الفصل الخامس 5
بقلم شيماء يوسف
''الصبر هو أن تهمس فى أذن الحياة .. لن أنحنى مادام الله معي ''
ألجمت الصدمة لسانها ولم تقوِ سوى على الحملقه ببلاهة فى وجوه الحاضرين بينما عقلها يحاول أستيعاب تلك الأحجية التى قيلت أمامه للتو ، وبعد عدة ثوانِ من الصمت أستعاد خلالها كفائته صاحت تقول ساخرة بأستخفاف :
-(( والمفروض أى حد يقول أنا اتجوزت فلانة نقوله مبروك ونسقفله صح ! ، حتى لو كان مش حقيقى !! )) ..
ألتوى ثغره بتلك الابتسامة الساخرة والتى لا تصدر منه إلا عند الأستهزاء بالذى أمامه فى حين شقت ذراعه طريقها نحو جيب بنطاله الخلفى مخرجاً منه ورقة مطوية وضعها أمام رائد الشرطة والذى قرأها بصمت ثم هتف يقول معتذراً بود :
-(( أسفين ع الإزعاج يا طاهر بيه .. وربنا يتمم على خير )) ..
صاحت غفران معترضة بأهتياج :
-(( مبروك على أيه يا حضرة الظابط !! أنت بتقول أيه !! بقولك الأستاذ ده خاطف موكلتى وحابسها عنده من إمبارح والدليل اهو .. هى بنفسها واقفه قدامك )) ..
أشارت بأصبعها نحو رحمة التى كانت تحدق فى الأرضية أسفل منها غير قادرة على رفع عينيها فى وجه رفيقتها ومواجهتها، فى حين تتبع هو "طاهر" بعينيه نظرات التى تقف أمامه خارج حدود منزله ثم قال بشماتة موجهاً حديثه لرائد الشرطة :
-(( تقدر تورى الأستاذه وثيقة الجواز المؤقتة عشان تتأكد بنفسها يا حضرة الرائد )) ..
بالفعل أمتثل الأخير لطلبه ممرراً الورقة إليها هى التى سحبتها من يده بعنف تقرء محتواها بعيون جاحظه وبعد الانتهاء من قرائتها مرة بعد مرة رفعت رأسها للمرة الأخيرة تطالع رحمة التى كانت تراقبها بأعين دامعة بينما شفتيها تتحرك فى أعتذار صامت هزت غفران راسها على أثره متفهمه وقد أستسلمت للأمر الواقع .
فى وقت باكر من صباح ذلك اليوم :
أستيقظ جواد على صوت أهتزاز هاتفه النقال حيث يحاول محامى الشركة التواصل معه منذ بدء النهار ، قطب جبينه بقلق وهو يرى كم الرسائل الألكترونية الظاهرة على شاشة هاتفه وسرعان ما عاود الأتصال بالأخير الذى هتف يقول معتذراً بنبرة عملية جامدة :
-(( جواد بيه .. بعتذر عن أزعاجك فى الوقت ده .. بس طاهر بيه تليفونه مقفول ولازم حضرتك تعرف باللى حصل .. اسهم شركتنا النهاردة نزلت أكتر من النص )) ..
هتف جواد مستنكراً بضيق :
-(( النص !!! )) ..
أجابه المحامى مؤكداً بأيجاز :
-(( أيوة النص .. الفيديو اللى أنتشر إمبارح مع الصور أثر على أسهمنا النهاردة بالسلب .. وأنا حبيت أبلغ حضرتك عشان تتصرف )) ..
أصغى جواد إليه بأنتباه تام متسائلاً بعدها بأندهاش :
-(( فيديو أيه ؟!! )) ..
أجابه المحامى شارحاً :
-(( فيديو طاهر بيه والبنت .. الدنيا مقلوبة من بليل حضرتك .. بس متوقعناش انها تأثر علينا بالشكل الكبير ده .. ياريت لو نجتمع فى أقرب فرصه ونقرر هنعمل ايه )) ..
تحدث الاخر قائلاً بنبرة رسمية :
-(( طب اقفل وأنا هتصرف )) ..
انهى مكالمته الهاتفية وفتح رسائله يشاهد صور طاهر وهو يجر أمرأة ما ويضعها قسراً داخل سيارته ، وعند تدقيق النظر لم تكن تلك الفتاة سوى المتهمة فى قضيه شقيقه ، هتف جواد بعصبيه بينما أنتفض خارجاً من الفراش :
-(( يا نهار أسود ومنيل !! .. ده خاطفها بجد )) ..
أسترعى حركته العنيفة تلك أهتمام زوجته التى فتحت أهدابها تسأل بفضول :
-(( حصل أيه يا جود )) ..
اجابها بحدة متأثراً بما رأه للتو وهو يركض نحو خزانة ملابسه يرتدى أول شئ تقع عليه عينيه :
-(( طاهر .. خطف البنت اللى كانت محبوسه فى القضيه أياها وحد صوره .. والفضيحه فى كل حته .. لازم أروح ألحق الدنيا )) ..
هرول راكضاً بعد أنتهاءه من ارتداء ملابسه نحو الخارج ومنه إلى حيث سيارته وعندها أوقفه صوت طفولى ناعم يهتف من خلفه :
-(( بابى .. صباح الخير )) ..
ألتفت ينظر للخلف بحب قبل ان يعود ويركع أمامها طابعاً قبله أبوية حنونه فوق كفيها الصغيرين وقائلاً بشغف :
-(( صباح الخير يا عيون بابى .. ها قوليلى رايحة الحضانة )) ..
أومأت طفلته برأسها مؤكدة عدة مرات بخفه قبل أن تعاود الحديث بنبرتها الغير مكتملة راجية :
-(( بابى ممكن أطلب حاجة .. عايزة أروح النادى ألعب مع صحابى .. ولولى قالتلى أستأذن منك الأول )) ..
