رواية في لهيبك أحترق
الفصل السادس الثلاثون 36
بقلم شيماء يوسف
كما ينبت العشب بين مفاصل صخرهْ
وُجدنا غريبين يوما
وكانت سماء الربيع تؤلف نجمًا.. ونجما
وكنت أؤلف فقرة حب..
لعينيكِ ... غنيتها !
أتعلمُ عيناكِ أني انتظرت طويلا
كما انتظرَ الصيفَ طائرْ
ونمتُ... كنوم المهاجرْ
فعينٌ تنام، لتصحوَ عين.. طويلا
وتبكي علي أختها
حبيبان نحن، إلى أن ينام القمر
ونعلم أن العناق، وأن القبل
طعام ليالي الغزل
-درويش.
تنهيدة عجز ملتاعة خرجت من جوفه المحترق بنيران الحيرة، بينما أصابعه ارتفعت تمسد صدغه المتعب حيث لازال المجهود الزائد يؤثر على رأسه ويشوش الرؤية لديه ولكن....
آني له الراحة وعلياءه تعاني!، لا يلومها على قراراتها الطفولية الطائشة، كما يعذر تصرفاتها الهوجاء وفي نفس الوقت يشعر بداخله غصة كلما تذكر ما تفوهت به مُذ ساعات، ففكرة تخليها عنه كانت بمثابة صدمة حقيقة له، وهو من ظن أن أول حاجز بينهم هُدم إلى غير رجعة، ففاجائته بعائق آخر أعلى وأشد!...
الصبر..... هذا ما تمتم به خافتًا يوصي به نفسه الجزعة، فالصبر هو أساس الفضيلة وأيضًا هو مخرجه الوحيد معها، وإن لم يكن هو "المثابر" قادر على إذابة جبال الثلج بينهم، وهد جميع السدود فمن لها؟!، بتلك الفكرة المختالة قرر الخروج من فراشه والبحث عنها فقد أعطاها المهلة الكافية للاختلاء بنفسها، أما وقد حل المساء وحان موعد النوم فلن يسمح لها بالنعاس خارج حدود غرفتهم، من هنا تأتي البداية، ومن تلك العزيمة يولد النجاح...
وبمجرد ما خطت قدماه خارج الغرفة، وجالت عيناه غرفة المعيشة تمشطها، حتى رآها متكومة بجسدها الضئيل فوق الأريكة المنتصفة المكان، وقد نال منها برد الخريف فانكمشت على نفسها في دعة، فكانت حَقًّا كطفلة مشاكسة يبحث عنها والدها وقد نامت متوارية الأنظار عنه بعد أن أعياها كثرة القفز والتجوال، هذا ما فكر به في البداية وأجبر ابتسامة أبوية ناعمة على القفز إلى ثغره، قبل أن يصل إليها ويجثو على ركبته أمامها، ويري عبوس ملامحها حتى وهي نائمة، فاختفت الابتسامة من فوق شفتيه وحل محلها الألم وكأن هناك أشواك من حديد غُرزت داخل صدره، لا طاقة له بتحملها، ولا سبيل إليه بإخراجها، وعلي المتضرر التعايش مع الندم!....
تنهيدة أسي مطولة معبأة بكل ما يحبسه داخل صدره، فلتت من بين شفتيه الغليظة، خاصةً عند وصول أنامله التي امتدت تتلمس وجهها الغافي إلى جفونها المنتفخة، يتذكر حديث غفران في الصباح وقتما أخبرته بحزنها أثناء فترة غيبوبته، وكيف لم تتوقف عن البكاء حتى عاد إليهم، بضعة كلمات بسيطة مختصرة أغدقت روحه بالآمال، وقد عاد صداها الحسن يتردد بداخل طيات عقله الشبه متوقف عن العمل، فتمده بالعزيمة؛ وعليه همس اسمها يوقظها بينما أنامله الحارة تمسد عنقها في حركة معتادة لاحظ معها على الفور انبساط ملامحها المتجهمة، فعاد يهمس اسمها من جديد في نبرة أشد نعومة، ومداعبة أكثر حرارة :
-(( عالية...... )).
مع النداء الثالث بدأت تستجيب إليه في همهمة ضعيفة خافتة صدرت من داخل حلقها، قبل أن تفتح عينيها الناعسة على مضض وتتفاجيء بوجهه في وضع شبه ملاصق لها، لا يفصل بينهم سوي أنش واحد وقد أحنى رأسه نحوها، حتى أن أنفاسهم اختلطت سَوِيًّا، فلم تعد تعرف أتلك الأنفاس الحارقة قادمة منه أو خارجة منها، بينما استطرد هو يطلب في نبرة حريرية دافئة :
-(( تعالي نامي جوه ))..
فتحت فمها كي تجيبه معترضة بعد استيعابها ما يدور من حولها وقبل اتخاذها أي حركة اندفاعية حادة كما انتوت، وصل إليهم صوت أنثوي حانق يهتف في اشمئزاز :
-(( إيه قلة الذوق دي.. أعتقد أن ليكم أوضه خاصة تعملوا فيها اللي أنتوا عايزينه!!.. اعملوا حساب أنكم مش في البيت لوحدكم ))..
بملامح مكفهرة ومقلتان تكاد تخرج من حجريهما، دفعت علياء صدره تتيح لنفسها مجال أوسع للوقوف دون إفلات أصابعها من فوق ردائه البيتي
إذ تمسكت به بقوة تحافظ على اتزان صاحبه وتسحبه معها للأعلى، ثم ومن بعد أن رفعت رأسها عاليًا ونفضت شعرها فتطايرت خصلاته على وجه يحيى ومن حولها في تعمد، قالت بنبرة ناعسة عذبة، وابتسامة مستفزة :
-(( معلش يا جيداء نسينا وجودك.. يلا يا يحيي ))..
