رواية في لهيبك أحترق الفصل الثامن عشر 18 بقلم شيماء يوسف

             

رواية في لهيبك أحترق 
الفصل الثامن عشر 18
بقلم شيماء يوسف



'' وإذا التقينا والعيون روامقٌ
‏صمِتَ اللسانُ وطرفها يتكلمُ
‏تشكو فأفهمُ ما تقول بطرفها
ويردّ طرفي مثلَ ذاك فتفهمُ ''
أستدار بجسده الذى تشنج فى الحال ينظر إليها بتأهب واضح ، ممراً عدستيه الحائرة فوق ملامحها الهادئة بثبات تُحسد عليه ، متجاوزاً تلك التقضيبة الخفيفة التى بدءت تتشكل فوق جبينها وتزداد مع مرور الثوانِ ، قبل هتافه بصوت متوجس يشوبه شئ من العصبية :
-(( قصدك أيه يا أفنان ؟! .. خلاص مش عايزة تقعدى معاها تانى !! ولا عشان بقى عندى بيت فاضى محدش ساكنه ؟! )) ..
-(( آاه .. آاااااااااه )) ..
صرختها المدوية كانت إجابة أكثر من كافية بالنسبة إليه لينتفض من جلسته متسائلاً بفزع :
-(( مالك حصل أيه ؟! )) ..
تلوت فى مقعدها من شدة الألم ، بينما أمتدت يدها تمسد بيأس موضع رحمها قائلة بأنين من بين شهقاتها المتلاحقة :
-(( مش عارفة ، فى وجع هنا جامد أوى )) ..
سألها قلقاً بعجز :
-(( طب أعملك حاجة ؟! ، ولا أنادى على ماما ، ولا نلبس ونروح للدكتورة دلوقتى ؟! )) ..
أغمضت عينيها تحاول السيطرة على ذلك الألم المباغت الذى يضرب جوانب رحمها ثم أجابته بوهن بعدما ارتمت برأسها فوق أحدى ساقيه تستمد القوة منه :
-(( متعملش حاجة ، إن شاء الله شوية ويروح لوحده ، لو متحسنتش هكلم الدكتورة تطمنى وتقول نعمل أيه )) ..
غمغم داعياً بقلة حيلة ، وهو يمد ذراعه نحوها يمسح بكفه فوق خصلاتها المنسابة حول ساقيه بحنان :
-(( يارب ، معلش يا حبيبتى ، يمكن تعبتى بسبب شغل النهاردة ، أرتاحى شوية ومتشغليش دماغك بحاجة ، وإن شاء الله هتبقى كويسة دلوقتى أنتى وأبننا متخافيش )) ..
حركت رأسها بضعف مؤمنة ، ثم عادت لأغماض عينيها وتمسيد بطنها بأصابع مرتعشة من شدة الألم ، وقد تحولت قوتها إلى عجز واضح فى الحال ، وكأنه تذكرة على قدرة من بيده الأمر ، وضعف بُنيتها وحيلتها أمام تصريفه للأمور .
************************************
قفز قلبه بين أضلعه عندما أضاءت شاشة هاتفه بأسمها ، وهوى بين ساقيه بمجرد أستماعه إلى أستغاثها الملهوف ، ثم اجابها بهدوء نسبى بعد أنصاته لأستنجادها به ، وأستجماعه لجزء من ثباته الأنفعالى ، محاولاً بث الطمأنينة إليها من خلال صوته المتحشرج بقلق :
-(( طب أهدى وأنا هكلم حد من اللى برة يجبلك الدكتور حالاً ، بس أستعدى عشان لو أحتاجت تتنقل لمستشفى تكونى معاها لحد ما أجيلكم )) ..
سألته مترقبة بنبرة خافتة متذبذبة :
-(( أنت هتيجى ؟! )) ..
أجابها بتلقائية شديدة :
-(( أكيد مش هسيبك لوحدك معاهم )) ..
غمغمت موافقة بأرتياح ولم تعقب فى حين أردف هو يقول بنبرة متباينة ما بين الرجاء والتحذير قبل أغلاقه الهاتف :
-(( رحمة .. متقفيش مع الدكتور لوحدك .. سمعانى !! .. ألبسى حاجة وخليكى متابعة من بعيد وأنا مسافة السكة وهكون قدامك )) ..