أبتسم بحب وهو يستمع إلى حديثها الناعم ثم أجابها موافقاً بحنو :
-(( بس كده بسيطه .. روحى انتى الحضانة دلوقتى وأنا هكلم عليا .. وأول ما تخرجى من باب الحضانة حتلاقيها قدامك وتحت امرك )) ..
صرخت طفلته بحماس قبل أن تسارع فى أحتضانه بذراعيها الصغيرتين وشفتيها تطبع قبلة ممتنة فوق وجنته الخشنة أستقبلها هو بسعادة قبل مضيه مستأنفاً طريقه.
أما بداخل منزله ، كان طاهر يذرع غرفة مكتبه ذهاباً وإياباً بأنشغال حيث تفكيره منصب كاملاً على تلك المعضلة الصعبة والتى أوقع نفسه بها بكامل أرادته وقتما تخلى عن حذره ، اللعنة على غضبه الذى يفقده السيطرة على الأمور كما يخبره جواد الذى أقتحم الغرفة مندفعاً وهو يصيح بأهتياج :
-(( أنا خلاص تعبت من عمايلك .. لحد هنا وكفاية )) ..
ألتفت طاهر ينظر نحوه مستمعاً إلى حديثه بهدوء فهو يعطيه الحق كاملاً فى غضبه حيث أنه لازال يلوم نفسه على ما حدث لذا قرر تجاهله وتركه يعبر عما بداخله، بينما أستطرد جواد صياحه الحاد معاتباً بقوة :
-(( أنا مبقتش عارفك .. أنت أستحاله تكون طاهر العاقل الرزين اللى يحكم بلد بحالها بعقله .. بقيت واحد مندفع .. أنانى .. لا الأسم ولا العيلة لايقه عليه )) ..
كور الاخر يده بعدما وضعها بجانبه محاولاً السيطرة على ردات فعله التى تزداد حدة كلما أستطرد جواد فى معاتبته ، وطارداً من داخله تلك الرغبة الملحة فى لكم إبن عمه وجعل أنفه ينزف دماً ، وبدلاً عن ذلك أحاد برأسه بعيداً عنه وسار نحو الأريكة الموضوعة بركن الغرفة يجلس فوقها واضعاً ساق فوق الاخرى بعدم أهتمام ، منتظراً انتهاء نوبه الصياح ذلك الأمر الذى أدى إلى زيادة غضب جواد فأستطرد يصيح بنبرة حانقة :
-(( عظيم .. البيه كمان مش مستنضف يرد عليا )) ..
رفع طاهر رأسه ينظر إليه بأعين خاوية قبل أن يقول بهدوء لا يتناسب بما يموج بداخل صدره :
-(( خلصت ؟! )) ..
أرتمى جواد بجسده فوق الكرسى المقابل له ثم هتف يجيبه بهدوء نسبى :
-(( خلصت .. بس قولى هتحل أزاى اللى حصل عشان نرجع أسهمنا فى البورصة تانى )) ..
حك طاهر مؤخرة رأسه بأحدى كفيه قبل تنهده بحيرة ، ولأول مرة بعد مطالعة محياه شعر جواد بأضطراب الاخير فعاود يقول داعماً بثقة :
-(( أنا طبعاً معنديش شك فيك لحظة واحدة .. وعارف انك قدها ومش دى أول مرة نقع ونقوم .. بس زعلان منك عشان مش ده طاهر اللى كلنا نعرفه .. ولازم تفوق بقى عشان نفسك وغيرك وتنسى كل ده عشان تعرف تعيش )) ..
فتح طاهر فمه عدة مرات قبل معاودة غلقه من جديد يحاول أنتقاء كلمات مناسبة تعبر عما بداخله ، فجواد مرآته الثانية ، وظله الذى يرى من خلاله السئ قبل الحسن ، وعندما أوشك على الحديث قاطعه صوت مديره منزله تهتف بقلق بعد أستئذانها فى الدخول :
-(( طاهر وجواد بيه .. أسفة ع المقاطعة بس فى حد بيتصل على تليفون البيت بعد ما حاول على المحمول وكان مغلق وأسمه خليل ومصمم يكلم حضرتك ضرورى جداً )) ..
هتف طاهر قائلاً بلهفه شديده :
-(( هاتى التليفون بسرعه )) ..
كان خليل هو رجل العائلة فى الداخليه حيث يمدهم بكل الأخبار الخاصه بهم من قريب أو من بعيد حتى قبل حدوثها ، أجابه طاهر مترقباً فى حين تحدث الطرف الاخر محذراً بأقتضاب :
-(( طاهر بيه .. فى حاجة لازم أحذر حضرتك منها ضرورى .. فى محامية أسمها غفران حسين مقدمة بلاغ فيك بأختطاف أنثى جبراً .. المحضر أتحرك وأظن خلال ساعتين بالكتير هتكون قوة عندك .. أنا هحاول أأخرهم على قد ما اقدر لحد مانت تتصرف )) ..
أغلق طاهر الهاتف وقد تجهمت ملامحه عن ذى قبل ، أما عن جواد الذى كان يتابع تبدل ملامح شريكه بأهتمام كامل هتف يتسائل بقلق :
-(( حصل أيه يا طاهر ؟! .. خليل عايزك فى أيه ؟! )) ..
وكأنه بسؤاله ذلك أعاده إلى أرض الواقع ، هز رأسه عدة مرات مؤكداً بأصرار ثم ربت على كتف جواد بقوة قبل أن يتحدث قائلاً بغموض :
-(( بص هديك عنوان .. تروح تجيب واحد أسمه فؤاد من العنوان ده وتجيلى فى أسرع وقت .. ولو أعترض قوله حياة بنت أخوك فى خطر .. مش هأكد عليك يا جواد تجيبه وترجعلى فى أسرع وقت )) ..
