعيه وساقيه حتى يمنعها من الهرب، ثم قال بابتسامة عابثة، ووجهه يدنو من وجهها :
-(( لا كده لازم أصالحك وأقنعك لحد ما ترضى عني ))..
صرخت تنطق اسمه من بين ضحكاتها تناشده التوقف وقد بدأت يده في دغدغة جوانب خصرها حيث اكتشف منذ سويعات تحسس بشرتها من لمسته، قبل أن يميل ويلتهم شفاها محلقًا بها في رحلة استكشافية جديدة داخل عالم المشاعر الخاص، حتى تُوثق الأفعال صدق الكلام.
***************************
تستلقي فوق الفراش في صمت وقد جافي مضجعها النوم حتى تقرحت أحداقها....
خمسة أيام مضت منذ سفره، وهي نفس المدة التي حُرمت منها الكري، مهما حاولت يبدو أن أجفانها تأبى الانغلاق على بعضها وقد أعلنت عليها العصيان مطالبة بعودته، وما يزيد الأمر سوءًا هو وخزات ضميرها التي لا تنتهي، بل تزداد حدتها مع مرور الأيام مصرة على سلب راحتها منها......
كيف طاوعها قلبها التعامل معه على ذلك النحو!، وآي شيطان أحمق تلبسها حينها فاندفعت وقتها تصده بكل تلك الكراهية، بينما كل ما تحمله في قلبها إليه هو العشق الخالص!......
تلوت في مرقدها وألالاف الأصوات المعاتبة تهمس بداخلها كعادة كل ليلة، قبل أن ينتصر ذلك الهمس الخافت عليهم جميعًا وينجح في بخ سمه داخل عقلها، وكلما أعطته من تفكيرها قيمة، كلما زاد من بث هواجسه وارتفع صوته، بل وتجسد أمامها كصورة حية تنهش قلبها، وبالرغم من مهاتفته لها يَوْمِيًّا والاعتذار على عدم تمكنه من العودة في الوقت المحدد بسبب تأخير الشحنة المنتظرة، ظل ذلك الهاجس يخبرها بأن السبب الحقيقي وراء غيابه هو زهده بها وعدم رغبته في رؤيتها، ناخرًا بظنونه تلك دواخلها بلا رحمة، كما السوس الخبيث يُفتت كل ما هو صلب....
وبعد فترة من الاستلقاء في الظلام وتأنيب الذات، حركت ذراعها في فتور تسحب هاتفها وتنظر بداخله، فها قد أوشك الفجر على الانبلاج، تُري ما الذي يفعله الآن، لقد وعدها في الصباح بالعودة قبل محاكمة شقيقها، أي ربما تراه في الغد...
وبذلك الأمل فتحت صورته كما تفعل كل مساء عندما يغلبها شوقها إليه، ثم راحت تتحسس بطارف سَبَّابَتهَا من خلف الشاشة المضيئة ملامحه، وعلى العكس تمامًا، لم يهدأ حنينها إليه، بل زاده رؤيته مبتسمًا لها؛ لذا ودون إرادة منها فتحت برنامج المحادثات، ثم طبعت له رسالة مختصرة وانتظرت بقلب خافق استلامه لها، قبل أن يتملك منها الإحباط عندما ظهرت علامة واحدة بجانب رسالتها في إشارة على عدم وصولها إليه...
فقط لو يعود فتخبره كم اشتاقته، وكيف نجح في التسلل واحتلال تفكيرها، ولم يكتف بذلك بل شاغل قلبها وشاركه الحداد على أخيها...
وبعد زفرة ساخنة خرجت من جوفها المشتعل، قررت الخروج من الفراش وأخذ حمامًا ساخنًا عله يهدأ من اضطرابها ولوعتها، وعليه تحركت بالفعل تختفي تحت رذاذ الماء الساخن غافلة عن صوت محرك السيارة الذي توقف داخل حديقة المنزل بعد فترة ليست بطويلة، وعن الجلبة التي أحدثها صرير باب المنزل الخارجي ثم الداخلي، يليه وقع خطواته المرهقة فوق الدرج وداخل الممر المؤدي لجناحهم حتى دلف الغرفة في نفس الوقت الذي انتهت به من حمامها وخرجت تلف جسدها رداء الاستحمام وتتفاجئ به يقف مبتسمًا لها في تردد قرب حافة الباب المفتوح
ولحظات... هي كامل المدة التي احتاجتها لاستيعاب وجوده أمامها، قبل أن تركض مندفعة نحوه تحتضنه في لهفة وتغمغم من بين دموعها التي سرعان ما وجدت مجراها فوق وجهها :
-(( أنا آسفة.. أنا معرفش أزاي سبتك تمشي من غير ما أسلم عليك وأوصلك.. أنا ندمت.. من وقتها وأنا مش عارفة أنام حتى.. أنـــا......... ))..