فرغ فاهه وتسمرت قدماه أرضًا وقد أدهشه رد فعلها، حتى أن تعبير الدهشة لم يكن المصطلح الأدق لوصف حالته، فكل ما استطاع فعله هو الابتسام ببلاهة وفخر، بينما عيناه المشعة بالعشق تتبع سيرها نحو غرفتهم وداخله يكاد يرقص فرحًا برد فعلها الغير متوقع وبالنجاح الذي ساهمت قريبته في تحقيقه دون حتى إدراكها، وهو من كان يستعد لجولات عديدة من الشجار والمجادلة!، منهيًا وقوفه الأبله صوتها تسأله بعدما استدارت تنظر إليه :
-(( يا يحيي.. مش هتيجي؟! ))..
حرك رأسه إيجابًا عدة مرات في مبالغة، قبل أن يسير خلفها ويدلف الغرفة من بعدها كالمسحور، وقد قرر بعد إعادة النظر السماح لطليقته في العيش معهم حتى آخر الزمان، تاركها وراءه... ذات الشعر الأشقر تدك الأرض بقدمها غيظًا، بل وتتوعد لهم.
أما بداخل الغرفة، وبعدما تأكدت من إغلاقه الباب خلفهم جيدًا، هتفت تحذره بسبابتها المرفوعة أمام وجهه في عدائية واضحة، وقد آخذ صدرها يعلو ويهبط بعنف تحاول التشبث بقوتها المزيفة، حُبًّا بالله أية قوة وهو يناظرها بتلك الطريقة التي تكاد تُذيب عظامها ولهًا حتى النخاع :
-(( متفتكرش أني موافقة ولا قابلة أنام معاك في مكان واحد.. بس الظروف اضطرتني لكده.. وبرضه متفتكرش أني هسمح لحد يهني في البيت ده وأسكت!! ))..
ضغط فوق شفتيه في علامة على عدم تعقيبه أو اعتراضه، محاولًا بكد كبت ابتسامة مسلية تهدد بالظهور على شفتاه مراعاةً لحالتها العصبية، بينما أردفت هي تقول بعد أن جلست في عنف فوق الفراش وضربت بكفها إحدى الوسائد قبل أن تضعها بطولها كحائل بينهم وتضيف في شراسة :
-(( والمخدة دي هتفضل هنا فاصل بينا.. فاحترم حدودك وياريت متتعدهاش ))
كانت في نظره تلك اللحظة تحديدًا كجنية مهتاجة، تنسج شباكها حوله وتسحره كلما قدحت نار التمرد من مقلتيها أكثر وأكثر، ألا تعلم تلك الثائرة أن جموحها وانتفاضتها أكثر ما تمناه ويغريه؟!....
بل ويحتاج منه إلى إرادة العالم أجمع ليقاوم لذة انفراده بها وهي بتلك الحالة؟!،
وبينما صدره لازال مهتاجًا بلوعة أفكاره وتمنعها، ارتفعت إحدى زوايا حاجبيها في تأهب تحثه على الإجابة عندما لم يصلها منه أي رد فعل، فسارع يقول في تلذذ وهو يحرك رأسه المضمد على كلا الجانبين بعد أن رفع كفيه أمامها في علامة استسلام :
-(( الوقت أتأخر وأنا مرهق جِدًّا ومعنديش أي استعداد لجدال فتصبحي على خير ))..
تحرك يتسطح على الفراش بالقرب منها، ثم استطرد يضيف في خبث بعد تأكده من خلو الغرفة من آية وسائد إضافية :
-(( بس الدكتور طلب مني أريح راسي على حاجة عالية عشان متعبش ))..
استدارت بجذعها العلوي ناحيته تتطلع إليه متوجسة، ثم تمتمت تسأله في تشوش وهي تبتلع لعابها في صعوبة :
-(( يعني إيه؟! ))..
أجابها في براءة والتسلية تكاد تقفز من داخل عينيه، متعمدًا مط كلمته الأخيرة :
-(( يعني هحتاج أنام على مخدتين مش واحدة.. وإلا...... ))..
صمت لوهلة يضيف لحديثه بعض الخطورة قبل أن يردف كاذبًا دون إشفاق على حالها أو القلق الذي اعتصر مضغتها وراح يطل من حدقتيها فور سماعها التحذير :
-(( وإلا الجرح ممكن يحصل فيه مشاكل ))..
سارعت تقول في لهفة وكفها يسحب وسادتها ويضعها أمام رأسه :
-(( خد بتاعتي مش مشكلة.. هنام من غيرها ))..
زمردتياه الناعسة لا تبارح وجهها فيكاد قلبها يذوب داخلها ويختفي، وخصوصًا بعد تحرك كفه كي تلامس على استحياء كفها في حركة محسوبة من جهته نجح في اظهارها عفوية عابرة، ثم قال في حنان وقلبه ينتفض داخل أضلعه تأثرًا بخوفها عليه :
-(( لا المخدة دي كفاية أوي.. خلي بتاعتك ليكي ))..
أشار بعينه نحو الوسادة التي وضعتها كفاصل بينهم، ثم أخذ يراقب صراعها الداخلي ما بين الاعتراض والقبول، حتى باحت أخيرًا بالموافقة على مضض بينما عدستيها لازالت تحتفظ بالرفض :
-(( تمام.. تصبح على خير ))..
استدارت فور نطقها بالتحية تتكأ على جانبها هاربًا من حصار بحيرته الخضراء، بينما ردد يجيبها بصوته الرجولي العذب :
-(( أكتر من كده خير مش هطلب ))..