أنهى جملته وهرول للخارج دون الأستماع إلى أعتراضات جواد أو تساؤلاته حيث لديه وجهه محددة .
وفى داخل تلك الغرفة التى ظلت حبيستها منذ البارحة ، حاولت رحمة رفع جسدها المتثاقل من فوق الفراش والأعتدال فى جلستها بمجرد أستماعها لوقع خطوات أمام باب الغرفة تحسباً ، فى حين دلفت مدبرة المنزل إلى الداخل بعدما دفعت الباب بأحدى ساقيها فذراعيها مشغولة بحمل صينية طعام ، وبعدما وضعتها على طرف الفراش فالغرفة لم تكن واسعة إلى حد وجود طاولة بداخلها وعليه كان هذا الحل الوحيد المتاح أمامها ، رفعت رأسها تتأمل تلك الضيفة بتركيز تام ، حيث عقلها مشغول بمحاولة تذكر أين رأتها من قبل ، فملامحها تبدو مألوفة بنسبه كبيرة ، راقبت رحمة تأمل الأخيرة لها بأرتياب لاحظته أم الحسن فسارعت تقول بود بعدما فشلت فى التوصل إلى ما يهدء نوبة فضولها :
-(( أنا جبتلك الفطار أهو .. كفاية أنك نمتى إمبارح من غير عشا )) ..
حركت رأسها رافضة بأمتعاض فبعد تلك الليلة البائسة التى قضتها ما بين المرحاض تخرج ما فى جوفها والأندثار بداخل الفراش شاعرة بالبرودة تنخر عظمها بسبب أصابتها بالحمى ، أخر ما تود التفكير به هو الطعام ، وأمتثالاً لتعليمات مرؤسها والتأكيد عليها فى تناول ضيفته الطعام أصرت "أم الحسن " على وضع الطعام داخل فمها إجباراً ، وما هى الأ دقائق معدودة وكانت رحمة تركض فى اتجاه المرحاض مرةً أخرى ، راقبت المدبرة ضيفتها وما تعانى منه ثم هتفت قائلة بقلق :
-(( يا خبر أبيض !! .. أنتى تعبانه ولا أيه ؟! )) ..
صارت رحمة إلى الفراش بأعياء ثم أجابتها وهى ترتمى فوقه بعدما خارت قواها :
-(( مجرد برد بس مش أكتر )) ..
ردت مدبرة منزله لأئمة بإشفاق :
-(( طب ليه يابنتى مقلتيش من بدرى .. لا حول ولا قوة إلا بالله يارب !! .. ثوانى أروح أبلغ طاهر بيه ولا أشوفلك حاجة تاخديها تريحك )) ..
أخر شئ تود معايشته ذلك اليوم هو أخباره بمرضها حتى يشمت بها لذا أنتفضت تحتضن كفها بلهفه وتستوقفها قبل أن تقول برجاء :
-(( لا عشان خاطرى متبلغيش حد بحاجة .. أنا بس عايزة أروح وهبقى كويسه .. ساعدينى أمشى )) ..
قاطع حديثهم طرقة خافتة فوق باب الغرفة يليه دخوله ، وبعدها أشار برأسه للخارج بعدما تحدث آمراً بأقتضاب :
-(( سبينا لوحدنا شوية )) ..
أنسحبت أم الحسن للخارج تنفيذاً لأمره بعدما أومأت برأسها إيجاباً ، تاركة الأخرى تنتفض داخلياً وخارجياً فى صحبته وقد حاولت أخفاء ذلك بضم جسدها بذراعيها بعدما تأكدت من أحكام حجابها فوق رأسها، أنتظر هو حتى أُغلق الباب من خلفه ثم تحدث يقول مباشرةً دون مقدمات :
-(( محاميتك شاطرة أوى .. أفتكرت لما قدمت بلاغ فيا ونشرت كام صوره أنها كده بتنقذك .. غشيمة )) ..
نظرت إليه رحمة بعدم فهم وقد أختفت المسافة ما بين حاجبيها فأستطرد هو يقول بلا مبالاة كأنه يحادث نفسه :
-(( متعرفش أنها ضرتك أكتر )) ..
أبتلعت رحمة لعابها بصعوبة بالغة وبدءت خفقاتها فى الأزدياد قبل أن تسأله هامسة بتوجس :
-(( قصدك أيه ؟! )) ..
ألتوى ثغرة بتلك الأبتسامة التى أصبحت من خلال اللقاءات القصيرة بينهم تعرف مغزاها جيداً ثم أردف يقول بنبرة هادئة ولكن حادة كالسيف :
-(( يعنى أنتى مصممة تأذينى .. مش بس أذتينى فى أعز ما أملك وقتلتى اخويا وخرجتى منها .. دلوقتى بتأذينى فى أكل عيشى وأسم عيلتى اللى تعبت فيه .. تفتكرى الحلول اللى قدامى أيه ؟! )) ..
حركت رأسها جاهلة بقلق فأردف هو يقول مقتضباً بحزم :
-(( الجواز )) ..
أصدرت ضحكة مستهزءه خافتة تجاهلها قبل أن يضيف مفكراً :
-(( عمك فى طريقه لهنا ومعاه بطاقتك .. والمأذون ومعاه شاهد برضه فى طريقهم للوصول .. معتقدش هنحتاج حاجة تانى )) ..
أثار حفيظتها بروده فهتفت تقول مستنكرة بحدة :
-(( أنت مجنون !! .. جواز أيه اللى بتتكلم عنه ده !! .. وكأنك لما تقولى يلا نتجوز .. هقولك أوك .. ده أسعد يوم فى عمرى !! .. لا بجد ضحكتنى )) ..