ثني ركبتيه قليلًا حتى يصبح في مستوى رأسها ويستطيع ضمها ورفعها إليه بالشكل الصحيح، ثم همس يقاطعها متسائلًا ببشاشة :
-(( خلصتي؟ ))..
حركت رأسها نافية بعدما استقرت داخل أحضانه ولفت ذراعيها حول عنقه، فأردف يقول ملاطفًا يبتغي بذلك إسعادها :
-(( مش مهم.. المهم أنك وحشتيني ))..
ضمته أكثر لها تريح رأسها فوق مقدمة كتفه، بينما يتحرك بها في خفة حتى وصل الفراش وجلس فوق وهو لازال محتفظًا بها بين ذراعيه، مستمعًا إليها تُكمل بصوتها المشبع بالبكاء :
-(( أنت جيت أزاي..كنت ببعتلك من شويه مسج موصلتش..وليه مستنتش للصبح.. طاهر مينفعش تسوق في طريق بليل كده! ))..
أجابها في إرهاق جم وأنامله تمسح كل ما يتساقط من جفنيها :
-(( التليفون فصل مني شحن وأنا في الطريق.. فكسلت اشحنه.. وبعدين سوقت بليل عشان وحشتيني والبيت وحشني وكان لازم ارجع قبل محاكمة جواد بعد بكره.. غير أن صوتك الصبح معجبنيش.. فأول ما شحنت الحاجة على هنا اتحركت وراها.. ودايني قدامك أهو.. كل اللي محتاجه أخذ دش وأنام لأني هلكان تعب ))..
مسحت براحة كفها خصلات شعره وجانب وجهه، ثم قالت في نبرة حانية سمعها للمرة الأولى منذ فاجعة شقيقها :
-(( حمد لله على سلامتك.. قوم خد دش وأنا هحضرلك حاجة تاكلها ))..
امسك معصمها في رفق يمنعها بذلك من الحركة، قبل أن يقول في قلق بعدما تفرسها مطولًا :
-(( مش عايز أكل.. عايزك تبطلي عياط.. وشك تعبان وعيونك على طول محمرة وجفونك منفوخة.. وحتى الأكل مش مهتمة بنفسك.. عايزاني أرتاح أزاي وأنا شايفك قدامي بتدبلي يوم عن يوم بالشكل ده ))..
رفعت كفها تمسح بعض الدمعات العالقة برموشها، ثم قالت في نبرة مختنقة بالبكاء :
-(( غصب عني يا طاهر.. حاسة أني مش عايزه أشوف حد وقافلة على نفسي.. غضبانة من كل الناس من غير سبب وعارفه اني مش سامحه لحد يقرب مني.. حتى زعلتك مني غصب عني ومش عارفة أعمل إيه.. قلقانة على جواد بس مش عارفة أعبر عن ده.. ومبسوطة لغفران وبرضه مش قادرة أظهر كده.. وفوقهم مش عايزاك تبعد عني لحظه عشان وجودك دلوقتي الحاجة الوحيدة اللي بتطمني بس بتصرف عكس كل ده.. حاسة أني بغرق وبستسلم.. معنديش طاقة لأي حاجه في حياتي.. يمكن تعبت من المقاوحة ))..
