رواية في لهيبك أحترق
الفصل الواحد العشرون 21
بقلم شيماء يوسف
ياساهِراً لَعِبَت أَيدي الفِراقِ بِهِ
فَالصَبرُ خاذِلُهُ وَالدَمعُ ناصِرُهُ
إِنَّ الحَبيبَ الَّذي هامَ الفُؤادُ بِهِ
يَنامُ عَن طولِ لَيلٍ أَنتَ ساهِرُهُ .
- أبو فراس الحمداني
عذابات الهوى ، بينما تتكالب الأولى بتاء جمعها علي كسر قلب العاشق ، لا يحرك الأخير ساكناً ، بل يظل ينظر من بعيد واضعاً ساق فوق الأخرى ، متلذذاً بما يصيب البشر ، من صنع يده وأحكامه ، متنوعاً ومتلوناً ببراعة فى صباباته ، فيصيب البعض ممن وقعوا فريسة لسطوته بسهام الفراق تارة ، والبعض بعلة الأجحاف تارة أخرى ، نزيف الأهمال من رفيق الروح تارة أخيرة ، وغيره من الأنانية ، الهوان ، الكبر ، والأعتياد ، أما أسوء عذباته وأكثرهم صعوبة فهو الوقوع فى الحب فى الزمن الخاطئ ، مع الشخص الصحيح ، والأصعب أن تقف عاجزاً ، تراقبها تنسل من بين يديك ، كما يحدث معه الأن ، يستمع بقله حيلة إلى والدها وهو يتحدث مع خطيبها ، ويتفق معه على تعجيل موعد الزفاف بعدما قص الأخير عليه كل ما حدث ، قبل ألتفاته إليها يسأل من تنظر بأعين متمردة :
-(( ها يا عالية يا بنتى .. أيه رأيك فى طلب محمد الأسبوع الجاى نكتب الكتاب والفرح بعده ؟! )) ..
رفعت رأسها تنظر إلى من يتابع ما يحدث مثلها بصمت ، وقبل أن تفتح فمها للأجابة ، تفاجئت به يقول بلا مبالاة مستبقاً رد فعلها :
-(( طب أنا مضطر أستأذن يا جماعة عن أذنكم )) ..
تلاقت أعينهم لوهلة ، حزنه مقابل ترددها ، وثأر كرامته مقابل توسلها ، مضيفاً بعدها بجمود :
-(( ألف مبروك يا أستاذة علياء .. ربنا يتمم على خير وحمدلله على السلامة مرة تانية )) ..
بالنسبة إليه حتى الأستماع إلى أجابتها لم يعد يعنيه ، لذا أستدار بجسده هارباً بعد النطق بجملته الباردة ، قبل أن يوقفه للحظات معدودة صوتها آتياً من الخلف تقول بعصبية واضحة :
-(( تمام .. اللى تشوفه يا بابا موافقة عليه )) ..
أجفل جسده وأنتصبت عضلاته المتشنجة ، مقرراً أستئناف طريقه نحو الخارج دون الألتفاف إليها ، فرحلته القصيرة معها أنتهت عند ذلك الحد ، مقاطعاً تتبع نظراتها لأثره بغيظ ، صوت شقيقها يهتف معترضاً بأمتعاض واضح :
-(( اللي بابا يشوفه أيه أنتوا بتهزروا !! .. مش من يومين كنتى عايزة تسبيه !! فرح أيه وجنان أيه ؟! )) ..
أشاحت بنظرها بعيداً عن الجميع منزويه بجسدها داخل الفراش ، بينما تولي والده مهمة التحدث إليه قائلاً بهجوم صريح :
-(( بعد اللي حصل النهاردة ميحقلكش تتكلم .. وأنا عايز أطمن عليها قبل ما أموت .. سامعنى ولا أقول كمان ؟! )) ..
ضغط جواد فوق شفتيه بقوة ، يمنع بذلك لسانه من التعليق حتى لا يقع فى مصيدة الخطأ ، بل وساهم فى إنقاذه رنين هاتفه ، مقرراً الأنسحاب من التجمع بأكمله وهو يجيبها بنبرة لازالت محتفظه بجزء من حدتها :
-(( وصلتى ؟؟ )) .
أبعدت الهاتف عن وجهها قليلاً تنظر إلى شاشته بأستغراب ، قبل معاوتها وضعه فوق أُذنها وسؤالها بحيرة :
-(( أنا في الممر قدام الأوضة .. بس مالك ؟! )) ..
أجابها بعدما خرج من الغرفة ولمحها تقف أمام بابها :
-(( متشغليش بالك .. بعدين ههحكيلك .. بصى الأوضة أهى وأنا عطتهم فكرة أنك هتوصلى .. هتلاقى ماما جوة مستنياكى هى وعاليا .. وأنا هنزل أشوف طاهر ورحمة شوية وهرجع )) ..
هتفت تستوقفه متلهفة بصوتها المتردد :
-(( جواد أنت رايح فين وسايبنى أقابلهم لوحدى .. لو كدة أنا همشى أو هنزل معاك أشوف رحمة )) ..
قال معترضاً بحسم بعدما قبض بمعصمه على يدها وجرها خلفه فى أتجاه الغرفة :
-(( الجو برد تحت وأنتى لازم تخافى على نفسك .. وأنا شوية هتكلم مع طاهر وأطلع على طول نشوف حل لمشكلتك وأفهم حصل أيه بالتفصيل )) ..