قطع المسافة الضئيلة بينهم فى خطوة واحدة ثم قال بشراسة بعدما توقف أمامها :
-(( متختبريش صبرى معاكى أكتر من كده .. ومتتغريش بسكوتى عليكى لانك ست .. وإذا كان تارى ميتاخدش منك ففى غيرك اطفى نارى بيه )) ..
سألته لاهثه بأرتياب :
-(( قصدك أيه !!! )) ..
أجابها بنبرة كراهية واضحة :
-(( قصدى معروف مش محتاج تفسير .. وأنا مش هخسر أكتر من اللى خسرته بسببك .. وإذا كان موتك راحة فأنا مش هنولهالك .. بس هحرق قلبك وأعيشك نفس نارى )) ..
اومأ برأسه مؤكداً بأصرار بعد رؤيته لنظرة الخوف التى طلت من داخل عينيها قبل أن يستطرد قوله مضيفاً بحقد :
-(( عمك أسمه فؤاد مش كده ؟! .. ساكن فى المعادى وعنده ٣ ولاد وبنت .. نستثنى البنت وكده يتبقى .. ٣ ولاد وهو ونخلى مصطفى الأخير .. يادوب دول كلهم قصاد عمرو .. وده اللى يكفينى )) ..
شهقت بذعر غير مصدقة لما ينطق به فمه ، فى حين ظل تهديده يضرب رأسها مرة بعد مرة دون توقف ، أفراد عائلتها بأكملها تحت نيرانه ورحمته !! ، صرخت أسمه تستوقفه بلهفه حينما أستدار بجسده نحو باب الغرفة أستعداداً للخروج ثم قالت موافقة بتوسل :
-(( موافقة .. موافقة على كل طلباتك بس عيلتى لأ )) ..
أدار رأسه جانباً ينظر إليها ثم قال آمراً بنبرة المنتصر ومن بيده مفاتيح الحكم :
-(( هبعتلك حاجه تلبسيها .. وساعه بالكتير والأقيكى برة .. قاعدة مستنية كتب كتابك )) ..
وبعد أقل من ساعتين كان الجميع يجلس حول طاولة عقد القران ، همس فؤاد مستفهماً للمرة الاخيرة بعدم تصديق :
-(( رحمة .. متأكده من اللى بتعمليه ده ؟! )) ..
أجابته قائلة برجاء بينما الدموع متحجرة داخل مقلتيها :
-(( أبوس أيديك أمضى .. أمضى على العقد وبعدها سافر .. خد مصطفى معاك وسافر وأنسانى .. متنزلش أسكندريه تانى يا عمى عشان خاطرى .. سافر وأبعده عن هنا على قد ما تقدر .. وأنا فى أقرب فرصه هحصلكم )) ..
همس عمها مشجعاً بخفوت بعدما لاحظ تركيز نظر الأخر فوقهم :
-(( لو هددك البلد فيها قانون .. متخافيش منه وكلنا معاكى )) ..
حركت رأسها نافية بذعر بعدما شعرت بمراقبة الجالس أمامها لها فى حين هتف المأذون طالباً من الطرفين مد ذراعيهم لبدء مراسم عقد الزواج لتصبح بذلك زوجته رسمياً مع تعديل بسيط ، وهو الأتفاق على وضع تاريخ الأمس بداخل العقد لسد أى ثغرة قانون تعرقل خطته .
عودة إلى الوقت الحالى :
هتف رائد الشرطه لقوته المرابطه خلفه يحثهم على الذهاب :
-(( أظن وجودنا هنا ملهوش معنى .. خلونا نتحرك )) ..
نظر طاهر وجواد إلى بعضهم البعض قبل هتاف الأخير قائلاً بخبث :
-(( بعد أذنك يا سيادة الرائد .. عايز أقدم بلاغ )) ..
نطق جملته الأخيرة وعيونه مسلطة فوق غفران التى بهتت ملامحها بعد فهمها مقصده ، فى حين أستطرد هو يضيف بشماتة :
-(( محضر بلاغ كاذب وأزعاج السلطات فى الأستاذة غفران محى الدين )) ..
حركت رأسها رافضة بعدم تصديق وهى تراه يتقدم منها محاولاً كبت أبتسامته الشامتة خاصةً عندما أجابه الرائد موافقاً بإيجاب :
-(( أتفضلى معانا يا أستاذة على القسم .. وحضرتك يا جواد بيه عشان نكمل باقى الأجراءات )) ..
*******************
جلست حول الطاولة تتابع بعيونها الواسعة طفله أخيها وهى تقفز مع مثيلاتها من صغار السن بمرح والأبتسامة الشغوف تملئ محياها ، فتلك الملاك الصغيرة تعتبر مصدر سعادتها ومنفسها من الضغوط النفسية ، فلقد تربت علياء وترعرعت على حنان شقيقها وحان الأن رد جميله ذلك فى طفلته الناعمة ، قاطع تأملاتها رنين هاتفها معلناً عن أتصال هاتفى جديد ، مالت بجسدها للأمام تطالع شاشة هاتفها وتستطلع هوية المتصل ثم أجابت برقة صوتها المعتاد قائلة :
-(( ألو .. أيوه يا محمد )) ..
هتف يتسائل بحدة بعد أستماعه إلى أجابتها :
-(( أنتى فين ؟! )) ..
أخذت نفساً عميقاً ثم أجابته بأقتضاب :
-(( أنا فى النادى مع لينة زى ما قلتلك )) ..
تفاجئت به يصيح مندفعاً بعصبية :
-(( زى ما قلتلك ها !! .. قصدك زى ما بعتيلى رسالة وانتى برة )) ..