تجاهلت جملته وتجاهلت معها الطنين الذي أخذ ينبض في صدغيها، تُرغم في عدم قدرة القطعة الشمالية الحمقاء على العودة إلى دقاتها الرتيبة وتجاوز الحنو الذي غلف روحها مع نبرته، قبل أن يأتيها صوته الأجش يسألها في نبرة غريبة لم تستطع تفسيرها :
-(( عالية.. عندي سؤال محيرني وحاجة محتاج أفهمهالك.. أنا مش من النوع اللي ممكن يتجوز وهو متجوز زي ما جيداء بتقول.. ده ضد مبادئ ولو هموت مش هعملها.. وبرضه مش أنا اللي يتجوز جواز تقليدي من غير مشاعر ولا معرفة.. حتى لو زي ما قلتي عشان ينقذ واحدة.. عندك تفسير لطريقة جوازنا دي ممكن تجاوب على سؤالي؟! ))
شعر بتشنج جسدها يصل إليه عبر ذرات الهواء المشتركة بينهم، وقد انتظر طويلًا حتى ظن أنها ستمتنع عن إجابة سؤاله، ثم ومن بعد فترة من الصمت أتاه ردها مختصر مضطرب :
-(( معرفش.. بالنسبة للجزء الأول أنت مكلمتنيش عن جيداء أصلًا عشان أعرف الحقيقة فين.. ولو على سؤال جوازنا فغالبًا بابا طلب منك ))..
تمتم معارضَا في إصرار عجيب يحاول إيصال رسالته الخفية علها تلتقطها :
-(( حتى لو.. أنا واثق من نفسي عمري ما أرتبط بحد وأنا أساسًا مرتبط.. ولو صفحة جيداء مكنتش مقفولة بالنسبالي وطلب والدك مكنش على هوايا معتقدش كنت هرضي.. أنا مش قديس ))..
حُبست الأنفاس بداخل صدرها، وخفق قلبها من جديد يكاد من فرط الحماس يحيد عن مكانه، قبل أن تسيطر على فيض المشاعر التي اجتاحتها لوهلة وتُجبر دقاتها على الاستكانة، أما عنه فقد كان الفضول يقتله لرؤية ارتباك عيناها وارتجاف شفتاها في رد فعل أصبح يحفظه كما يحفظ تفاصيل ملامحها حتى الصغيرة المخفية منها....
ومن وسط أمواج التخبط التي تجاهد للنجاة منها سالمة شعرت بكفه تتلمس خصرها فانتفضت خجلة مرتبكة، قبل أن يطلب في توسل :
-(( طب ينفع تخلي أيدي هنا ؟! ))..
وقبل أن يأتيه الرد أو تبادر في الاعتراض أردف يقول مبررًا تعديه على خصوصية جسدها :
-(( أصل أنا نومي وحش أوي.. وأخاف أسيب أيدي تخبط في دماغي ولا حاجة.. لكن وهي عندك أنا مطمن على نفسي ))..
ضغطت فوق شفتيها تعد حتى العاشرة، تحاول السيطرة على رباطة جأشها في صحبته، ثم همست في هدوء تدعي الثبات وعدم التأثر فهو حتمًا لا يشعر بالطبول التي تقرع بداخلها من مجرد لمسته وهذا يكسبها الأفضلية كما همست بداخلها تصبر نفسها :
-(( تقدر تسيبها لحد ما تروح في النوم.. وقتها أنا نفسي هشيلها وأحطها جنبك.. ومتخافش أنا نومي خفيف.. أي حركة ممكن تصحيني.. وبكرة بعد إذنك ممكن نشتري كام مخدة زيادة ))..
تجاهل عامدًا التعقيب على طلبها الأخير، بينما ابتسامته تزادا اتساعًا احتفالًا بانتصاراته الصغيرة التي حققها اليوم، ولو أُتيحت له فرصة مطالعتها لرأي نفس الابتسامة تُزين محياها قبل أن يغفا كلاهما على وقع دقات قلب الأخر المتيمة بعشقه.
*************************
ما بين صعوبة البدايات، وراحة النهايات، هناك مسافة مرهقة، شاقة، مقفرة، يقطعها العاشق بمفرده، تدوس قدماه الأشواك، وتحترق مضغته بالأشواق، حتى يصل إلى مشارف محبوبته، ويرفع في عُقب قلبها رايته، حينها فقط يستطيع تذوق معنى الراحة والسكون! ....
سكون.. يشبهه سكون بحار رست سفينته فوق شط الأمان بعد أن كان سيرها بعاصف الريح مرهون
كـ سكون عابد استظل بظل شجرة عالية فغفا مطمئنًا وهو يعلم أنه في حمى خالقه مأمون..
يستلقي في سعادة كأشباه كل من نجحوا في إيجاد الأشياء بعد فقدانها، تتراخي أجفانه فوق عينيه كما تتراخي كفه فوق يدها، بينما ذراعه الأخر موضوع أسفل رأسه، يفكر في ابتهاج بأنه قد وجد أخيرا سكينته، ولا شيء يستطيع تعكير صفو حياتهم!....
تجعد جبينه في قلق وقد لاح له السر وما أخفي، وكأنه يذكره بوجوده وينقص من فرحته المكتملة، فأخرج من جوفه تنهيدة مختنقة عالية أيقظت ساكنة الفراش جواره من نومتها، فسارع برسم ابتسامة مشرقة فوق محياه، سرعان ما تعمقت إلى عيناه، بعدما استدار بوجهه نحوها وطالعها يقول في نبرة خافتة، مداعبة :
-(( كل صباح وأنتِ أجمل حاجة ببدأ بيها يومي يا مدام رحمة.. طاهر.. المناويشي.. ))
نطق كلماته المتقطعة في بطء وكأنها يتذوقها، بينما توهجت نظراتها بالحب، وتزينت شفاها المتورمة بابتسامة خجول لم تفارقها مُذ البارحة، ثم غمغمت تحية الصباح في نبرة ناعسة عبثت بثباته :
-(( صباح الخير ))..
سحب ذراعه المطوي من أسفل رأسه، ثم استدار بجذعه العاري يواجهها ويحاصرها بوضع ذراعه خلف ظهرها قبل أن يسحبها إليه ويقربها من صدره رَادًّا تحيتها في نبرة خشنة، مبحوحة، متذمرة :
-(( صباح النور ايه وإحنا بقينا الضهر.. وأنا بقالي ٣ ساعات صاحي مستني تحني عليا وتصحي ))..
امتدت يدها تتلمس بسبابتها وعلى استحياء ونعومة شعيرات ذقنه النابتة، فتحركت تفاحة آدم داخل عنقه صعودًا وهبوطًا في عنف كأنه يعاني لابتلاع ريقه، بينما همست هي تتساءل في عتب :
-(( طب ليه مصحتنيش من بدري؟! ))..