زفر في ضيق ،ثم قال يهودها بنعومة بعدما تمدد بجسده فوق الفراش وجذبها تتوسد صدره :
-(( متقوليش كده.. أنتِ عمرك ما تستسلمي لليأس.. دي مش طبيعتك.. وبعدين كلنا معاكي ومقدرين.. حزنك هياخد وقته ويروح لأن مفيش حزن بيدوم وأنا أكبر مثال قدامك.. كل اللي طالبه منك متصدنيش.. سبيني أكون معاكي في حزنك زي ما هكون معاكي في فرحك.. وإن شاء الله فترة وتعدي طول ماحنا سوا.. وبعدين بجد فكري ترجعي الشغل لأن هو اللي هيساعدك.. حبستك في البيت هتزيد وجعك ))..
همهمت موافقة قبل أن تقول في استرخاء :
-(( حاضر.. أنت عارف.. أنا منمتش من ساعة ما سافرت.. كل ما بغمض عيني بقوم مفزوعة.. فممكن تخليك جنبي.. حتى لو أنا بعدت شدني تاني.. متسبنيش لوحدي ))..
اخرج صوتًا من حلقه ينم على الموافقة، بينما كفه شقت طريقها نحو كفها لاحتضانها، شاعرة بشفاه تطبع قُبلة مطمئنة فوق شعرها المبلل، قبل أن تغفو في راحة، وقد عاد أخيرًا مصدرها..
************************
بعد مرور يومان.... بداخل قاعة المحكمة..
عجيب هو أمر الوقت، تارة يسير ببطء قاتل، وتارة ينسل من بين أيدينا مثل الرمل...
ساعة....
ربما تزيد أو تقل هي كل ما يفصلها عن أهم حدث في حياتها في الوقت الحالي، ولو أخبرها عاقل أنها ستجلس في إحدى الأيام تترقب الدقائق وتحصر اَلثَّوَانِ كمراهقة تنتظر لحظة اجتماعها بفارس أحلامها رغم علمها بأنه مجرد اجتماع وهمي، لاتهمته بالسفاهة ثم انصرفت برأس مرفوع، ولكنه الحب وسلطته على القلوب...
الحب هو من يجعلها ساهرة منذ ثلاثة أيام تضع الحجج وترتب البراهين لإخراجه، وهو من جعلها تجازف بسمعتها من الأساس فقط من أجل براءته، وهو من جعلها تتوسل من "طاهر" المساعدة في الحصول علي إذن تسجيل من النيابة العامة بواسطة معارف عائلته، وهو من دفعها للذهاب إلى عقر دار ذاك أبي المجد وتسجيل حديثهم كي يقدمه المحامي وقت العرض كإحتراز ثاني يؤكد نقاء سمعته، والحب هو من جعلها تقف كالبلهاء تطلب منه في كل جرأة أن يتزوج بها، وسطوة الهوى هي من تجعلها تجلس الآن داخل قاعة المحكمة ترتجف في توتر لم تشعر به من قبل في انتظار قرار القاضي بعد الاستماع إلى شهادتها مع باقي شهود الإثبات...
جاذبًا انتباهها من شرودها المتواصل اليوم، صوت محامي الشركة والمتولي ظَاهِرِيًّا أمر الدفاع عنه يقول في قوة وصوته الجهوري يرن في كافة أنحاء القاعة فيضيف إليه الثقة وقدرة على الإقناع :
-(( وفي نهاية مرافعتي أود القول بأنه إذا توفر لدي حضراتكم الشك في جرم موكلي كما هو واقع من شهادة الشهود، فعليكم أن تفسروا هذا الشك لمصلحة المتهم الماثل إمامكم وقد بُني هذا الاتهام على مجموعة من التوقعات والاستنتاجات التي وإلى الآن لم نجد لها دليل كتابي او فني يقطع بإدانة موكلي، وعليه أود من حضراتكم الاستماع إلى ذلك التسجيل بعد أخذ إذن النيابة العامة وتوافر الشروط الأربع به طبقًا لنصوص المواد رقم (206) فقرة ثلاثة، والمادة (44) و(45) من الدستور المصري لسنة 1971، وباقي المواد من قانون الإجراءات رقم( 295 و206)، وأخيرًا المادتان (206 و95.. إجراءات)..))..