أغتاظت من نبرته الحادة وتلميحه المبطن فسارعت تستفسر بحنق :
-(( قصدك أيه بالظبط ؟! )) ..
أجابها مفسراً بهجوم :
-(( قصدى أنتى عرفاه .. طبعاً مانا أخر من يعلم !! .. تتفقى وتقررى وتخرجى .. والبيه المتغرب ده مش مهم .. تبعتيله رساله تقضية واجب قبل ما تنزلى صح )) ..
شعرت بقبضه تعتصر قلبها وهى تستمع إلى أتهماته الباطله مع وخز الدموع يضرب داخل مقلتيها فصمتت لوهلة تسيطر خلالها على أنفعالاتها ، مفسراً هو صمتها ذلك بالعجز فأردف يقول كمن يمتلك الحق :
-(( طبعاً مش لاقيه حاجة تدافعى بيها عن نفسك يا علياء هانم )) ..
أشعل فتيل ثورتها بكلماته الأخيره فسارعت تصيح بكراهية :
-(( أنت أيه مبتتعبش !! يا أخى حرام عليك ده أنا لو جماد كنت رحمتنى !! .. تخطيط أيه وأتفاق أيه !! .. أنا رنيت عليك وانت مردتش فبعتلك رساله أبلغك بيها .. وبعدين أنا مبعتلكش قبل ما أنزل لأن فعلاً الموضوع جه صدفه .. وأول ما جواد كلمنى فون وطلب منى حاولت أبلغك ولما أتاخرت نزلت عشان ميعاد البنت !! .. أكيد مش هسيبها فى الشارع لحد مانت ترد عليا .. ده غير انى مش فى موضع أتهام أساسا عشان أبررلك )) ..
تهادى إلى أذنيه صوت أنثوى ناعم قادماً من الطاولة الخلفية ، جعله يترك ذلك الملف النفسى المعقد الغارق به منذ الصباح ويستمع إليها مشدوهاً بكل حرف يخرج من فمها ويكأنه ألة موسيقية منفردة تعزف على أوتار قلبه كلاً على حدا ، كأحدى سميفونيات موتسارت الأحدا وأربعون التى تخطف أنفاسه كلياً وتتركه هائماً محلقاً فى عالم أخر من السحر ، تنهدت وتنهد معها شاعراً بنيران حرقتها تخترق صدره ، ودون وعى منه وجد أذنه ترهف السمع لمزيد من حديثها الغاصب تارة والمحبط تارة والساخر تارةً أخرى متجاوباً معها ومنصتاً إليها بكل حواسه ، ترتفع وتيرة أنفاسه وتنخفض تباعاً لها ، مقاوماً رغبة يائسة فى الالتفات ورؤية صاحبة الصوت العذب ، الذى أسر لبه وتركه يصارع رغبات دُفنت منذ زمن ، حاقداً على ذلك الأحمق الذى تتجادل معه بضيق ، همست بعجز فتوقفت أنفاسه ، ولم تعد سوى بألتفاتة منه إليها يطالع بها محياها ، بعيونها الكبيرة الواسعة اللامعة بحزن، وشعرها البنى المسترسل بأستقامة ، وأناملها الطويلة الناعمة التى تخفى بها فمها عن الجميع ، غير شاعرة بذلك الذى يحدق بها مفتوناً ، همست تقول بحزن :
-(( محمد لو سمحت هقفل دلوقتى عشان أشوف لينة واكلمك تانى )) ..
اغلقت هاتفها ووضعته فوق الطاولة ثم سحبت نفساً عميقاً شعر به داخل صدره ، ومسحت بكفها المرتجف وجهها فشعر بلمستها تداعب جبهته ، ثم أبتسمت بعدما تركت مقعدها وأنحنت بجسدها لإستقبال طفلتها التى تركض نحوها بسعادة فوجد نفسه دون وعى منه يماثل حركتها ويقف هو الاخر يتابعها فى صمت ، طبعت علياء قبلة ناعمة فوق وجنه الطفلة التى تعلقت بعنقها غير مدركة لذلك الذى يراقبها عن كثب بشغف تام متحسراً على تلك الحورية الناعمة والتى تنتمى لرجل أخر "زوج" لا يُقدر قيمتها ، مفيقاً من شروده على أصبع الطفلة موجهاً نحوه وهى تغمغم بأستغراب :
-(( لولى .. الراجل ده بيبص علينا )) ..
تتبعت علياء إشارة طفلة أخيها متفاجئة بشاب فارع الطول ذو جسد رياضى وعيون كواحة خضراء مع إبتسامة بيضاء واسعة ينظر نحوهم ، تنحنحت بحرج ثم قالت مؤنبة :
-(( لينة .. عيب نقول كده على حد .. اعتذرى لأونكل وقولى سورى )) ..
همست الطفلة من خلفها موجهة حديثها له :
-(( سورى يا أونكل مش أقصد )) ..
أبتسم بضياع وكأن الحروف قد هربت منه ، ففى حضرة تلك الفاتنة لا شئ من الحديث كافياً لها ، أردفت لينة تقول متذمرة :
-(( لولى .. أنا جعانة )) ..
مسحت علياء على شعرها وجبهتها بحنو ثم أجابتها مدللة :
-(( حاضر يا عيون لولى .. بس بابى طلب نتغدى فى البيت كلنا سوا .. أيه رأيك نروح دلوقتى ونرجع بكرة ؟! )) ..
أومات الطفلة برأسها موافقة فشرعت برفع حقيبة يدها وهاتفها من فوق الطاولة ثم قالت مودعة بأحترام بعدما رمقته بنظرة أخيرة :
-(( عن أذن حضرتك ... )) ..