أنهى جملته بدفعها داخل الغرفة عنوة ، متولياً مهمة التعريف عنها وهاتفاً لوالدته بأقتضاب :
-(( ماما .. أستاذة غفران .. أتعرفوا براحتكم .. وعن أذنكم )) ..
رفعت غفران كفها تلوح للجميع مرحبة بأرتباك وجدت نفسها تعانى منه للمرة الأولى تقريبا ، بينما أنسحب هو للخارج يبحث عن قريبه وقرينه لمشاركته غيظه ، حنقه وعصبيته .
***************************************
دمعة واحدة هى كل ما سقطت من جفنيها عنوة ، فى المرحلة ما بين الوعى واللاوعى ، بينما لسانها المثقل يهمهم بأسمه مستنجداً بعجز ، قبل أستسلامها للظلام من حولها ، عند تغلغل كامل المخدر الموضعى إلى جسدها ، أما على الطرف القريب الأخر ، فوقف بضيق يتابع سائقه ومحاولته حل وتبديل إطار السيارة الموازى للرصيف ، قبل أن يلتفت بجسده ، فى نفس التوقيت حيث مرت السيارة ذات النوافذ المعتمة من أمامه ، على صوت قريبه يسأل بأستغراب :
-(( الكاوتش نام ولا أيه ؟! )) ..
أجابه طاهر بتأفف واضح :
-(( متسألش )) ..
صمت للحظات يتفرس ملامحه الجامدة ، قبل أستطراده يسأل بنبرة خفيفة :
-(( مالك شايل طاجن ستك فوق رأسك كدة ليه )) ..
زفر جواد مطولاً ثم قال بغضب ونبرة عدائية متشنجة :
-(( معرفش كان لازم يعنى لما بابا أستأذنك أول مرة في موضوع جواز علياء قبل ما عمرو يكمل السنه توافقه !! أهو اللطخ كلمه من شوية .. عايز يكتب الكتاب وعمك ما صدق وافق .. معرفش ده لو ماسك على أبويا كمبيالات مش هيعمل معاه كدة )) ..
أبتسم طاهر من ملئ فاه ثم قال بهدوء معللاً :
-(( شوف أهو عمى أنور سايب البلد بقاله كام سنة .. بس لسه مسيطرة عليه زى لغته المكسورة .. راجل مودرن ببدلة .. بس جواه شارب كل عادتهم .. فمتستغربش منه تمسكه ب"اللطخ" .. وأفتكر كان هيتجنن أزاى لما علياء أتأخرت سنتين عن صحابها فى الخطوبة )) .
زفر جواد ثم سأله بحيرة :
-(( ماشى موقف أنور وفهمناه .. وعارف أنه خايف عليها وهيتجنن ويشوفها عروسة .. هى بقــي .. ليه جبانة ومتذبذبة كدة !!!! )) ..
أجابه شارحاً :
-(( عشان هى لسه طرية .. مجربتش ولا عدت بمواقف تخليها تقف وتقول لأ .. ومتتوقعش منها تتمرد بين يوم وليلة .. أختك لسة خام .. ومشافتش من الدنيا اللي يخليها تتقوى .. ومادام هى موافقة يبقى سيبها تجرب بنفسها وخلينا فى المهم .. رأيك فى اللى حصل ده سرقة ولا وراه حاجة تانية )) ..
سارع جواد يهتف مؤكداً بثقة :
-(( لا طبعاً .. وهى لو سرقة هتلاقى نفسها فى بيت مهجور ليه .. حتى العربية فضلت مكانها .. معقول سرقة على شنطة أيد وكام كريدت كارد هيتوقفوا فى الحال ؟؟ .. الحوار وراه حاجة **** .. ويارب ميكونش ال**** رائف فيها )) ..
عقب طاهر من خلفه كاشفاً عن شكوكه :
-(( وأنا كمان بفكر فى كدة .. بس مردتش أتكلم فوق لحسن يقلقوا )) ..
قال جواد مقترحاً :
-(( طب ما تكلم ماكسيم يشوف الليلة دى أحسن وأضمن )) ..
قال الأخر معترضاً بأستخفاف :
-(( ماكسيم فى هولندا .. مش هيرجع غير لما يوصل لقاتل عمرو .. وبعدين وأحنا روحنا فين ولا أنت كبرت وعجزت خلاص )) ..
صاح جواد بحنق يؤنبه وهو يعتدل فى وقفته تأهباً للرحيل :
-(( تصدق أنا غلطان أنى نزلت أقف معاك وعبرتك .. ونسيت أنى سمعت كلمتين من شوية بسببك .. خليني أطلع أشوف مصيبة غفران هى كمان .. قلتلها هشوف طاهر ورحمة وأطلعلك )) ..
تأهبت حواسه وأستدار يواجهه بكليته ، ثم هتف يسأله بقلق :
-(( أنت قلت أيه !! هى رحمة مطلعتش فوق !! )) ..
أجابه جواد بأستنكار :
-(( لا فوق أيه .. مش كنتوا متفقين تشم هوا برة .. أنا بحسبك روحتها أو قعدت فى مكان وخفت أسألك الجنونة تطلع )) ..