وبعد فترة ليست بطويلة سحب المحامي المخضرم نفسًا عميقًا بينما حانت من عيناه نظرة خاطفة إلى غفران الجالسة في المقاعد الأولى وعيناها تلمع بدموع الانتصار وقد أدى سماع المحادثة المسجلة بينها وبين أبي المجد وهو يعترف بتلفيق التهمة إلى حالة من الصدمة والهرج والمرج داخل القاعة، الأمر الذي دفع القاضي إلى الصياح بهم مهددًا بالطرد لكل من يتحدث، ثم وبعد أن ساد السكون أركان الجلسة، أردف المحامي مرافعته قائلًا في نبرة ثابتة شبهه منتصرة :
-(( وبعد استماع سيادتكم إلى ما قُدم من أدلة قاطعة لا تحمل مجالًا للشك، ووفقًا للدستور في المادة ال(96) على أن "المتهم بريء حتى تُثبت إدانته في محاكمة قانونية وعادلة تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه" ، فقد دُفع كذلك عمدًا بتلفيق الاتهامات المسندة إلى المتهم من أفراد ما بعينها انتهزت فرصة غفلة موكلي في الزج به في تلك القضية، وعليه فإن كل ما وجه إليه باطل...
واختتم مرافعتي بطلب ضبط وإحضار كُلًّا من المدعو نادر أبو المجد سعيد" .. والقاصر "نعمة فاروق ناصر جريشة" بتهم تضليل العدالة، والإساءة لسمعة موكلي، والتستر على الجاني الحقيقي ))..
في المساء....
تجلس داخل غرفتها معتزلة الجميع، وقد فرت منهم هاربة وقتما استمعت إلى براءته دون انتظار، فمهما بلغت قوتها أو جراءتها غلبها خجلها الأنثوي الفطري ولم تستطع مجابهة موقف مماثل؛ لذا اكتفت بتوكيل والدها في مسألة عقد القران، ووضع تواقيعها اللازمة فوق الوثائق، ثم أدبرت راكضة من نفسها قبل أي أحدًا أخر، ومنذ ذلك الحين وهي معتكفة داخل مخدعها مدعية الإرهاق، بالرغم من احتراقها شوقًا لرؤيته حُرًّا مرة أخرى أو حتى سماعها صوته ألا أنها اكتفت بالاطمئنان عليه والتأكد من وصوله المنزل من محامي الدفاع الذي تعاونت معه الفترة الأخيرة....
وقبل منتصف الليل بعدة دقائق ارتفع رنين هاتفها معلنًا عن ورود اتصال هاتفي ملح لم يأتي من سواه، تجاهلته وانتوت الاستمرار في فعلتها حتى وصلتها رسالة نصية مختصرة يخبرها من خلالها بأنه أسفل بنايتها، ويود في الحال رؤيتها...
فصرخت فزعة وقفزت من مرقدها تركض في كافة أنحاء الغرفة، تنظر في مرأتها، قبل أن تفتح دولابها وتحاول انتقاء رداء سريع وبسيط ومناسب يبدو طَبِيعِيًّا، ثم تعود وتقف أمام مرأتها تتأكد من مظهرها وتمشط الثائر من خصلاتها للمرة الأخيرة بيد، بينما الأخرى تمسك الهاتف في محاولة للتواصل معه، وبعد الرنة الثانية أتاها صوته الذكوري الخشن يسأل متذمرًا :
-(( مادام التليفون معاكي مبترديش عليا ليه!.. رنتلك كام مرة! ))..
خفق قلبها كعداء تجاوز للتو سباق الثمانمئة متر، ثم أجابته متمتمة في ارتباك :
-(( كنت بعمل حاجة وبعيد عن التليفون ولسه واخدة بالي منه ))..
حمحم عن عدم اقتناع ثم سألها ساخرًا يحشرها في الزاوية :
-(( وهي دي نفس الحاجة اللي خلتني مشوفكيش لما اطلع يا مـراتــي؟! ))..
تعمد الضغط ومط حروف كلمته الأخيرة وكأنه يؤكد ملكيته لها ويذكرها بما تعمدت نسيانه، ثم بعد فترة من الصمت انتظر خلالها ردها الذي غاب، أردف يقول في نبرة خالية :
-(( لو فاضية أنزلي هديكي حاجة.. ومتقلقيش هطلعك على طول بس عيب أخبط على بابكم في الوقت ده ))..