شبح أبتسامة لاح فوق شفتيها سرعان ما وأدتها لعدم معرفة سببها ، ثم أغلقت الهاتف وركضت نحو الأعلى تنفيذاً لوصيته والتى كانت تنتوى فعلها حتى من قبل طلبه ، ثم عاودت الهبوط للأسفل مرة ثانية ، بعد فترة بسيطة ، على صوت جرس باب المنزل معلناً عن أحد الزوار والذى لم يكن سوى قائد حرسه ، جاء ينقل إليها رسالة مقتضبة عن لسان مخدومه مفادها أن الطبيب فى طريقه إليهم ، ثم أنصرف بأحترام بناءاً على رغبة الاخير أيضاً ، ولم يعد سوى عند وصول الطبيب كى يصطحبه للداخل ، أما عن رحمة فبمجرد رؤيتها له يدلف الغرفة بصحبة الحارس بعد فترة لا بأس بها من الأنتظار ، حتى سارعت تستقبله بترحاب وترشده بلهفة إلى حيث الفراش ثم تراجعت بعدها تقف على مسافة كافية منهما ، تتابع من بعيد بأهتمام واضح فحصه لها ، قبل آستدارته فى أتجاهها يقول بنبرة هادئة :
-(( متقلقيش يا فندم ، كومة سكر بس قوية شوية ، السكر أنخفض عندها لأقل من المعدل الطبيعى ، محتاجة بس حقنة "غلوكاغون " ترفع مستوى السكر فى الدم وترجعه لحالته العادية ، وهتبدء تفوق على طول )) ..
قالت بشئ من التوسل :
-(( أعمل كل اللازم يا دكتور ، وشوف حضرتك محتاج أيه ويكون تحت أمرك على طول )) ..
أبتسم الطبيب بود ثم اخبرها وهو يُباشر عمله :
-(( عامل حسابى متقلقيش ، بس هنحتاج محلول كمان ياريت لو حد يجبلى الأدوات ويتركب كزيادة أمان ، وخلال الفترة دى أنا هفضل معاها لحد ما تفوق وأطمن أن حالتها أستقرت )) ..
أومات برأسها موافقة بلهفة ، بينما تطوع الحارس فى الذهاب وشراء ما يلزمه ، وأنسحبت هى من خلفه ، تقف عند مدخل الغرفة ، وتتابع بأحداق مترقبة ، الطريق أمامها ، بعدما نظرت فى ساعة هاتفها ، فها قد أوشكت الساعة على النفاذ ، وعليه تتوقع وصوله فى أية لحظة من الأن ، وبالفعل ، بعد حوالى خمسة عشر دقيقة أخرى من الأنتظار المُهلك ، ارتفعت مع مرورها دقات القلب إلى حد الأختناق ، لمحت طيفه يظهر من بعيد ، بقسماته المنحوتة فى ذاكرتها ، بينما تسمر هو فى منتصف المسافة بينهم ، يطالعها بأشتياق بعدما رأها تقف أمام الممر محتضنة جسدها بكلتا ذراعيها ، تستمد منهما الدفء والأمان ، مفكراً بعجز أن الوقوع فى حبها ، لم يكن سهلاً على الأطلاق ، فهى أستثنائية فى جميع حالاتها ، كبدايات الربيع المختلطة بأواخر أيام الشتاء ، شمسه مشرقة ، بينما هوائه بارد ، صيفيّا داخل بقاع الشمس ، وشتوياً فى ظلالها ، تصيبك بالحرارة والبرودة معاً فى أن واحد ، ثم تُباغتك على حين غرة برياح ترابية ، يليها سحابة ممطرة ، فتختبر فصولها الأربعة فى نفس التوقيت ، وأنت تقف فى منتصف كل هذا ولا تملك بعد ذلك سوى ، الوقوع فى حبها من جديد ! ، وكذلك هى ، يستمر قلبه بالقفز ، طولاً وعرضاً ، بين السماء والأرض ، حتى يصل إليها ، ويستكين تحت أقدامها ، أما بالنسبة إليها ، رحمة قلبهِ المهداة ، فقد أنفرج ثغرها بأبتسامة حنين مع رؤيته يتقدم منها ، لم تستطع أخفائها ، حتى مع توترها الملحوظ الذى أعتلى قسمات وجهها فى الحال ، قبل تعلق أهدابها بحدقتيه البندقيتين الممتزجة بخيوط من العسل الصافِ ، وكأن هناك قوة مغناطيسية تجذبها إليه ، بل وتجبرها على التعلق بخاصته ، وتتركها عاجزة عن فض اشتباكهما ، كلما أرادت ذلك ، لذا أستسلمت لأمرها الواقع ، وتركت عدستيها تتعلق به ، وتروى ظمأ تعطشها لحضوره ، وبعد فترة من الصمت ظلا خلالها يحدقان بأحدهما الأخر ، تفتش هى داخلياً عن إرادتها المسلوبة ، ويبحث هو بصمت عن غضبه منها ، وحق كرامته المهدرة على حساب حديثها السابق ، همس مستفسراً بسؤال متوقع :
-(( دادا أم الحسن عاملة أيه )) .