ألقت بجملتها المهذبة تلك ثم أستدارت مبتعدة عنه بينما همس هو قائلاً وكفه تعبث بمؤخرة رأسه بأفتتان:
-(( يحيى .. أسمى يحيى )) ..
********************
واصلت غفران ركضها خلفه هاتفه تحاول أيقافه وإثناءه عن موقفه المتعنت :
-(( يا حضرت .. لو سمحت .. ممكن تقف وتكلمنى زى الناس !! )) ..
أستدار جواد الذى كان يسير بعُجالة خارج المخفر بعدما أنتهى من مهمته ينظر بعلياءه إلى تلك القصيرة التى تقف أمامه بتحدى ثم أجابها بأزدراء :
-(( أفندم .. أتفضلى عشان معنديش وقت )) ..
أخذت نفساً عميقاً مبتلعة معه تعقيب لاذع كاد يفلت من بين شفتيها ثم قالت وهى تضغط على حروف كلماتها وتلوح بيدها فى الهواء :
-(( أنت بجد ناوى تكمل الأجراءات دى ؟؟! )) ..
أجابها ساخراً ومقلداً نبرتها الحادة :
-(( أنتى شايفة أيه ؟! يا أستاذة )) ..
أغمضت عينيها لوهلة مذكرة نفسها بمكان تواجدهم وخطورة أنفلات أعصابها ثم قالت بحنق :
-(( يعنى أنت ناوى تحبسنى بجد وتكمل المحضر !! وأنت عارف أن صاحبك الغلطان مش أنا !! زى مانت عارف كويس أنه مش بلاغ كاذب والله أعلم عملتوا أيه فيها عشان توافق تتجوز بالطريقة المريبة دى !! )) ..
ضيق عينيه فوقها مستمعاً إلى حديثها العدائي ثم أجابها قائلاً بنفاذ صبر :
-(( وأنتى مفكرتيش فى الحبس قبل ما تاخدى الخطوة دى ضدنا وتبلغى !! أو قبل ما تنشرى الصور فى كل مكان وتضرى ناس ملهاش ذنب معاكى عشان تعملى شو أعلامى !! )) ..
صمت لوهلة مدعياً التفكير ثم أستطرد يقول شامتاً بعدما مط شفتيه بتهكم :
-(( أعتقد أه هسيبك تتحبسى مع أنى فى الحقيقة مليش فى القانون أوى ومعرفش العقوبة أيه .. أنتى أدرى منى فى الحاجات دى يا أستاذه )) ..
غمز بعينيه بعد أنتهاء حديثه ثم أستدار بجسده مستأنفاً طريقه نحو الخارج تاركها تضرب الأرض بقدميها غيظاً بعدما عجزت عن أقناعه ، بينما توقف هو فى الخارج معطياً أوامره لمحامى الشركة الذى كان ينتظره بجوار سيارته :
-(( خليك هنا كم ساعه وتتنازل عن المحضر .. مش عايز شوشرة دى لسانها طويل .. هى قرصة ودن مش أكتر )) ..
أومأ الرجل برأسه موافقاً بخنوع ثم أغلق باب السيارة خلف مخدومه وأشاح بكفه له مودعاً
*******************
فى أحد المقاهى زهيدة الثمن والمخفية عن الأنظار نسبياً ، جلست رنا فى مقابلة رائف الذى كان مشغولاً طوال الوقت بمطالعة هاتفه وتصفح مواقع التواصل الاجتماعى مترقباً أى جديد قد يصدر عن ذلك الحدث الذى يشغل تفكيره منذ البارحة ، تأفأفت رنا بنفاذ صبر وهى تتململ فى مقعدها الأمر الذى جذب أنتباهه فسارع يقول معتذراً بنعومة :
-(( أنا أسف بس شغل مهم .. هقفل التليفون وأكون معاكى )) ..
أومأت برأسها موافقة بجمود فأردف هو يقول بنبرة حريرية ناعمة وكفه تشق طريقها نحو خاصتها الموضوعة فوق الطاولة :
-(( وحشتينى على فكرة .. وبعدين كان لازم أهددك يعنى عشان أعرف أشوفك ؟! )) ..
أجابته هامسة بحذر وهى تسحب كفها من فوق الطاولة وتنظر حولها يميناً ويساراً بقلق :
-(( رائف بلاش عمايلك المجنونة دى .. ومتنساش أنى ست متجوزة وأننا فى مكان عام !! )) ..
هتف مستفسراً بحنق :
-(( يعنى أيه متجوزة !! أنا معنديش فى قاموسى الكلمة دى ومش ذنبى أنى حبيتك وأتعلقت بيكى من أول نظرة .. ومش ذنبى برضة أن هو شافك قبلى .. غير أنى وافقتك على المكان المريب ده عشان هاجس متجوزة )) ..
نطق جملته الأخيرة وهو ينظر بأزدراء إلى المكان من حوله فسارعت هى تقول ملطفة الأجواء :
-(( يا رائف مانت عارف أن وجودنا فى النادى خطر .. علياء دايماً هناك وصحابها يعنى ممكن فى أى لحظة حد يشوفنا ويبلغها .. ساعتها هيبقى موقفى أيه .. وبعدين أنا مكنتش ناوية أقابلك غير بعد مانت هددتنى أنك هتجيلى البيت )) ..
هتف يجيبها بمكر :
-(( قلتلك سبيه وأطلبى منه الطلاق .. وبعدين مانا أقترحت عليكى كذا مرة نتقابل فى البيت وانتى اللى رافضة )) ..
همست معترضة بأمتعاض :
-(( لا طبعاً أنت بتقول أيه !! أسيبه أزاى ولينة !! .. وكمان أنت متعرفش جواد ممكن يعمل فيا أيه لو بس شم خبر باللى بينا ده .. يبقى أجيلك البيت أزاى )) ..