مرر نظراته على مهل فوق جسدها وأجزائه المخفية عنه تحت قميصه الأبيض والذي كان يرتديه منذ ساعات مضت، وكم راقته تلك الفكرة عند التفكير بها صراحةً وأثارت خلجاته، يحجب عنها جنون تفكيره بإسبال أهدابه إلى مقدمة ذقنها، حيث قام بطبع قبلة مطولة فوقه، قبل أن يقول في حنو :
-(( حبيت أسيبك تنامي براحتك ))..
استقبلت مداعبات أصابعه فوق ظهرها والتي تصل إليها عبر قماش قميصه الصيفي الحريري، فتنافس صدرها الذي يعلو ويهبط في جنون، ومع تنهيدة عاشقة فلتت من بين شفتيها، همست اسمه في طفولية :
-(( طاهر.... ))..
همس ملبيًا بصوته الرجولي النداء ومدللًا :
-(( يا ضي عيون طاهر ))..
تنهدت في وله وباطن كفها الصغير يحاوط شطر وجهه في تملك، ثم همست تطلب في دلال :
-(( اممم... المفروض النهاردة يوم مميز.. قولي حاجة تفضل ذكرى افتكرها كل سنة اليوم ده ))..
قال معترضًا يشاكسها، بعدما رفع ذراعيه من حولها واستلقي فوق ظهره معرضًا عنها في عدم الاهتمام :
-(( وأنا لسة هقول... مانا قلت كتير ))..
شهقت انكسار عالية صدحت خارجة من داخل حنجرتها شعرت معها بجرح أصاب أحبالها الصوتية كما خدش فؤادها، وقد باغتها برده الجاف الصادم على عدم توقع منها، وبعد لحظات من الاستيعاب أو عدمه، همست تسأله في نبرة متباينة ما بين عدم التصديق والخيبة :
-(( طاهر.. ده بجد ولا بتهزر؟! ))..
طالعها بجانب عينيه دون الاستدارة إليها، ثم أكد قوله في نبرة خالية مُصِرًّا على النطق بكلماته المغيظة :
-(( ههزر ليه.. مش أنا طلعت عيني لف وراكي من مكان لمكان؟! أكيد زهقتي من كلامي ))..
ضغطت فوق شفتيها الوردية تحاول جاهدة منع دموع الخذلان من الجريان فوق وجنتيها والتماسك أمامه، متمتمة في نبرة مختنقة مليئة بالدموع تهدج صوتها في آخر حروفها وهي تدفع في عصبية الفراش الحريري المنقوش من فوق ساقيها العاريتين تمهيدًا لترك الفراش، فتكشف عنهما :
-(( عندك حق.. مانت فعلًا تعبت ووصلت لكل اللي عايزه تقول ليه.. العيب على الغبية اللي طلبت منك ))
استدار مسرعًا نحوها وقبل إتمام حركتها كان يباغتها يسحبها إليه من جديد، يعتليها بجسده ويحاصرها بلف ساقيه حول خاصتها، بينما يضع ذراع فوق رأسها، ويقبض بالأخر على خصرها كي يثبتها فوق الفراش غير عابئًا بمقاومتها الضعيفة له، ومُتَسَائِلاً بابتسامة مستمتعة :
-(( رايحة فين بقميصي؟! ))..
لكزته بكفها المتكور في ساعده تعبر عن غضبها منه بتلك الحركة الطفولية، قبل أن تجيبه بجبين عابس وفم ملتوي بحركة ازدراء واضحة :
-(( كل اللي همك قميصك!!!.. متخافش لما حضرتك تسبني أخرج هجيب حاجة من الدولاب واقلع قميصك ))..
أنهت جملتها وأشاحت وجهها المتجهم إلى الجانب الأخر بعيدًا عنه وقد تعمدت مط حرف الياء مطولًا كدلالة على غضبها منه والذي يطل من حدقتيها كما يخرج مع نبرتها، قبل شعورها بجسده يهتز فوقها، فاستدارت بوجهها نحوه مرة أخرى تطالعه في غيظ زاده ابتسامته المكتومة، وقد فشل في السيطرة عليها حتى عندما تحدث خرجت جملته متقطعة بسببها :
-(( أنا عايز قميصي دلوقتي اتصرفي ))..
دفعته تلك المرة بكل ما أوتيت من قوة وقد تحولت لمعت عينيها من الغضب إلى التمرد والمقاومة، ولم يوقف ساقيها عن التحرك تحته، وذراعها عن لكزه سوي صوته الناعم المكتوم الواصل إليها بعدما دفن وجهه في ثنايا عنقها، وراح يطبع قُبل شفتاه فوق جلدها :
-(( رحمة أنتِ طلعتي مجنونة وهخاف اهزر معاكي قدام.. وشكلي بعد ما وقعت في حب عقلك.. هغرق أكتر في جنانك ))..
استكانت حركتها من حوله بالتزامن مع رفع رأسه إليها كي يرى نظرتها المتشككة التي ترمقه بها فأردف يقول هامسًا في وله من بين قبلاته المنثورة على ثغرها وانفلاجة ذقنها وطارف شفاها :
-(( يكفيكي أقوالك أن من وقت ما عرفتك وأنا بقيت بحسب عمري وأربط إنجازي في يومي بيكي؟! ))..
عادت تقطيبة جبينها تظهر من جديد ولكن تلك المرة كانت من أجل المطالبة بالمزيد من التوضيح، فأستطرد يشرح دون توقف في نبرة أذابت غضبها منه :
-(( من وقت ما حبيتك ومن قبل حتى ما أفهم ده.. بقيت لما أحط راسي على المخدة بليل بحدد سعادة يومي بكام مرة شفتك.. وكام مرة ابتسمتيلي أو أيدك لمست أيدي.. النهاردة كنتي فرحانة وأنتِ معايا.. واليوم اللي قبله قضيت معاكي ساعة زيادة.. وفي يوم اتعشينا فيه سوا.. ويوم خدودك الحمرا دي سمحت لشفايفي بلمسها.. وشعرك اللي سحرني ده سمح لعيني بشوفته.. ويوم سهرنا في الجنينة لوحدنا.. وهكذا.. كل ما كنت أعيش معاكي حاجات أكتر.. كل ما بليل بحس بإنجاز أكبر.. باختصار رضايا وسعادتي باليوم اللي اتقضي من عمري.. بقي مرهون بوجودك جنبي ))..