بالطبع كان يعلم الأجابة مسبقاً من الخارج ، ولكنه أراد الأستماع إليها ، وتنقية حاسته بصوتها المتغلل مسامه ، فتنهدت هى بقوة ثم قالت بضياع :
-(( كومة سكر ، من قلة الأكل ، بس الدكتور بيقول بقت كويسة ، ومستنى تفوق ويطمنا )) ..
أجفل جسدها مع نطقها بأجابتها تلك ثم اردفت تقول بتأنيب واضح للذات :
-(( أنا غلطانة ، هى تعبت من إمبارح وأنا مهتمتش ، عقلى كان مشغول بيــ..... )) ..
أبتلعت باقى جملتها بداخلها ، بينما تأهبت حواسها تلقائياً ، تحفزاً للمسة كفه الناعمة ، حينما أمتدت ذراعه نحوها يحضتن يدها الباردة بين كلتا يديه مطمئناً ، ومقاطعاً خلوتهم بعد لحظات ، خروج الطبيب قائلاً بخيلاء :
-(( حمدلله على السلامة ، المدام فاقت خلاص وتحليل السكر وضح وصوله للمعدل الطبيعى ، تحب أستنى معاكم لما المحلول يخلص ولا فى حد يعرف يتعامل معاه ؟! )) ..
هرولت رحمة فى أتجاه الغرفة بعدما أفلتت كفها من بين خاصته على مضض ، فى حين أجابه طاهر مؤكداً بثقة :
-(( لا يا دكتور ، حضرتك تقدر تتفضل ، وأنا هكمل من بعدك متقلقش ، وشكراً على تعبك معانا )) ..
حرك الطبيب رأسه مودعاً بأبتسامة واسعة ، بينما دلف طاهر الغرفة من بعده ، يطالعها وهى تركع أمام فراش مدبرة منزله ، وتغمغم معتذرة بصوتها الباكِ :
-(( أنا أسفة أنى أهملتك ، حقك عليا متزعليش )) ..
أزدادت أبتسامة أم الحسن أتساعاً ، ثم أجابتها بوهن معترضة بعدما رفعت كفها تمسح فوق وجنتها بحنان :
-(( وأنتى أيه دخلك فى اللى حصلى بس يا بنتى ؟! ، ده قضاء وقدر ، وبعدين الحمدلله جت سليمة وأنا قدامك زى الفل أهو )) ..
رفعت نظرها نحو المستند بجسده فوق حافة الباب يراقبها بأعين لامعة ، ثم استطردت تقول بنبرة ذات مغزى :
-(( أنا اللى أهملت وسببت ده كله لنفسى ، بطلى تلومى نفسك على ذنب مرتكبتهوش )) ..
أرتفعت زواية فمه بربع أبتسامة ساخرة ، عندما وصل إليه مغزى حديثها بوضوح ، ثم أعتدال فى وقفته وتقدم منها ، قائلاً بنبرة خفيفة بعدما أنحنى بجزعه وطبع قبلة حنونة فوق كفها ، جعلت عيون من تتابعه فى صمت تتسع بأندهاش :
-(( حمدلله على السلامة يام الصابرين )) ..