أبتلع لعابه بقوة ، ثم نفض رأسه عدة مرات يميناً ويساراً يُبعد الصوت القلق الذى ضرب دواخل رأسه فى الحال ، قبل بدء ركضه فى أتجاه منفذ البيع المقابل له ، حيث أشارت إليه بيدها منذ قليل ..
***********************************
ظلت ساكنة ، تتابع بعينيها الحركة من حولها بهدوء تام ، حتى أعلن عن إنسحابه بعدما أعطاهم الطبيب أذن الخروج ، حتى يُنهى كافة الأجراءات الورقية والحسابية ، وقتها هتفت مؤنبة بأختناق واضح لوالدته الجالسة فوق الفراش الطبى مقابلةً لها :
-(( كدة برضة يا حماتى .. وأنا اللى كنت فاكرة مصلحتي تهمك .. طلعت في الأخير مليش لا خاطر ولا قيمة عندك )) ..
لوت والدته فمها يميناً ويساراً متأفأفة قبل أن تقول متشدقة بجملتها الأعتراضية :
-(( بقولك أيه يا أفنان .. الحبتين دول مش عليا ها .. ولا فكرانى عبيطة ومش واخدة بالى أنك زقيتى نفسك قبل ما هى تقرب منك )) ..
سألتها الأخيرة متوجسة بأرتباك واضح :
-(( قصدك أيه يعني .. مفهمتش )) ..
أبتسمت والدته بعمق ، ثم قالت محذرة بهدوء ونبرة خفيضة مبحوحة :
-(( لا فهمتيه وكويس .. العيل ولزقتيه فيها وطلعتى كسبانة ببونت ومحبتك فى قلبه زادت .. الباقي بقي ملكيش دعوة بيه أحسنلك )) ..
هنا صاحت معترضة بحدة شديدة لم تستطع أخفائها أو السيطرة عليها :
-(( يعنى أيه مليش دعوة يا حماتى !! .. مش كفاية أبني راح منى !! كمان عايزانى أقف أتفرج وأنا شايفة جوزى .. الحاجة الوحيدة اللى حيلتى بتضيع منى وأقف ساكتة ؟ )) ..
تنهدت والدته مطولاً ، ثم قالت بلين مقدرة موقف الأخرى وما تمر به :
-(( لا حول ولا قوة إلا بالله .. أنا فاهمة أنك زعلانة ومقهورة من اللى حصل وملحقش يبرد فى قلبك .. بس برضه أنا أم .. ومش هشوف أبنى بيتبهدل فى المحاكم على أخر الزمن وأسكت .. وأهو وقعت فى شر أعمالها وأنتى أستفادتى من اللى جرى .. يبقى سبينى أنا كمان أستفاد .. وفى الأخير كله لمصلحة نفس الشخص اللى بنحبه .. سبينى أتصرف يا أفنان بدل ما أقول ع اللى فى عبى .. وساعتها أكيد .. مش هى الخسرانة .. كدة ولا أيه ؟! )) ..
نطقت جملتها الأستفهامية الأخيرة بنبرة عالية ممطوطة ، بثت من خلالها تهديدها المبطن ، والذى ألتقطته الأخيرة بسهولة وعليه ، قررت أخفاض رأسها للريح كحل تلجأ إليه دائماً كلما أشتدت العاصفة قبل أن تقول بخنوع ، رغم الأحتقان الكاسى نبرتها ووجهها :
-(( اللى تشوفيه ياحماتى )) ..
*************************************
أندفع يركض كالمجنون يقطع الخطوات الفاصلة بين مكان وقوفه وهناك ، حيث سارت منذ قليل يسأل بأنفاس لاهثة الرجل طاعن السن الواقف داخل المنفذ الصغير :
-(( لو سمحت .. كان فى واحدة من شوية جت أشترت منك حاجة .. هى بيضة ولابسه جاكيت أسود )) ..
قاطعه الرجل يكمل بتساءل بدلاً عنه :
-(( أه ولابسة طرحة مشجرة كدة ؟؟! .. أشترت أزازة مية وعلبة مناديل ومشت )) ..
هنا تدخل جواد يسأل نيابة عنه بلهفة :
-(( أيوة .. مشفتش بقى راحت فين ؟! )) ..
أجابه العجوز نافياً :
-(( لا والله يابنى كان فى زبونين تانيين غيرها .. مشتها على طول عشان متقفش بينهم ودخلت أجيب الطلبات )) ..
مسح طاهر فوق وجهه بعنف ثم عاد يركض من جديد فى أتجاه المشفى علها صعدت إلى الأعلى دون علمهم ، بينما يده تعبس بنفاذ صبر وحدة بشاشة هاتفه يحاول الأتصال بها والوصول إليها دون جدوى ، هاتفاً بعصبية :
-(( مبتردش .. جرس ومحدش بيرد )) ..
فتح جواد فمه ثم عاد وأغلقه خوفاً من بطش الأخير إن شاركه شكوكه لذا أكتفى بالركض من خلفه حتى وصلا الغرفة ، وكان طاهر هو أول من أقتحمها ، يسأل بتوق :
-(( رحمة فين ؟! مطلعتش ؟! )) ..
ألتفت الجمع على صوته المتوتر ، وكان السيد أنور هو أول من سأله متوجساً بملامح عابسة :
-(( يعنى أيه رحمة فين !!! .. أحنا مش سايبنها معاك !! )) ..