ارتجفت شفتاها وتحركت يداها المرتعشة كحال سائر جسدها تتشبثان بكتفيه، وقد التمعت الدموع داخل مقلتيها تأثرًا بحديثه وجموح عاطفته، تتذكر البارحة وكيف راعي مرتها الأولى، بل وكيف أهتم بمرضها الصدري وحرص تمام الحرص على راحتها وكيف بثها العشق بمختلف لغاته، فتكاد تذوب خجلًا من الذكرى، وسعادة من عشقه الذي بات يتضخم في صدرها بمرور الدقائق وليس الأيام....
تراه فارسها، وعشقها الأوحد، بل وتشعر بالكمال لكونها أصبحت أمراته، والزهو لحمله عشقها بين أضلعه.
بينما أستطرد طاهر يسألها في صوت أجش معبأ بالعاطفة :
-(( عايزة أقول تاني؟!... عندي لعيونك بس كلام يحتاج شهور يتقال فيه ))
حركت رأسها نافية دون القدرة على التعقيب فقد أصابتها كلماته بالتخمة فلم تقو سوي على البكاء، فسارع يقول مستجديًا وأطراف أصابعه تمسح كل ما يسقط من جفونها :
-(( مكنش قصدي أزعلك.. أنا كنت بهزر معاكي مش أكتر ))..
تمتمت تقول نافية من بين دموعها :
-(( مش بعيط عشان كدة ))..
سألها في ضيق وكف ذراعه الموضوع خلف رأسها يمسد خصلاتها الثائرة من فعل لمساته البارحة :
-(( أومال بتعيطي ليه تاني ))..
قالت معترفة في بساطة :
-(( عشان بحبك ومش عارفة أعبر عن ده زيك ))..
قطم أرنبة أنفها بأسنانه قبل أن يقول في نبرة عابثة :
-(( لو بتحبيني هاتي القميص بتاعي ))..
همست معترضة في نبرة متحشرجة خجلة :
-(( طاهر أنت قليل الأدب.. جدًا ))..
هدر صوته الخشن الأجش يعقب مستمتعًا بضحكاتها الرنانة بفعل مداعبات يده وشفاه :
-(( أحب من على قلبي يا روح قلبي ))..
قطع الطريق على أي اعتراض أو حديث آخر قد يصدر من فمها باقتحامه، دون رأفه بدقات قلبها الهادرة ترقبًا لإعادة اللقاء بينهم، ففي قوانين العشق، الأفعال تساوي الكلام بل وتفوقه لذة.
*****************************
في منزل يحيي........
وقفت خلف نافذة غرفة المعيشة العريضة المحتلة ثلاثة أرباع الحائط تقريبًا، تحتسي مشروبها الصباحي المفضل في هدوء وقد استيقظت صباحًا قبل الجميع، تتطلع إلى المنزل من حولها وعينيها تشع بالعاطفة، نعم فهي تحبه وتشعر نحوه بالحميمية والرضا منذ المرة الأولى التي خطت قدماها داخله، بتفاصيله العصرية وقطع أثاثه البسيطة، وتقارب الغرف من بعضها البعض ولا ينقصه سوي لمسة أنثوية منها هي شَخْصِيًّا، حتى ألوان دهانه ناعمة تبعث على النفس بالراحة....
التوى ثغرها بنصف ابتسامة تسخر من تفكيرها الساذج، فبالطبع ستشعر بالاسترخاء أن كانت تقطن في منزل صاحبه طبيب نفسي....
آه من طبيبها ذاك... لاح أمام عينيها ذكرى استيقاظها في الصباح عندما وجدت نفسها مكبلة بكافة أطرافه وليس فقط يده كما استئذنها بالأمس، أما عن رأسه المُضمدة، فكانت مستلقية فوق ترقوتها في راحة، ولدهشتها لم يصيبها الغضب كما توقعت، بل راحت ابتسامتها المستجمة تزداد اتساعًا خاصةً وأنفاسه الساخنة تقع على الجزء العاري من عنقها الطويل فتثير بداخلها مشاعر عدة تعجز عن توصيفها، ولم يجبرها على تركه والخروج من الفراش سوي تململه في نومته، فسارعت تهرب من الغرفة ككل بعدما حركت رأسه لوضع أكثر راحة تنفي عن نفسها تهمة لم ترتكبها من الأساس، فهو من تجرأ وأقترب منها وليس العكس!...
تنهيدة اشتياق فلتت من ثغرها المنفرج، بالتزامن مع رفعها كفها تسحب الزجاج العاكس جانبًا، تستنشق أكبر قدر من نسيم الصباح الرائق، وتراقب تساقط الأوراق الصفراء الذابلة في إعجاب..
فلطالما أحبت الخريف، وعلى عكس الجميع كانت تراه فصل البدايات، موسم الفرص الجديدة، عصر الشجاعة، فـ به تخلع الأرض ثوب الضعف القديم المتهالك، وترتدي آخر مفعم بالقوة والازدهار، فتُرى هل يهبها فصلها المفضل هي الأخرى فرصة ثانية؟!.
أخرجها من شرود تفكيرها صوت أنثوي حاد أصبحت تعرفه جيدًا، يتساءل من خلفها في استهزاء :
-(( خير إن شاء الله صاحية مبسوطة.. شكلكم كملتوا السهرة فعلًا لوحدكم.. بس بالراحة عليه ده لسه تعبان برضه ))..