ردت أم الحسن بحنين واضح :
-(( وااااه ، فكرتنى بالحبايب )) ..
أستدارت برأسها توجهه باقى حديثها إلى رحمة الجالسة أسفل قدمها ، ثم أستطردت تضيف بَوجْد :
-(( محدش كان يقولى كدة بعد أمى ، غير الحاج حكيم ، أبو طاهر الله يرحمهم )) ..
تنهد هو الأخر بأشتياق ثم قال بنبرة خفيضة :
-(( الله يرحمه ، محتاجة منى حاجة ؟! )) .
سارعت أم الحسن تسأله بلهفة :
-(( أنت ماشى ولا أيه )) ..
رفعت الاخرى رأسها بحدة ، تطالعه بصمت ، مترقبة أجابته بأنفاس مكتومة ، فى حين أنزلقت عيناه على الفور إليها ، يحدق بها هو الأخر بثبات ، قبل قوله بعد فترة من التفكير دون أشاحة نظره بعيداً عنها :
-(( لا ، قاعد معاكم ، أحتياطى )) ..
حررت أنفاسها المحبوسة بأرتياح ، ضاغطة بقوة فوق شفتيها ، تمنع بذلك ظهور أبتسامة سعيدة ، هددت بفضح أمرها ، فى حين هتفت مدبرة المنزل تقول بمكر :
-(( طب أنا هنام ، أتفضلوا أنتوا على أوضتكم الوقت أتأخر ، وشكراً يابنى على تعبكم معايا )) ..
سارعت رحمة تقول بأصرار :
-(( لا أنا هقضى الليلة معاكى النهاردة )) ..
ردت الاخرى نافية بقطع واضح :
-(( لاااا ، أنا محبش حد يقعد معايا ، أتفضلى على أوضتك ، أنا بقيت زى الحصان )) ..
قال رحمة معترضة بأصرار :
-(( مش هرتاح غير وأنا معاكى )) ..
هتفت أم الحسن بأسمه تتلمس منه العون :
-(( قولها حاجة يا طاهر يابنى ، بدل مانت واقف كدة )) ..
هز كتفيه بعدم اهتمام ، حيث كان عقله مشغولاً بتأنيبه ، عن كيفية تساهله والأنجراف وراء قلبه ومطاوعته فى البقاء جوارها عكس ما كان ينتوى ! ، زفر بقوة ثم قال بنبرة خالية :
-(( اللى يريحكم أعملوه )) ..
انهى جملته وأنصرف بعدما اغلق مجرى المحلول الطبى بمجرد أنتهاءه ، تاركها تنظر فى أثره بأحباط ، قبل أن يجذب أنتباهها صوت مدبرة المنزل تقول بتوسل :
-(( يابنتى لو بتحبينى ريحى قلبى ، وروحى نامى فى أوضتك وأنا تليفونى أهو ، لو حصل حاجة هكلمك على طول )) ..
فتحت فمها للتعقيب رافضة ، فسارعت أم الحسن تضيف برجاء :
-(( متجادلنيش الله يريح قلبك وأسمعى كلامى )) ..
حركت رأسها موافقة بخفوت ثم أنسحبت من خلفه ، بينما أردفت أم الحسن تغمغم بنبرة خفيضة لم تصل إلى مسامعها :
-(( ويريح قلبه معاكى )) ..