شعر بكف الأختناق تحكم قبضتها فوق عنقه ، مانعة عنه أبسط حقوقه فى الحياة ، قائلاً بنبرة مختنقة متهدجة :
-(( كانت معايا وراحت تجيب مية من الكشك اللى قدامى وبعدها أختفت )) ..
أجفل جسد السيد أنور وأنتصبت غفران واقفة ، بينما هتفت بأستنكار كلاً من السيدة كريمة وعلياء ومن ورائهم السيد أنور من جديد :
-(( يعنى أيه أختفت من قدامك !! بنتنا راحت فين يا طاهر )) ..
لم يكن فى حال يسمح له بالوقوف ثانية واحدة يستمع خلالها إلى أستنكارات الجميع ، فحتي ساقيه تأبى السكون ومتابعة تراهاتهم ، لذا عاود الركض يبحث عنها فى الممرات والطوابق ، فى حين هتف غفران توقف جواد بعدما قبضت بكفها فوق معصمه ، تسأله بذعر :
-(( رايح فين !! ما تفهمونا حصل أيه لرحمة ؟ )) ..
أجابها جواد على عُجالة :
-(( معرفش .. زى ما قال كانت قدامه وفجأة أختفت )) ..
قالت مهرولة من خلفه تحاول مسايرة خطواته الواسعة :
-(( طب خدنى معاك .. مش هفضل قاعدة ساكتة وهى مختفية )) ..
توقف عن سيره مراعاةً لحالتها ثم قال رافضاً :
-(( تروحى فين واحنا أساساً مش عارفين هنروح فين .. خليكى معاهم جوة وإن شاء الله هتكون راحت تتمشى شوية لوحدها وهترجع )) ..
عقبت معترضة بعدم أقتناع :
-(( وهى لو راحت تتمشى هيكون ده رد فعل طاهر !! .. عشان تكون عارف رجلى على رجلكم .. حتى لو راحت تتمشى هدور معاكم لحد ما نطمن أو نوصلها )) ..
زفر مستسلماً ، قبل معاودته الهرولة من جديد بعدما أومأ رأسه لها موافقاً ، أما فى الأسفل ، بعدما جال كامل طوابق المشفى بحثاً عنها دون جدوى ، عاد إلى نقطة البداية مجدداً ، يركض حول المشفى والشوارع الخلفية الموازية والمقابلة لها والهاتف فوق أذنه ، يهاتفها مرة بعد مرة عسى تصيب محاولته فى أحداها ، بينما يصيح بحنجرته كالبائس أسمها ، وبعدما يأس فى إيجادها ، عاد حيث المنفذ يسأل كل من يقابله عنها ، حتى أوقفه صوت جواد يقول مشفقاً :
-(( مش يمكن هى مشيت )) ..
آلتفت بجسده المتشنج على الصوت القادم من خلفه يسأله بأرتياب :
-(( قصدك أيه ؟! )) ..
أجابه حذراً على مضض :
-(( يعنى كلنا هنا عارفين ظروف جوازكم كانت أزاى .. يمكن رحمة شافتها فرصة .. أنشغالنا بعلياء يعنى وحبت تمشى )) ..
قفز كالفهد المنقض فوق فريسته ، يقبض على تلابيب قميص قريبه ، صارخاً بأهتياج :
-(( ممشتش .. سامع .. ممشتش .. أنا حاسس أن فى حاجة غلط .. متقولش مشيت )) ..
سارعت غفران تضع ذراعها كحائل للفصل بينهم قائلة بعقلانية ومؤكدة حديثه :
-(( طاهر عنده حق .. مش رحمة اللى تعمل كدة وخصوصاً الفترة الأخيرة بعد مــــا )) ..
خفتت نبرتها مع نطقها بكلمتها الأخيرة ترهف السمع ، ثم قالت بتوجس :
-(( طاهر .. أنت بترن لرحمة صح )) ..
أومأ لها مؤكداً بعصبيه فأردفت تقول بتركيز :
-(( أنا سامعة صوت تليفون .. فى حاجة بترن حوالينا )) ..
ضيق جواد عينيه يحاول الأنصات بينما أبعد طاهر الهاتف عن أُذنه قبل همهمته موافقاً حديثها ، يليه ركضه فى أتجاه مصدر الصوت ، حتى وصل إلى منبعه ، وقتها أنحنى بجذعه ، يرفع حقيبتها الملقاة أرضاً بعشوائية حيث ألقاها الخاطف بعيداً لتفادى الشبهات ، وجوارها زجاجة المياه الصحية ، قبل أن يصرخ بحرقة وقد تأكدت شكوكه وتحققت مخاوفه :
-(( رحـــــمــــــااااااااااااااه )) ..