رمقها رائف بنظرة متفحصة قبل أخراجه لصندوق مخملى ناعم من أحدى جيوب بنطاله ووضعه فوق الطاولة أمامها ، فتحت جفونها بأنبهار تطالع ذلك السوار الألماسى الذى يضوي أمام عينيها بلا توقف غير قادرة على التعبير بينما شقت يديها الطريق نحو الطاولة تلتقطه وتضمه بلهفة ، تابعها هو بنظراته والأبتسامة العابثة تملئ محياه ، فتلك الطامعة الجالسه أمامه لا تأبه سوى بالمال وما أيسره بالنسبة إليه ، ليقاطع تفكيره سطوع شاشة هاتفه فى أتصال هاتفى هام ، أجاب عنه بأنفاس مكتومة مستمعاً إلى الطرف الأخر ثم أنتفض هاتفاً بصدمة وعيونه تطلق بشرر :
-(( اتجوزها !!! .. يعنى أيه أتجوزها !!! .. أمتى وأزاى أتجوزها !!! .. أستحالة !! .. دى بالذات أستحالة .. أقفل .. أقفل وأنا جايلك الشركة مسافة الطريق )) ..
رفعت رأسها تراقب ردود فعله العصبية بتفكير مضيقة عينيها فوقه تحاول ربط أطراف الخيوط معاً وعندما لاحظ هو ذلك سحب نفساً عميقاً يخفى به غضبه ثم قال معتذراً بعُجالة قبل ركضه نحو الخارج تاركها جالسة بمفردها :
-(( معلش بس حصلت مشكلة فى الشغل ولازم أتحرك دلوقتى )) ..
********************
فى المساء أقتحم الغرفة المقيمة بها دون أستئذان ومن حسن حظها كانت قد أنتهت من ربط حجابها للتو فسارعت تقول بحدة أعتراضاً على أقتحامه لخصوصيتها وواضعة قواعد بينهم :
-(( أيه قلة الذوق دى !! .. محدش علمك تستأذن قبل ما تدخل أوض الناس ؟! )) ..
حدجها بعدة نظرات مزدرية قبل أن يقول بأستهزاء :
-(( أستأذن عشان أدخل بيتى !! وأوضتى !! على مراتى !! )) ..
قاطعته هاتفه بحنق :
-(( مراتك أيه أنت بتحلم !! )) ..
سار بخطوات صغيرة بطيئة حتى وصل إليها ثم قال بعدما أنحنى برأسه نحوها يطالعها بأشمئزاز جلى :
-(( مش قصدى اللى فى دماغك .. صدقينى .. أستحالة ألمس واحدة أيد راجل أتمدت عليها قبلى .. فمابالك بواحدة معرفش حتى عددهم كام )) ..
رفعت ذراعها تصفعه فسارع هو بالقبض على معصمها بقوة حتى بدءت تتأوه بخفوت وهى تحاول الأفلات منه دون جدوى ثم أردف يقول بعدائية صريحة :
-(( أنا بكرهك .. ومفيش حاجة فى الدنيا ممكن تخلينى أقرف بعد وقوفى قدامك ولمسك .. هى أن أسمك بقى مرتبط بأسمى )) ..
دفع ذراعها بقوة ثم أستطرد يقول بحنق :
-(( ومش جاى هنا أبداً عشان أتساير معاكى .. أنا جاى أعرف الحقيقة .. )) ..
قالت معقبة على حديثه بتوسل :
-(( مادام قرفان منى طلقنى .. اللى عايزه حصل وجوازنا أتشهر والناس كلها عرفت بيه والمحضر أتقفل .. سيبنى بقى )) ..
أجابها واعداً بأصرار :
-(( قوليلى الحقيقة كلها وهسيبك دلوقتى حالاً .. قوليلى قتلتيه ليه ولحساب مين وأنا أديكى حريتك قبل النهار ما يطلع )) ..
حركت رأسها بقلة حيلة ثم أجابته قائلة بخفوت :
-(( مقتلتش حد صدقنى )) ..
صاح بغضب وهو يجذبها من مرفقها ثانية:
-(( أومال روحتيله البيت ليه )) ..
أجابته صادقة ببساطة :
-(( عشان أخد منه أوراق العقود )) ..
هدر بها معنفاً ومواجهاً بقوة :
-(( كذابة .. أنتى روحتيله على أساس وعد بينكم أنك تقضى الليلة معاه .. متنكريش هو قالى قبلها )) ..
أرتفعت وتيرة أنفاسها وضاقت رئتيها أمام هجومه الباطل عليها ولم تشعر سوى وهى تجيبه صارخة ومدافعة عن قيمها :
-(( كداااب ومفترى .. وهو اللى متحــــر...)) ..
بترت عبارتها وعضت على شفتيها بندم شاعرة بالضيق من أنفلات اعصابها وخوضها فى سيرة شخص فارق الحياة لغير رجعة ، ثم بدءت تتراجع للخلف بحذر وخوف وهى تراه يتقدم منها وقد نفرت عروقه كاملة وتحول وجهه إلى اللون القرمزي ثم شرع فى جرها خلفه بعنف شديد غير عابئاً بجسدها الذى يترنح من وراءه حتى وصل بها إلى غرفة صغيره داخل حديقة المنزل لازالت تحت الأنشاء ودفعها بها وهو يصيح مهتاجاً بصوته الجهورى :
-(( سيرته أنضف من أنها تيجى على لسان واحدة ***** زيك .. ولولا أنك على ذمتى كنت رميتك فى الشارع للكلاب.. بس لحد ما أعرف منك الحقيقة وأطردك .. هيفضل ده مكانك ومقامك )) ..