استدارت علياء في تأني وبطء، تعد حتى العشرة في مهارة جديدة تعلمتها عند الغضب، تطالع في هدوء الواقفة أمامها برداء قطني قصير يكاد يغطي ركبتيها، ثم إجابتها وهي تتحرك نحو المطبخ كي تضع كوب الشراب بداخل حوض مغسلة الصحون :
-(( أظن دي تفاصيل متخصكيش.. خصوصًا جزء خوفك عليه مش مقنع أبدًا.. يعني أنا مش غبية.. وفكرة أن يحيى يوصل المستشفى من غيرك مع أنكم كنتوا سواء غريب.. كده ولا أيه؟!!!.. ومتحاوليش تنكري لأن المكالمة كلها كنت سمعاها.. واعملي حسابك طول فترة قعادك في بيتي.. اللي هي مؤقتة.. أعرفي أنك هتفضلي تحت عيني.. ولو طنشت تفاصيل الحادثة وأني اتكلم عن اللي عرفاه.. فده كله بمزاجي.. ومش ناوية أكرره.. لأني مش هسمحلك تكوني سبب تاني في أذيته مهما حصل...... ))..
كان صدرها يعلو ويهبط في مزيج من الانفعال والسعادة، لا تكاد تصدق نطقها بما كان يدور في خلدها نحو تلك الشقراء صراحةً وبصوت عالي، تشعر بالحماس والشجاعة تغمرها، وكأنها تعاطت محفز رياضي فجعل الدماء تتدفق إلى كافة خلاياها فيمدها بالقوة.
أما بداخل الغرفة، فقد أنتهز يحيى بعد استيقاظه فرصة انشغال جيداء بالتحدث خارجًا، في التواصل مع رفيقته غفران وقد أعطاه نقاشهم وأصواتهم العالية نِسْبِيًّا، تغطية جيدة حتى لا تستمع قريبته إلى ما يتحدث به، وعليه أخرج هاتفه يتواصل معها ويقول في حيرة :
-(( مش عارف يا غفران.. أنا تعمدت اسيبها تبات في أوضه المكتب وأشوف هتدور على الأوراق زي ما توقعتي ولا لأ.. ))..
هنا هتفت غفران من الطرف الآخر تقول مقترحة :
-(( يحيى أحنا لازم نقفل موضوع الورق ونريح أبو المجد عشان نقدر وقت المحاكمة نطلع بالورق الكامل كله.. غير كده مش هيسكت وهيفضل ورانا.. وأهو وجود جيداء عندك فرصة حلوة نستغلها في توصيل اللي أحنا عايزين نوصله ليه ))..
همس يسألها مستفسرًا وعينيه تلمع في ترقب :
-(( شكل في حاجة في دماغك.. فسري ))..
تنحنحت تنقي حلقها، قبل أن تجيبه شارحة في حذر :
-(( بص أنت تخرج دلوقتي وتعمل نفسك بتكلمني قدامها.. وأنا هسألك على الورق وطبعًا أنت هتجاوب أنك مش فاكر حاجة ولا عارف أنا بتكلم على أيه.. وبعدها تقول بصوت عالي ورق أيه اللي عندك ده.. قصدك عليا يعني.. كده هنضرب عصفورين بحجر.. منه نتأكد لو جيداء وصلت الكلام لأبو المجد فعلًا انها جاسوسة كاملة ليه.. ومنه أبو المجد هيحاول ياخد نسخة الورق الناقصة اللي هحطها في بيتي دلوقتي.. وبكدة يتأكد أن ده المستند الأساسي.. ها قلت موافق؟! ))
لم يستطع نكران إعجابه بالفكرة، خاصةً وهو يموت يأسًا للتخلص من وجود قريبته في أقرب فترة ممكنة حتى يصارح علياء بالوضع من بدايته، لذا شرع في تنفيذ الخطة؛ لذا وعلى الفور خرج عليهم يقول في صوت عالي، مدعيًا عدم الفهم :
-(( أيه يا غفران!!.. بعتذر منك بس أنا مش فاكر أي حاجة من اللي حكتيه ومش فاكر حتى ورق أيه ده اللي كنا مجمعينه وأنا كنت شايل نسخة منه عندي! ))..
وكما توقع جذب حديثه انتباه جيداء والتمعت مقلتيها في فضول، تستمع بتركيز إلى مخابرته الهاتفية، بينما حركت علياء رأسها تؤكد له صدق رواية غفران، قبل أن تتدخل في الحوار وتخبره قائلة :
-(( يحيي.. أنت فعلًا كان معاك ورق هنا خاص بشخصية ما.. ونزلت بيه تسلمه وقت الحادثة.. بس مقلتش يخص مين ))..
كرر حديثها ينقل الرسالة إلى غفران المنتظرة على الطرف الآخر من الهاتف، ويكمل بذلك أداء دوره المسرحي حتى النهاية، ناهيًا حديثه بما اشتهت قريبته سماعه، وقتما قال في حيرة :
-(( يعني أنتِ يا غفران بتقولي كان في نسختين بس من الورق المهم ده؟.. أنا كان معايا نسخة.. وأنتِ شايلة نسخة!!.. طب على العموم أنا وعالية هندور عليه تاني عشان تكوني مطمنه... رغم أن عالية قالت أنا نزلت بيه.. وأنتِ خلي بالك مادام بتقولي الورق مهم كده شليه في مكان أمان في البيت ))..
تمتم مودعًا ينهي الاتصال ويتابع في انتصار حركة جسد جيداء، بل ويقرأها بسهولة، قبل أن يسير نحوهم، ويحاوط بكلا ذراعيه جانبي جسد علياء التي لازالت واقفة خلف رخامة مغسلة الصحون، يدعي رغبته في غسل يديه، ومنتهزًا فرصة ارتباكها في الاحتكاك بها والهمس جوار أذنها في نبرة خافتة عابثة :
-(( صباح الخير ع اللي هربانة من حضني ))..