**********************************
في بعض الأحيان ، بل فى كثيراً منها للواقع ، بعد أنقضاء الوقت وعبور الأزمات ، وأنقشاع ضبابة السخط الغاشى أعيننا كالغيمات ، نكتشف أن أسوء ما ألم بنا ، هو أفضل ما وقع لنا ، وأن ما كنا نَفَر منه ، هو منتهي ما نسعى إليه ، وأن الكره الدفين ، ليس سوى عشق عميق ، وأن الباب الموصود أمامنا ، كان نافذتنا من الجهة الأخرى ، علي الأمان والحرية ، وأن أكثر شخص نبغضه وأردنا الخلاص منه ، هو أكثر ما نتمنى رؤيته ، كحالها الأن ، ملقاة فوق الارضيّة الرملية الباردة داخل المخزن المشبع برائحة الكيروسين الفواحة ، مغممة العينين ، مكبلة اليدين ، مكممة الفم ، بلا حول ولا قوة ، تراه خيالات فى عقلها ، يأتى ويذهب ، يخبرها بصوته الحانى بأنه جاء لأجلها ، ثم يبدء جسده فى الأبتعاد عنها شئ فشئ ، حتى يختفى داخل هوة واسعة من اللاشئ ، فتصرخ وتصرخ بأسمه دون صوت ، حتى يعود ويظهر من جديد ، جاثياً على ركبتيه أمامها ، فتسارع بمد ذراعها نحوه مبتسمة الفم ، مغلقة الجفنين مترقبة رفعه وحمله لها ، قبل سقوطهم معاً فى دوامة من الظلام السحيق ، وهكذا ، ظلت تحلم به ما بين صحوتها وغفوتها ، يهدهدها مرة ، ويبدد خوفها مرة ، وينقذها مرات ومرات ، ثم تعود لوعيها فتجد نفسها لازالت مسجاة أرضاً بأنفاسها الشبهة مقطوعة ، تتوق لوصوله ، بينما واصل هو بحثه وعدوه من مكان إلى أخر ، ومن قسم شرطة إلى الذى يليه ، حتى أنقطعت أنفاسه وأرتمي بجسده فوق أحد أرصفة الطرقات ، يلعن نفسه بصمت ، على تقصيره وأهماله ، على تقاعسه فى حمايتها ، قبل أن يرفع رأسه متلهفاً فور رؤيته لأقدام جواد تقترب منه ، فأنتفض من جلسته يسأله بلوعة :
-(( عرفت تلاقى طريقة نفرغ بيها الكاميرات ؟! )) .
أجابه جواد متأسفاً :
-(( المدير مقفل ومصمم .. يا أذن نيابة يا مفيش تفريغ .. يعنى مضطرين نستنى تعدى ٢٤ ساعة عشان يخرج الأذن )) ..
قال مصراً ومدفوعاً بحرقة النار المشتعلة داخل صدره :
-(( أنا مش هستنى .. قبل طلوع الشمس تكون فيديوهات الكاميرات قدامى .. يا كدة يا نلبس طرح ونقعد فى البيت )) ..
هنا هتفت غفران تقترح بثقة :
-(( أنا أقدر أجيبلكم الأذن .. بس من غير ختم الدولة )) ..
عقب هو يقول من ورائها مستأنفاً جملتها :
-(( أنا هجيب الأذن مختوم )) ..
سارع جواد يسأل بأستغراب وأنظاره مسلطة على يد قرينه التى بدءت بالفعل تعبث بشاشة الهاتف :
-(( هتجيبه أزاى ؟؟! )) ..
أجابه بأقتضاب :
-(( رضا المناويشى )) ..
هتف مستنكراً :
-(( دلوقتى !! .. طاهر الساعة عدت ٣ الفجر !! هنصحي الناس ونقلق منامهم الساعة دى !! )) ..
صاح يقول بعدائية :
-(( يصحى .. ومن عز نومه كمان .. هو مش النايب بتاعنا برضة !! وفلوس دعاياه طالعة من قلب الشركة ! .. يبقى يصحي ويعرف أنه سايب فى أسكندرية أتنين ***** .. واحد منهم مراته أتخطفت من قدامه من غير ما يحس )) ..
ضغط الأخر على فمه بقوة بالعاً الأساءة فأى سبيل للعقل أو المنطق أو حتى العتاب لن يجدى نفعاً ، وعليه أفسح له المجال لفعل ما يشاء ، المهم النتيجة وسرعة الوصول إليها ، شقيقته الأخرى كما تعاهدا ثلاثتهم تلك الليلة ، وبالفعل بعد عدة مكالمات هاتفية ، تنهد طاهر بأرتياح ، ثم غمغم شاكراً ، يقول بهدوء نسبي واعداً :
-(( شكراً يا رضا يابن عمى .. خليك فاكر جميلك ده مش هنساه .. ووعد مرات أخوك هتكون فى بيته قبل الليل ما يليل .. يا وقتها تقول عليا مش راجل )) ..
أما فى الأعلى ، وتحديداً داخل أحدي غرف المشفى ، حيث يقبع داخلها بأعصاب مشدودة باقي أفراد العائلة ، همست السيدة كريمة تقول متعاطفة :
-(( أهدى يا أنور عشان خاطرى .. أخاف الضغط يعلى عليك وأنت مش حمل قلق زيادة )) ..
ضرب بقبضة كفه المتكورة فوق ذراع مقعده ، سجنه المؤبد ، قائلاً بحسرة :
-(( الصبح علياء وبليل رحمة .. وأنا قاعد أتفرج على الكل عاجز .. مش قادر أعمل حاجة يا كريمة .. مليش لازمة )) ..
أغرورقت عيناها بالدموع ، قبل أن تسارع نافية بصوت ناعم متحشرج ، حاولت قدر الأمكان أخفاء الدموع منه :
-(( متقولش على نفسك كدة .. أنت عمود العيلة وأساسها .. وبعدين جواد وطاهر مش مقصرين فى حاجة .. ولا أنت مستقل بيهم ؟ )) ..