**********************************

دلفت الغرفة المشتركة والمؤدية إلى غرفتهم ، بتوجس واضح ، تقدم ساق ، وتؤخر الاخرى ، وداخلها يزداد توتراً وخارجها حرارة ، تحاول تدريب لسانها على التفوه بما وجب عليه ، وألزمت نفسها به منذ حديثها الأخير اللاذع ، قبل وقوع عينيها على جسده ، وتفاجئها به يتوسط الفراش الأضافى ، المجاور لأحدى حوائط الغرفة الأحتياطية ، فقطبت جبينها بأستغراب شديد ، عندما رأته غافياً بملابسه العادية ، قبل أن تحرك كتفيها بلا مبالاة ظاهرية فقط ، مجبرة عقلها على التجاهل ونافضة الوساوس القهرية من رأسها فملابسه ودفئه لا يعنيها فى شئ ، قبل أستنافئها الطريق نحو الغرفة الأساسية والاختفاء بداخلها تجر خيبة أملها خلفها ، بينما أنتظر هو حتى تأكد من ذهابها ، وقتها أعتدل فى جلسته ، ثم أنتصب واقفاً ، ينتوى تبديل ثيابه بأخرى بيتية مريحة ، ثم العودة إلى الفراش البارد ، وكأنه بفعلته تلك ، يعاقب نفسه على قرار البقاء جوارها ، متجاهلاً بعدما أرتمى بجسده فوق الفراش ثانية وراح يحدق فى السقف أعلى منه بتأفف واضح ، ذلك السؤال الخفيض ، والذى لا ينفك يتردد داخله ، منذ أستمع إلى وقع خطواتها بالقرب منه ، وأستنشق عبق رحيقها من حوله ، عما سيحدث لو صارع الوقت ، وتحايل على الظروف ، وتجاهل وخز الكلمات ، ثم قفز متجاوزاً فجوة المسافات ، إلى أن وجد نفسه أمامها ، يقف فى محراب صمتها ، متلمساً بهوادة أثناء سيره طريقه الملئ بالصعاب نحو قلبها ، ومأقلماً تكوينه على الأستسلام لحنينه نحوها ، قبل أن يغفو على أحلام هى بطلتها ، ويستيقظ فى منتصف الليل على أنين صراعها القادم من الداخل ، ويركض نحوها دون تفكير ، يهز جسدها بقوة ، ويجبرها على الأنسحاب من كابوسها المعتاد ، هاتفاً بقوة :
-(( رحمة أصحى ، أرفضى أنك تعيشيه تانى وقومى ، قاومى خوفك وأفتحى عينيك )) .
حاولت الخلاص والإفلات من قبضته ، دون فتح عينيها ، مقاومة بشدة ، الأستسلام لحضنه الذى يجذبها نحوه ، قبل أن يعاود القول بنبرة أكثر هدوءاً ونعومة :
-(( رحمة ، اللى بتعشيه ده مش حقيقى ، افتحى عينيك وأنتى تشوفى بنفسك ، مفيش غيرك أنتى وأنا ، طاهر ، وهبعد عنك عشان تصدقى )) ..
فك حصارها من بين ذراعيه بعدما أنتهى من جملته ، ثم أبتعد عنها تاركاً الفراش بأكمله وأنتصب واقفاً خارجه ، يطالع جسدها المرتعش بألم وعجز ، فى حين أستجابت هى لطلبه وفتحت عينيها على مضض تتأكد من خلو الفراش من الدماء والجثة أولاً ، قبل رفعها لرأسها مع كلتا ذراعيها تمدها فى أتجاهه ، مدفوعة برغبتها البائسة فى الشعور بالأمان الذى أصبح سفيره وعنوانه بالنسبة إليها ، وعنه ، لم ينتظر بعد طلبها الصامت سوى ثانية واحدة ، قبل أن يعود ، ويحتضن جسدها المرتجف بين ذراعيه ، يود لو يزرعها بداخله ، ويخبأها داخل أضلعه ، ففي أحد الأوقات ، ظن أنَ علاجهِ الوحيد هَو بالهرب منها ، بينما كل ما يلزمه حقاً ، هو الأختباءِ داخلها ، ثم غمغم برأفة يهدهدها ، بينما يده تمسح فوق خصلاتها المنسابة بعشوائية ، يُعيدها إلى سيرتها الأولى :
-(( متخافيش ، كله راح ، حاولى تتنفسى كويس )) ..
حركت رأسها المستندة فوق صدره موافقة بوهن ، تسحب النفس إلى داخل رئتيها ، وتنجح لأول مرة فى السيطرة على نوبتها المرضية فى صحبته ، وبعد فترة من الصمت التام أستعادت خلالها جزء كبير من هدوئها وقوتها ، همست تقول بصدق :
-(( أسفة ، أنا أسفة على اللى قلته قبل كدة ، ده مش أحساسى الحقيقى صدقنى ، ده كان رد فعل على كلام وجعنى مش أكتر )) ..