شهقة قوية عنيفة خرجت عنها، أدت إلى ابتلاعها لعابها بطريقة خاطئة، فراحت تسعل في يأس، وقد اختنقت بريقها، تحاول جاهدة التخلص من ذلك السعال المزعج، بشرب الماء الذي قدمه لها، بينما زمرديتاه تلمع بمزيج خاص من التسلية والاستمتاع، فهل كان يدعي النوم وقت خروجها من الفراش!، هذا الماكر اللعين، لن تغفر له تلاعبه بها، هذا ما فكرت به حانقة وهي تدفعه بأكفها المرتعشة هاربة من سحر عذوبة ابتسامته، ومن عذاب الشوق لقربه والذي بات لا يتحمل...
أما عن جيداء فقد كانت غافلة عن كل ما يدور حولها، فكل ما يشغلها في تلك اللحظة هو توصيل الأخبار التي سمعتها للتو إلى من يهمه الأمر وينتظر.
وفي الخارج....
بعد ساعة من محاولات التحدث الفاشلة، خرجت جيداء إلى الشارع بحجة التريض، وما أن خطت قدماها عتبة المنزل، حتى سارعت تتواصل مع نادر تسأله في لهفة، ففي ظنها ما نقلته إليه كفيلًا يجعله يوفي بعهده ويجمعها بطفلتها الغائبة :
-(( ها يا نادر.. رسايلي وصلتك؟!.. أنا اضطربت امسحها بسرعة للاحتياط ))
أجابها في تعقل، يخشى الانخراط في حماسته خلف أمل كاذب :
-(( وصلتني.. أنتِ متأكدة من كلامك ده!!.. لا يكون بيضحك علينا ))..
صاحت معترضة تحاول بث إندفاعها إليه :
-(( يضحك علينا أيييه بس.. بقولك هي اللي كلمته وكانت قلقانة.. وهو مكنش فاكر حاجة وكان تايه خالص ))..
اندفع مستوى الأدرينالين بداخله بالتساوي مع مستوى حماسته، فهتف يقول في توجس :
-(( يعني هي شايلة الأوراق في بيتها دلوقتي ومفيش نسخ تاني؟! ))..
تأففت عدة مرات، قبل أن تجيبه مؤكدة، تُمني نفسها بقرب الخلاص من الجميع :
-(( أيووووة.. بقولك سمعته بودني بيوصيها تخفيهم كويس ))..
قال وقد ابتلع الفخ الذي رُسم لهم كاملًا :
-(( يبقي سبيني أبعت حد لشقتها النهاردة يشوف كلامك صح ولا لأ.. ولو صح.. كل اللي عايزاه هنفذه ))..
************************
شدت من أكمام كنزتها الخريفية، في حركة لا دخل لها ببرودة الطقس من حولها، بل هي عادة قديمة اكتسبتها كلما شعرت بالتوتر والضيق، ومع هبوب ريح ناعمة داعبت غرتها القصيرة رفعت رأسها إلى الأعلى تطالع السماء الغائمة من فوقها في ضيق، فيبدو أنها على موعد مع البكاء الليلة، يا الله كم تمقت ذلك الطقس الكئيب، بغيومه وسكون طرقاته، كل ذلك يثير الحزن في نفسها، هي المحبة للحركة والدفء وشمس الصيف الحارقة، ومنذ انتهاءه وهي تشعر بالوحشة والشجن، توقفت عن السير للحظات وكأنها وجدت ضالتها أخيرًا، فربما ليست العلة في الطقس، بل منها هي، أو لتكن أكثر دقة، هي من تنظر إلى كل ما حولها بعين الكآبة....
خاصةً بعد ذهاب رحمة مع زوجها، وكذلك انتقال شقيقها إلى مسكن خاص به فبات منزلها فارغًا، والأسوأ حالة الطوارئ التي يفرضها عليها والدها بعد رفضها أخر طلب للزيجة، ومن ذا الذي يلومها على موقفها!، أيتوقع والدها منها حَقًّا الزواج في ثلاثة أيام! من غريب لم تلتقيه سوي مرة واحدة، هذا إن كان مبدأ القبول موجود من الأساس، أي درب من الجنون هذا الذي تعيشه، وعن أي زواج يتحدثون وهي تفكـ.......
أرغمت عقلها على التوقف قبل وصوله إلى المنحنى اليومي المعتاد، هي فقط وحيدة ومشوشة وتخشي عليه من تورطه في الأمر، لذا تفكر به كثيرًا، كما تفكر في الكل، وأولهم الخطة التي رسمتها مع يحيى اليوم، وينطبق على الحال على طفلته، تشفق عليها ولا شيء أكثر....
هذا ما تمتمت به مع نفسها في صوت شبهه مسموع، قبل أن يرتفع رنين هاتفها في اتصال قادم منه....
فقفز قلبها داخل صدرها فور رؤيتها أسمه يزين شاشة هاتفها، تحاول تهدئة خفقاتها قبل سماعها صوته يسأل في عتاب :
-(( غفران!.. أنتِ متعمدة مترديش على اتصالاتي؟!.. أنا بكلمك من ساعتين ومفيش رد! ))..
أجابته كاذبة وهي تدلف مدخل البناية القاطنة بها وتتسلق الدرج :
-(( لا أبدًا.. أنا بس كنت في الجمعية وبعد ما خلصت قلت أتمشى شويه أغير جو.. وغالبًا مسمعتش الفون غير دلوقتي ))..
بدا على صوته عدم الاقتناع خصوصًا وقد هتف يسألها في نبرة متشككة :
-(( كنتي في الجمعية فعلًا ولا بتعملي حاجة من ورايا!!.. على فكرة أنا برضه ليا طرقي ولـو.... ))..
سارعت تقاطع تحذيره مؤكدة، بينما يدها الحرة تبحث داخل حقيبة ظهرها عن مفتاح المنزل حتى وجدته ودفعته داخل الثقب الخاص بها :
-(( مفيش لو.. والله كنت في الجمعية.. كان عندي قضية خلع ))..
دوت ضحكته الرجولية عاليًا يسخر منها مشاكسًا، ودوي معها قلبها يكاد يقتلع ضلوعها ويفارقها، ولا قبل لها بمجابهة جنونه الهادر، فكل ما تقو عليه هو التغاضي والتجاهل....