صمت ولم يعقب فأردفت تطلب منه ويدها تمسح فوق كفه بحنان :
-(( أدعى أنت بس .. طول عمر دعوتك مبتتردش .. أدعيلهم ربنا يسدد خطاهم ويلاقوها فى أسرع وقت )) ..
همس متضرعاً برجاء :
-(( يــارب .. يارب يا كريمة يريح قلوبنا بفرحة رجوعها بالسلامة )) ..
" الله أكبر .. الله أكبر "
صدع صوت المؤذن من حولهم قاطعاً سكون الليل ، فأرتسمت أبتسامة أمل على وجه قرينته ، ثم قالت باسمة بتفاؤلها المعتاد :
-(( يا أكبر من كل كبير يارب .. شفت يا أنور .. أهو علامة .. تعالى نتوضى ونصلى وإن شاء الله هنسمع خبر حلو )) ..
سار معها مستسلماً وداعياً ، فلا يقنط من روح الله ألا الظالمين ، وهو أبداً لن ييأس من رحمته .
*************************************
ساعة مرت كالدهر ، ود طوال ثوانيها الثلاثة آلالاف وستمائة لو يقفز داخل زجاج ساعته الفضية ، ويحرك عقرب الدقائق والثوانٍ ، حتى تأتيه السجلات كما طلبها ، ومن رحمة قدره به ، لم ينتظر بعد تلك الساعة سوى دقائق معدودة ، قبل ظهور جواد أمامه بجسده العريض ، يقتحم غرفة مكتبه ومن بعده غفران ، بعدما أقنعه بصعوبة بالغة الأنتظار داخله ، حتى يتحصل على سجلات كاميرة المراقبة الخارجية للمشفى ويأتيه بها ، يليه وضع القرص المدمج بطرازه القديم فوق طاولة المكتب هاتفاً بخليط من الأرتياح والأرهاق :
-(( كل فيديوهات الكاميرا .. من قبل نزولكم لحد وقت تسليمهم ليا .. أبدء بالمهم .. شغل أول فيديو المفروض ساعة الخطف )) ..
سارع طاهر بسحب القرص من فوق المكتب بعدما قام بتشغيل حاسبه ووقفا ثلاثتهم ، يتابعوا بأعين مترقبة وأنفاس مكتومة ، كل شاردة وواردة ، بل كل حركة داخل الفيديو المسجل ، حتى جائت اللحظة الحاسمة ، لحظة ظهورها برفقة طفل صغير ، تسير معه بأريحية شديدة حتى وصلت إلى المكان المنشود ، ورأي بأم عينيه ذلك المعتدى ينقض عليها من الخلف مكمماً فمها ، ومحاولتها المستميتة فى الأفلات من قبضته ، قبل وقوعها فريسة سهلة بين أيديهم ، شاعراً بالغرفة تضييق من حوله ، ود لو يصرخ حتى تنقطع أحباله ، أو يركض حتى تنفجر رئتيه ، لو يضرب كفه بالحائط حتى يسيل الدم منها ، أو تنهدم فوق رأسه ، أشياء كثيرة ظلت حبيسة صدره ، تنهشه حياً ، وهو يقول بنبرة عاجزة مقراً على مضض :
-(( رائف ! )) ..
كانت كلمته مزيجاً بين السؤال والأجابة ، وقبل أفاقة الثنائي الأخر من صدمتهما ، كان يسحب من خزانة مكتبه الخاصة ، سلاحه النارى ، ويركض به إلى الخارج ، يتنوى ، أما العودة بها ، أو السير إليها على أنقاض جثته ، مهرولاً من خلفه جواد ، يصرخ بأرتياع :
-(( هتعمل أيه )) ..
أجابه ببساطة وكأنها يسأله عن حالة الطقس وليس ما يحمله فى كفه :
-(( هقتله .. أنا حذرته قبل كدة لو قرب منها هقتله )) .
باغته جواد بحركة سريعة توقعها وتفادها على الفور ، باعداً ذراعه الأيمن حامل الفرد النارى عن مجال الأخير ، الذى صرخ يستوقفه يائساً :
-(( هتضيع حياتك عشانه !! .. مش ده اللى قبل كدة قلتلى كلب ميستاهلش ولا نسيت كلامك )) ..
صاح بقلة حيلة :
-(( أنت مش فاهم )) ..
رد جواد متفهماً برفق :
-(( لا فاهم )) ..
همس يقول إليه بعجز ، ضارباً فوق ضلعته :
-(( حتى النفس من غيرها صعب .. بيحرق )) ..
ربت جواد فوق كتفه مواسياً ثم قال باسماً بأصرار :
-(( يلا نرجعها من بين إيدين الندل )) ..