رفعت رأسها تطالعه بعدما أبتعدت عنه سنتيمترات قليلة فى حين بقى جسدها محتجزاً بين ذراعيه ، مترقبة رد فعله ، فهمس يقول بخفوت بعدما تنهد مطولاً بألم :
-(( أنا سمعت كلامك مع رائف كله )) ..
أتسعت عينيها وأنفرجت شفتاها ، قبل ان تقول بعدم تصديق :
-(( أنت عارف أنه ورا........ )) ..
أخفض رأسه ينظر مباشرةً داخل عينيها ثم أكمل جملتها عنها بملامح وجه شاحبة :
-(( قصدك كلامك الاخير ليه ، وشكك فيه ؟! )) ..
أومأ رأسه مؤكداً على مضض ولم يعقب ، بينما أشفقت هى على قسماته المتألمة ، فهمست تقول بعدما عادت وأستندت برأسها على صدره مستمتعة بالدفء المتسلل إليها منه ، وحالة السكون المسيطرة عليها جواره :
-(( أنا مش عارفة أنت هتصدقنى ولا لأ ، بس جوايا أحساس بيقولى أنى عايزة احكيلك فهمشى وراه مهما كانت نتيجته )) ..
صمتت تبتلع لعابها بقوة ثم أردفت تقول بأستفاضة :
-(( أنا عمرى ما فكرت ولا ممكن تيجى عليا لحظة واحدة وعقلى يوذنى أنى أَذًى قطة مش أنسان من روح ودم ، كنت مجرد أنسانة بحظ سئ ، وقعت تحت أيد أنسان مستغل ، مشفتش وشه الوحش وفهمته غير متأخر أوى ، ومكتفاش بكدة ، ده كمان مصمم لأخر وقت يأذينى ومعرفش دافعه من كل ده أيه ! أنت ولا أنا مش فاهمة !، وبعدها لما حاولت أدور على شغل من البيت ، وكنت عايزه أقولك قرارى ده بس بصراحة خفت ، خفت من رد فعلك لان مفيش حاجة تربطنا أو طبيعية بينا ، لقيت نفسى بقع فى فخه من أول وجديد ، وبيحاول يستغلنى للمرة التانية بوقاحة ، حتى أنه طلب منى أتجسس عليك وأنقل أخبارك .. والله اعلم كان عايز يجندنى عندك ليه )) .
صمتت قليلاً تعطيه الوقت الكافى لأستيعاب حديثها ، ثم أردفت تقول مقرة :
-(( أنا مش غبية ، وعارفة أنك عرفت بمقابلتى ليه ، وده كان سبب غضبك ، بس صدقنى أنا عمرى ما كرهت حد فى حياتى قبل كدة غير الأنسان ده ، وأى رد فعل حصل بعد كدة كان رد على الاتهام اللى مسمعتهوش بودانى ، و ياريت تاخد حرصك من الشخص ده ، عشان سواد قلبه ممكن يوصله لأى حاجة ، زى ما عمل قبل كدة )) ..
أنتظرت أى تعقيب أو رد فعل قد يصدر عنه بعد جسده الذى أجفل تحت جسدها عند سماعه جملتها الأخيرة عدة دقائق عبثاً، وبعد فترة من الصمت المطبق ، شعرت به يطبع قبلة مطولة فوق جبينها ، ثم أنزلق بجسده فوق الفراش وهى بين يديه ، يكبلها بذراعيه وساقيه ، مستسلماً لنوم هادئ ، ربما يزور عينيه للمرة الأولى ، منذ الحادثة التى هزت كيانه وقلبته رأساً على عقب ، تاركاً التفكير للغد .
**************************************
سحبت نفساً عميقاً تستجمع به شتات أمرها ، وشجاعتها المسلوبة ، قبل أن تُطرق باب غرفة والدها ، تستأذن فى الدخول بنعومتها المعتادة :
-(( بابا حضرتك صاحى أدخل ؟؟! )) ..
أجابها والدها من الداخل بصوته العميق :
-(( تعالى يا تاج راس أبوكى ، صاحى ومن بدرى كمان )) ..