همهمت موافقة دون تعقيب، ثم ركضت نحو الخارج بقلب خافق كما الطفلة المنتظرة هدايا العيد، حيث كان ينتظرها أمام باب البناية الخارجي، يفقد مستندًا بطولة الفارع على جانب سيارته عاقدًا كلا ذراعيه أمام قفصه الصدري، ثم ومن فور رؤيته لها تحرك يعتدل في وقفته في انتظار اقترابها منه، قبل أن يبدأ الحديث مازحًا :
-(( أهلا بالعروسة ))..
ضغطت فوق شفتيها بقوة، وقد تباينت مشاعرها في اللحظة بين السعادة والتوتر والحزن، ثم قالت في خفوت حين غلبها الشعور الأخير :
-(( عروسة لأسباب قضائية بحتة ))..
مال بجذعه نحوها، ثم همس يقول جوار أُذنها في ابتسامة عابثة :
-(( أنا مقلتش انه لأسباب.. أنتِ اللي طلبتي ))..
لم يكن الغباء إحدى عيوبها على الإطلاق، بل على العكس، كان تتسم بمعدل عالي من الذكاء يمكنها من فهم كافة تلميحات من يقابلها دون استثناءات، وكان هو يعلم ذلك تمام العلم؛ لذا ألقى بجملته داخل مياه أحاسيسها الراكضة ثم تركها تُحدث بها بعض الاضطرابات حتى يأتي وقتها، أما عنها فبعدما عقدت حاجبيها ورفرفت بأهدابها، همست تسأله في توجس :
-(( قصدك إيه؟! ))..
قال في غموض والابتسامة المتلاعبة تُزين ثغره بعدما انتصب بعضلات جسده وعاد يعتدل في وقفته :
-(( قصدي قدامنا شهرين قبل أي خطوة.. مش معقول بعد كل اللي عملناه نروح لوالدك بكرة ونقوله شكرًا وعايزين ننفصل.. لازم نديهم وقت.. كده ولا إيه؟! ))..
تهدلت أكتافها وتحولت دقاتها المتسارعة من خفقات الترقب إلى ضربات الإحباط والذي انتقل آليا إلى نبرتها عندما ردت في خفوت :
-(( آه عندك حق ))..
عقب وهو لايزال محافظًا على نفس الابتسامة المراوغة :
-(( وعشان عندي حق.. يبقي تخلي ده في أيدك وميتقلعش ))..
قبل أن تتوقع مقصده، كان قد سحب كفها ودفع خاتم زواج ذهبي بداخل إصبعها، ثم انحني وطبع قبلة ناعمة للغاية بداخل راحتها وفوق جبهتها، ثم انزلقت شفتاه تاركة أنفاسه الحارة تلسع في طريقها كل ما تقابله من بشرتها القرمزية الخجلة، حتى وصل إلى أسفل وجنتها، بالقرب من شفاها فقام بطبع قبلة أخرى صغيرة في تلك المنطقة ثم تمتم في حرارة :
-(( تصبحي على خير يا مراتي العزيزة ))..
غمز لها مشاكسًا بإحدى عينيه قبل أن يقول آمرًا في نبرة جدية :
-(( أطلعي الوقت أتأخر ))..
ابتلعت لعابها في قوة، وقد تسمرت مكانها حيث فقد عقلها القدرة على إعطاء أوامره لباقي أطرافها كي تتحرك، معيدًا إليه قدرته على العمل صوته الذي هتف تلك المرة في صخب مرتفع :
-(( اتحركي مش هتقفي في الشارع طول الليل ))..
نفضت رأسها وحركتها يمنة ويسرة في عدم استيعاب، قبل أن تركض مسحورة، ومصدومة نحو الأعلى ولم تتوقف ألا بعدما أغلقت باب غرفتها عليها، علها بذلك تخرج من تأثيره عليها وتخبطها في حضرته.
***********************
بعد مرور شهر ونصف....
في منزل طاهر المناويشي....
فتحت أهدابها في الصباح شاعره اليوم وعلي غير العادة بحالة غريبة، إحساس بالهدوء يتغمدها بعد الكثير من اَللَّيالِ العصبية الطويلة والصباحات الكئيبة، وكأن روحها قد سأمت حالة الاستسلام التي تنغمس بها، وقررت أخيرًا نفض رداء الحداد من فوق كاهلها والالتفات لما هو قادم...