**************************************
مسحت فوق عينيها متأففة ضجرة ، بعدما نظرت فى شاشة هاتفها للمرة الخمسون تقريباً خلال الساعات القليلة المنصرمة ، منذ بُعثت لها بتلك الرسالة النصية القصيرة ، وأخبارها بتمام المهمة ، فمهما بلغت درجة جرمها ، لازال هناك جزء صغير ينبض خشية الذنب ، والأهم يخاف الكشف ، جزء لازال يأن داخل مضغتها المغلفة بالسواد يخبرها أن ما فعلته غير صحيح ، يتوسلها التراجع قبل فوات الأوان ، فكل الذنوب لا تساوى أزهاق روح ، أبتسمت فى أستهزاء وهى تستدير برأسها تنظر إلى وضعهم المخل ، ثم عادت وأغلقت عينيها مقررة بأصرار ، وأد أخر فرصها فى النجاة ، منتفضة بعد مدة لا بأس بها ، على صوت طرقات عنيفة قادمة من الخارج ، وكان هو " رائف " أول من قفز من مخدعه بعد أستيقاظه ، يركض بفزع نحو مصدر الصوت ، إلى باب المنزل يفتحه مستنكراً ومستقبلاً ، غريمه الأوحد ، بذراعه المرفوعة فى وجهه بسلاح ناري متقدم ، يليه من بعده ظهور عدوه الأخر ، يحمل هو أيضاً مسدس نارى ، فأبتسم بقلق ، يحاول تجاوز الموقف الخطر المبهم ، والصمت المحيط بهم ، والذى كسره طاهر بقوله الهادئ نسبياً بعدما اقتحم المنزل ودفع جسد خصمه ، يحاصره بذلك بين الحائط وبينه :
-(( قلتلك لو قربت منها هقتلك مصدقتنيش .. ودلوقتى يا تلحق تنطق الشهادة وتترحم على روحك النجسة .. يا تقولى وديتها فين .. أخلص )) ..
زأر بكلمته الأخيرة كالأسد العاجز الجريح ، بينما أجابه رائف بتوجس واضح وقلق كسى كافة ملامحه :
-(( أنت قصدك على رحمة !! .. يعنى أيه وديتها فين )) ..
سحب طاهر الجزء الأخير من طرف مسدسه بنفاذ صبر أستعداداً لأستخدامه ، فى حين سارع رائف يضيف برعب :
-(( معرفش .. أقسم بالله ماعرف هى فين .. من أخر مرة مش عارف أوصلها )) ..
صاح جواد يكذبه بعدم أقتناع :
-(( أومال مين اللي يعرف !! .. رحمة أتخطفت .. وأكيد رجالتك ليهم يد )) .
قاطعه نافياً بصدق :
-(( رجالتي ميقدروش يقربوا منها من غير إذنى .. وبدل جنانكم ده حد يفهمنى حصل أمتى وأزاى ؟! )) ..
صرخ طاهر مهتاجاً :
-(( أنت كدااااب .. أتنين من رجالتك جرجروها من قدام المستشفي .. ورموها فى عربية نيسان سودا برقم *** )) ..
شحبت ملامح وجهه فى التو والحال ، يربط الخيوط ببعضها البعض فمواصفات تلك العربة ، هو من أختارها بنفسه لمهمة "علياء" شقيقتهم الصغرى ، قبل أن يقول بأصرار بعدما سحب كف غريمه ، وصوب السلاح نحو قلبه :
-(( اضرب .. اضغط ع الزناد وأخلص عشان تصدق انى معرفش عنها حاجة )) ..
قفز جواد المتردد إلى الأن فى الدخول ، فذكراه عن أخر زيارة لذلك المنزل لم تكن بالحميدة ، يقطع المسافة الفاصلة بينهم ويمنع طاهر من التهور ، صائحاً برجاء بينما يسحب بذراعه جسد الأخير ويحثه على الأبتعاد :
-(( خلاص يا طاهر .. مش مستاهلة نضيع وقتنا على واحد **** زى ده .. وأختى هعرف الأقيها سليمة زى أختها )) ..
نطق بجملته الاخيرة ونظراته مسلطة فوق رائف الذى تنفس الصعداء فور خروجهم ، يقطع صالة الاستقبال عدة مرات ، قبل أندفاعه نحو غرفة النوم ، يسحب جسدها بعنف من فوق الفراش صائحاً بحدة :
-(( قومى .. تعاليلى يا تربية ******* .. بقى بتضحكى عليا أنا )) ..
صرخت رنا التى قفزت على الفور ، ملتوية تحت قبضته تحاول الإفلات منه :
-(( سبنى معملتش حاجة )) ..
صرخ بهوجائية شديدة ، بينما يحمل فى يده مقص كبير ، ألتقطته من أحدى أدراج الأدوات أثناء مروره من أمام المطبخ :
-(( معملتيش !!!! .. لسه ليكى عين تكدبى وتقولى معملتيش !! .. أنا رائف .. واحدة ***** زيك .. تستغفلنى .. وتدفعينى دم قلبى عشان علياء .. وأتاريكى بتحورى عليا .. عشان توصلى لرجالتى وتستخدميهم من ورايا !! )) ..
صرخت متوسلة بيأس :
-(( لا يا رائف .. أبوس أيدك الا شعرى .. معملتش حاجة صدقنى )) ..
صاح ويده تشق طريقها نحو خصلاتها ، يجذب رأسها بعنف ، ويقص كل ما تصل إليه يده :
-(( شعرك ده البداية يا روح *** .. أنا قلتلك وحذرتك مسمعتيش .. أنطقى وقولى ودتيها فين )) ..
صرخت بحسرة من بين أنفاسها اللاهثة تحاول إيقاف جنونه :
-(( مجتش جنبها .. أبعد عنى وأرحمنى .. سيب شعرى والنبى )) ..