صمت لوهلة يستطلع المكان من حوله ثم أردف يقول لاهثاً بتوعد:
-(( ولحد ما تقررى تقولى مين اللى قتله وليه .. وعد .. هخليكى تتوسلى للرحمة )) ..
رفعت رأسها بكبرياء عجيب وكأنه يتجاذب معها أطراف الحديث لا يتوعدها ثم قالت متحدية بقوة وهى تنظر مباشرةً داخل عينيه :
-(( مفيش رحمة بتتوسل .. الناس هى اللى بتتوسل لرحمة .. وأن كنت فاكر أنى عاجزة ومليش حد يسندنى وأنك هتقدر عليا بقوتك وفلوسك ففوق .. أنا معايا اللى أقوى منك ومن كل هيلمانك ده .. معايا اللى خلصنى من المِحنة الأول وواثقة أنه هيخلصنى منك .. ربنا .. ووعد على وعدك .. قبل ما أخلص منك .. أنت اللى هتركع قدامى تطلب الرحمة .. وساعتها مش هتطولها .. )) ..
تراجع للخلف وقد أصابته كلماتها بالتخبط ، فتلك الفاسقة الواقفة أمامه تتحدث بقوة لم يعدها فى غيرها ، قوه أرهبته مع تحدى جعل قشعريرة تجتاح كيانه بأكمله قلقاً من القادم ، بينما أنتظرت هى حتى أختفى عن أنظارها وأرتمت فوق الأرضية الأسمنتية الخشنة تجهش فى البكاء وهى تضرب فوق قفصها الصدرى شاعرة بقلبها يكاد يتوقف عن العمل من ضيق التنفس .
وفى الصباح الباكر جلس فوق فراشه بتأفف بعدما قضى ليلة مؤرقة لم يهنأ خلالها جفناه بنوم هادئ متذكراً نظرتها التى أخترقت داخله وأثارت أغواره دون رفق ، وحديثها الذى أصابه بالأرتباك ، قبل سماعه دوى طرقات عنيفة فوق باب غرفته يليها صوت أم الحسن تستنجد به متلهفة :
-(( ألحقنى يا طاهر .. الهانم مرمية ع الأرض قاطعة النفس )) ..
أنتفض خارجاً من فراشه ومستفسراً بأستنكار وهو يركض خارج المنزل :
-(( يعنى أيه قاطعه النفس يأم حسن ؟! )) ..
أجابته لاهثه حيث تحاول مسايرة خطواته الواسعة :
-(( معرفش .. أنا دخلت أبص عليها زى ما قلتلى لقيتها مرمية فى الأرض ومش بتتنفس وجسمها كله مولع )) ..
صمتت لوهله تلتقط خلالها أنفاسها ثم أردفت تقول نادمة :
-(( ياريتنى مسمعتش كلامها وقلتلك من إمبارح )) ..
سألها مستفسراً بأستغراب ومواصلاً طريقه إليها :
-(( تقوليلى على أيه ؟! )) ..
أجابته بحذر :
-(( بصراحة .. هى كانت تعبانة وعمالة ترجع طول الليل ولما عرفت أتحايلت عليا مقولكش )) ..
تسمرت قدماه فوق مدخل الغرفة وألتفت مهمهاً بصدمة :
-(( بتــ أيه !! )) ..
أجابته مؤكدة :
-(( بترجع )) ..
ترنح جسده بعدم تصديق وشكوكه تعصف به ، إذا الشائعات الأولى صحيحة !! ، وتلك الليلة بينهم أسفرت عن شئ ما ، كيف أغفل عن التأكد مما أستمع إليه حينها ! ، أعاده من شروده صوت مدبرة منزله التى هتفت أسمه بقلق بعد رؤيتها لوجهه الشاحب :
-(( يابنى .. البنت )) ..
حرك رأسه عدة مرات كالمغيب ، ثم ركض يحملها بين ذراعيه ويسير بها إلى داخل المنزل حيث غرفته قائلاً بضياع :
-(( خلى حد من برة يجيب دكتورة نسا .. فى أسرع وقت أتحركى !! )) ..
أطاعته الأخيرة وبعد فترة وجيزة كان يقف أمام باب غرفته بتوتر بينما الطبيبة تفحصها فى الداخل ، وبعد حوالى دقيقتين خرجت الطبيبة تهتف آمره بلوعة وهى تمد يدها بورقة مدون بداخلها أسم عقار طبى :
-(( حد يجبلى الدوا ده بسرعة .. بسررررررعة البنت قلبها هيقف )) ..
ألتقطت أم الحسن الورقة من يديها ثم ركضت إلى الأسفل تاركة مخدومها ينظر إلى الفراغ كالشريد، يسير داخل الممر الواصل لغرفته ذهاباً وإياباً بغير هدى ، منتظراً النتيجة النهائية للفحص ومئات الأفكار والأفكار تلتهم هدوءه وأتزانه ، يحاول يائساً تذكر ملامحها وهل تبدو أمارات الحمل ظاهرة عليها ، قطب جبينه معتصراً ذاكرته وكأن حياته كلها تتوقف على تلك الذكرى ، هل بطنها منتفخ كمثيلتها ممن فى نفس الوضع ؟! ، اللعنة فهى دائما ترتدى ملابس فضفاضة لا يظهر منها شئ ، ثم كيف أغفل محاميه عن ذكر تلك التفصيلة الهامة ؟ ، تُرى لجهله بها هو الأخر أو أخفاها عنه عمداً ، جحظت عيناه وقد لطمته فكرة أخرى ، تلك اللعينة الكاذبة ، لقد أخفت عنه لغاية فى نفسها ، بالطبع ، وهو يتسائل منذ البارحة من أين أتت بكل تلك الثقة التى تتحدث بها ، نعم ، ففى حالة تأكيد شكوكه يصبح زواجه منها باطلاً .