ما ينمو بداخلها وتتجاهله، نعم تشعر به مُذ البداية خصوصًا مع تأخر تغيراتها الفسيولوجية الشهرية للمرة الثانية على التوالي، ولكنها لم تملك الطاقة الكافية لمواجهة ذلك الواقع وتقبل تلك الهبة، خاطئة نعم، انهزامية بالتأكيد، جاحدة، لا على الإطلاق، كل ما في الأمر أنها تخشي التعلق به فيتركها ويذهب كما فعل الجميع، لذا حاولت التغافل عنه ولكنه غلبها، بالشعور به تارة، وباضطرابات معدتها التي أصبحت تصيبها كل صباح تارة أخيرة، يصر في فرض وجوده والتمكن من قلبها كما فعل والده من قبل، حتى استسلمت لحبه، بل وقررت النهوض والمقاومة من أجله، يكفيها حزنًا ويكفيها مقاومة، هو طفلها وستبذل كل ما في وسعها منذ اللحظة لحمايته والتمسك به....
حانت منها التفاتة عاشقة بعدما استدارت بوجهها نحو الغافي جوارها ويحيطها بذراعيه كما العادة، رافعة إحدى ذراعيه تحتضن وتضع كفه أسفل منطقة بطنها عله يشعر هو الأخر بما يكبر داخل رحمها، بينما يدها الأخرى راحت تتلمس بظاهر أناملها ذقنه النابتة...
فللقب أحكامه التي لا نقاش بها، هو من يقرر من يمتلكه ومن يلفظه، وبالنسبة إليه اختارته بقلبها وعقلها وكافة حواسها، فبمجرد رؤيته يستلقي بجانبها، وتشعر بأنفاسه تلفح بشرتها، ذلك جنتها المصغرة، ومنتهى أملها...
تنهدت في وله تنتظر استيقاظه حتى تقوم بالفحص المنزلي، إذ نجحت البارحة في التسلل وشراءه دون معرفة أحد، وقد أرادت انتظار اللحظة المناسبة للقيام به رغم تأكدها من إيجابيته ولكنه عائد متأخرًا فقررت تأجيلها حتى الصباح، تترقب في حماس رد فعله على ما ينتظرهم، مبتسمة في بلاهة كلما تذكرت حديثه في أول لقاء حميمي بينهم، وكيف عبر عن أمنيته من بين كلمات الغزل في امتلاء منزلهم بأطفال يحملوا طبعها الهادئ ولون شعرها الحالك، شاعرة به بعد فترة من الوقت يتململ تحت لمستها، قبل أن يتحرك ويدفن وجهه في عنقها مغمغمًا في نبرة ناعسة :
-(( يعني أنا محترم نفسي ومتحرم عليا اللمسة.. وأنتِ مستغلة نومي وبتتحرشي بيا.. مش عدل ده على فكرة ))..
ملئت الابتسامة حتى وإن كانت باهتة نِسْبِيًّا وجهها للمرة الأولى منذ ما يقارب الشهرين، ربما السبب في ذلك هو انتهاءهم من دفن جثة شقيقها، والبقاء على حبس الجاني، أو ربما أتتها حالة الشفاء من داخل ذلك الرحم، الإلهاء الذي تحدث عنه زوجها في تلك الليلة، أو ربما وهو الأرجح الاثنان معًا، وقبل أن تفتح فمها وتجيبه، باغتتها نوبة عاتية من الغثيان، تجاهلتها للمرة الأولى، ولكنها عادت بشكل أقوى مما أجبرها على الركض نحو الحمام، وبعد الانتهاء من إخراج كل ما في جوفها وغسل وجهها وفمها، استغلت الفرصة في عمل الفحص وجلست تنتظر في ترقب النتيجة....
بينما جلس هو فوق حافة الفراش ينتظر في قلق خروجها وكل ظنه منصب نحو إهمالها صحتها وسوء تغذيتها، ناهيًا حالة الهواجس التي أصابت عقله الناعس صوتها تقول في وجل، بعدما خرجت ووقفت أمامه ومدت ذراعها نحوه بجهاز الفحص الإيجابي :
-(( طاهر.. أنا حامل ))..