لطم شطر وجهها مرات متتالية ، بعدما أنتهى من قص معظم خصلاتها بشكل عشوائى ، قائلاً بأنفعال :
-(( مجتيش جنبها ها .. افضلى أكدبى ونشوف مين اللى نفسه أطول من التانى )) ..
انتهى من جملته ثم انحنى يلتقط من الارضيّة أسفل منه السوط الجلدى ، ثم عاد ينهل على جسدها بالضرب فى كل مكان تصل إليه يداه ، صارخاً بغضب :
-(( أنطقى وقولى خبتوها فين )) .
أنتهزت هى بعد فترة فرصة الوهن التى أصابت ذراعه للحظات بالركض إلى الخارج تاركة الغرفة بأكملها ، وقبل أن تصل إلى باب الخروج ، كان يسحبها من الخلف ، يجرها من وراءه ، بعدما ألتقط أحدى الأصفاد الموضوعة فوق المنضدة الصغيرة ، مستأنفاً سيره بها إلى المطبخ ، تلوت بجسدها ، توسلت وترجت ، صاحت تارة وصرخت تارات أخرى وهى تراه يقوم بتسخين الأصفاد الحديدية بالنار ، ثم بدء فى كيها بعدما خلع عنها ملابسها ، حتى أنهارت قواها وارتمت أرضاً ، فجسدها الضعيف لا يتحمل كل ذلك الكم من الحروق والضرب دفعة واحدة ، أما عنه ، فوقف يتابعها متذكراً والده ، وكيف كان يتركه بنفس حالتها تقريباً بحجة تقويمه ، عائداً من شروده بعد لحظات على صوتها المبحوح تقول مستسلمة :
-(( هقولك هى فين بس أرحمنى )) ..
أنحنى بجذعه يجلس على كلتا ركبتيه أمامها ، ثم قال بهدوء ولازالت لمحات من الماضى البعيد تومض أمام عينيه :
-(( سامعك .. ولو ملقتهاش .. أقسم بالله هطلع روحك فى أيدى .. بس بعد ما اقطع أطرافك الحلوة دى واحد ورا واحد )) ..
قالت متوسلة بوهن ، فقد علمت أن الصدق خلاصها الوحيد :
-(( والله مش بضحك عليك .. هتلاقيها فى مخزن بعد منطقة ***** .. شارع ***** .. لو سالت حد لما توصل هيعرفك هو فين )) ..
استقام بجذعه وأعتدل فى وقفته ثم قام بالبصق فوقها ، بعدما سدد لها بساقه عدة ركلات بالقرب من قفصها الصدرى ، ثم أنصرف غير عابئاً بتأوهاتها وصراخها ، تاركاً ألم الحروق ينهش جسدها ، دون أدنى أهتمام بما قد يصيبها من اثر اعتدائه السافر عليها .
أما فى الأسفل على بعد مسافة كافية من بنايته ، وبداخل أحدى السيارات التابعة لشركة إيواء ، هتف طاهر يقول بنفاذ صبر :
-(( أهو عدى نص ساعة ع الفاضى ومنزلش !! .. أنا مش عارف هنضيع وقتنا هنا لأمتى !! )) ..
أجابه جواد ممتعضاً :
-(( أكيد يا طاهر لو ليه يد فى الموضوع مش هينزل ورانا جرى .. ومادام مستعجل أوى كدة روح أنت شوف حالك وأنا هكمل مراقبته لوحدى )) ..
سارع يقول معترضاً بقطع :
-(( لا طبعاً .. مش هتحرك من هنا لحد ما ينزل )) ..
أكتفى جواد بإيماءة صغيرة من رأسه دون تعقيب ، معاوداً تسليط نظراته نحو مدخل البناية ، وبعد ربع ساعة أخرها من الترقب والصمت التام ، هتف يقول بأنتصار بعد لمحه لرائف يخطو خارج حدود بنايته :
-(( قلتلك الصبر حلو .. أهو نزل أهو ))..
ألتفت طاهر بلهفة ينظر فى أثره ، بينما أردف جواد يسأله بتفاخر :
-(( لو لقيناها دلوقتى تدفع كام )) ..
قال يائساً بأعين لامعة بعدما تتهد بحرارة :
-(( اللى تطلبه .. عمرى كله بس نوصلها )) ..
عقب جواد مؤكداً بحماس بعدما أنتهى من تشغيل محرك سيارته :
-(( هنوصلها .. إن شاء الله ساعة بالكتير وتكون معاها )) ..
صدق وعده الذى واعده به ، فبعد أقل من الساعة أنقضت فى تتبعه ، توقف بسيارته فى أحدى الأماكن المتطرفة النائية بجوار الطريق الزراعى ، ثم ترجل من سيارته يستأنف طريقه القصير سيراً على الأقدام ، ويتبعه بحرص كلاً من جواد وطاهر ، حتى وصل إلى مبنى شبهه متهالك تفوح رائحة الكيروسين والعفن من جميع جوانبه تقريباً ، وكان هو أول من دلفه ممتقع الوجهه مكتوم الأنفاس يبحث بعينيه عنها إلى أن لمحها ، مسجاة أرضاً فى حالة يرثى لها ، فسارع بالركض إليها يرفعها بين ذراعيه ، قبل أستماعه لصوت قادم من خلفه يقول بتحذير صريح ونبرة لا تحمل المزاح :
-(( لو لمستها هقطعلك أيدك )) .