أما في الداخل، فقد تهادى إلى صوت المبعوث المتطفل، الباحث عن الأوراق صوت أنثوي ناعم ممزوج بصوت أقدام توقفت أمام باب المنزل، يليه صوت قلقلة مفاتيح بداخل حاملتها، فسارع يركض باحثًا عن منفذ للخروج في نفس الوقت الذي دلفت به غفران منزلها، وبدلًا من فراره من النافذة أو الاختباء في أحد الغرف، وقف يواجهها في تحدي، مخرجًا من جيبه مطواة حادة أخذ يلوح بها أمام وجهها حتى تبتعد عن طريقه، ويخرج من الباب الرئيسي للمنزل....
فما كان منها إلا أن شرعت في الصراخ مستنجدة بساكني البناية وقد باغتها المعتدي على حين غرة وجواد لازال معها على الطرف الآخر يستمع إلى صرخاتها وقلبه يكاد يهبط إلى قدميه خوفًا وهلعًا عليها،...
ومع نداءه الملهوف علها تجيبه، لم يفكر مرتين، بل تحرك راكضًا إلى سيارته يهب إلى نجدتها، حتى وإن كانت حياته هي الثمن، ففكرة خسارتها لم تكن في قاموسه.
************************
وبداخل شركة المجد...
جلس داخل مقعده الجلدي ذو الظهر العالي يتململ في نفاذ صبر وترقب، بينما عيناه تحيد كل فترة وأخرى عن الهاتف كي تنظر إلى الباب والعكس صحيح، فلو صدقت جيداء في روايتها حَقًّا كما تدعي ونجح في إيجاد النسخة الأخيرة من الأوراق، لأنتهي من كابوس تهديد هذا الثنائي الذي يراوده منذ عام....
صبرًا... صبرًا... زفر في ضيق يناقض نفسه، فمن أين يأتيه الصبر وهو المتعجل في كل شيء، حتى في تكوين ثروته، أتخذ الطريق الأسهل غير مباليًا بعاقبة أموره، يلقى باللوم على جميع من حوله عداه، هل ينظرون منه السير على الطريق المستقيم بينما يخطأ كل من حوله؟!....
فيظل هو في القاع كما كان والده؟ لا يجد حتي اللقمة لإطعام أسرته، ويترك غيره يتمتع برغد العيش!!!،
لا لن يسمح لأحد بهدم إمبراطوريته التي يُجاهد لتكوينها، ولن يثنيه رادع عن مضاعفة ثروته بالطريقة التي يرتئيها...
وبهذا الفكر وتلك العزيمة التي لا تتزعزع، التقط هاتفه فور سطوع شاشته يجيب متلفهًا في عُجالة :
-(( هااااا.. طمني... لقيت الأوراق عندها زي ما بلغتك؟! ))..
أجابه الرجل وهو ينهت من فرط المجهود :
-(( لقيته يا باشا وأنا في طريقي ليك بس حبيت أطمنك لحد ما أوصل ))..
ارتمى بجذعه للخلف، يستند في انتشاء على ظهر مقعده، ويتنهد في راحة قبل أن ينهي حالة الحبور التي اعترته، باقي حديث السارق، حيث هتف يضيف على مضض :
-(( بس ملحقتش أخرج قبل ما ترجع.. دخلت عليا يا باشا فاضطريت اهوشها عشان تخاف وأخرج سليم ))..
هنا صدح صوت أبو المجد المتجهم يهز أركان المكتب في عصبية :
-(( يعني معرفتش تكمل صح للأخر.. ولو عملت محضر تعدي بشكلك أتصرف أزاي أنا دلوقتي ))..
سارع الرجل يدحر قلقه مطمئنًا :
-(( لا يا سيد الناس متخفش.. كنت لابس ماسك مبانش مني الهوا.. حتى البصمات مسبتش حاجة ورايا أطمن ))..
غمغم يقول في شيء من الارتياح :
-(( طب خلص أنا مستنيك في الشـ......))..
-(( يا نادر باشا.. ألحق ))..
كان هذا هو صوت مساعده الذي هتف يستنجد به بعدما دفع باب الغرفة واقتحمها على حين غرة، فهتف الأخير يسأل في تذمر بعدما ألقي هاتفه في عنف فوق سطح مكتبه :
-(( يادي نادر اللي مش مكتوب عليه الراحة شوية.. قول ألحق إيه! ))..
أجابه خليل في تأثر واضح :
-(( الراجل إياه بتاع مجلس الشيوخ ده.. طلع من الناس إياهم بتوع العنف والضرب.. مسك البت اللي بعتنهاله النهاردة بهدلها مرة واتنين لحد ما طلعت من تحت إيده من ساعة خلصانة.. عندها نزيف وحالتها تصعب ع الكافر.. لازم مستشفى الدكتور بتاعنا مش عارف يتصرف معاها جوه العيادة.. وإلا هتروح مننا ))..
أستمع إلى حديثه كاملًا وأركان فكرة ما تكتمل داخل عقله بصورة واضحة ملحة، وبعد فترة من الصمت قال في خبث :
-(( ودوها مستشفى.. وحكومي كمان ))..
جحظت مقلتي مساعده للخارج في دهشة، قبل أن يطلب منه التوضيح مستنكرًا :
-(( مستشفى أزاي يا باشا.. بقولك نزيف وضرب يعني هيصنفوها اغتصاب! ))..
هتف مؤكدًا في صرامة :
-(( وده المطلوب.. خلي الدكتور يشوف بس شغله الأول ويمحي أي حاجة تدل على الجاني الحقيقي.. أنت فاهم قصدي إيه.. وبعد ما تخلص تعمل محضر كمان بس مش بنفسك شوف أي حد بعيد عننا شوية ))..
التفت رجله الأمين ناحية الباب استعدادًا للذهاب وتنفيذ طلبه، قبل أن يوقفه صوت مخدومه للمرة الأخيرة يوصيه قائلًا :
-(( أسمممممع.. اللى يعمل المحضر يخليه بأسم عبد الجواد أنور المناويشي )).