دخلت الغرفة بأبتسامة عريضة عكس داخلها المعتم ، بينما أردف هو يقول بحب بمجرد مطالعته محياها المفضل إليه :
-(( مستنى الشمس تهل عليا عشان أبدء يومى ، وأهى وصلت أهى )) ..
أنحنت بجذعها تطبع قبلة ممتنة فوق جبهته بعد وصولها إليه ، ثم قالت بجدية بعدما جلست أمامه :
-(( بابا ، عايزة أتكلم مع حضرتك فى موضوع مهم ، وعشان خاطرى أسمعنى ووافق عليه )) ..
تنبهت حواسه على الفور عند رؤيته ملامح وجهها الجادة المتجهمة ، ثم قال بتوجس :
-(( قولى يا علياء ، سامعك يا حبيبة أبوكى )) ..
اخذت نفساً عميقاً ثم قالت مباشرةً دون أية مقدمات :
-(( عايزة أسيب محمد )) ..
سألها والدها بهدوء :
-(( والسبب ؟! )) ..
قالت بنبرة مختنقة :
-(( من غير سبب ، كفاية أنى مش مرتاحة ، مش حاسة أنى أنسانة أصلاً ، فرحتى مكسورة ، مش بس مكسورة مش موجودة من الأساس ، هو بالنسبالى مش أكتر من أنسان غريب عنى ، مش قادرة أتفاهم معاه ، حاسة أنى بخسر نفسى وعمرى وأنا جنبه ، مفيش نقطه أتفاق واحدة بينا )) ..
سألها والدها مستفسراً بأرتياب :
-(( طب ومكتشفتيش ده غير دلوقتى ؟! ، ولا فى حاجة جدت عليكى يابنت أبوكى ؟! )) ..
قالت بثقة نافية شكه :
-(( عشان الفجوة بينا بتوسع عكس مانا مستنية ، كل ما يمر الوقت علينا بنبعد عن بعض أكتر ، بابا ، أحنا بنتخانق على كل حاجة تقريباً ، حتى توضيب البيت والعفش بنتخانق عليه !! ، هكمل معاه ازاى بعد كدة وحتى أبسط أمورنا مش متفاهمين فيها )) .
حرك رأسه متفهماً ثم قال بصوته العميق المخضرم بعدما مد ذراعه يحتضن كفها :
-(( تسمعى نصيحة أبوكى ، ولا هتتكبرى وتقولى راجل كبير وخرف )) ..
أومأت بعينيها موافقة دون تعقيب فأردف يقول بهدوء :
-(( خدى اللى يحبك يا علياء ، والشهادة لله يابنتى ، أنا بسمع حبه ليكى فى كل مكالمة بينا ، ولو على العفش والبيت ، دى تفاهات ، محدش مبيتخانقش عليهم ، المهم الأصل ، ولما يتقفل عليكم باب واحد وتسافرى معاه وتكونوا لبعض ، كل ده هيتنسى وهتقربوا المسافات البعيدة بينكم ، ده شيطان يابنتى موسوسلك عشان فرحتك قربت ، وعمتاً صلى صلاة أستخارة ، ولو فضلتى على قرارك ، يبقى بينا كلام تانى )) ..
غمغمت موافقة بأحباط ، ثم أنسحبت من الغرفة ، والحيرة بداخلها تزداد من حديث والدها تارة ، ومن أحساسها بالرفض وعدم القبول تارة أخرى ، ورغم ذلك قررت الأمتثال لطلب والدها كحل أخير ، قبل القرار النهائى .
**************************************
جحظت عيناها وأستنفرت عروقها وأزداد أحتقان ملامحها ، وهى تتطلع إلى صورة جديدة رائعة الجمال لشقيقه طليقها بصحبة صغيرتها ، على أحدى برامج وسائل التواصل الأجتماعى ، فتضاعف غلها ، كعادة كل حاقد ، يكره غيره بل ويلومه كلما أختصه خالقه بشئ من رحمته وفضله وكأن الأمر بيده ، دون التفكير فيما حُرم منه ، وتلك خصيصاً ، بالنسبة إليها تملك كل شئ ، فى حين حُرمت هى ، قدراً مرة ، وسوء تقدير مرةً اخرى من كل شئ ، حتى طفلتها الوحيدة أُخذت منها ، لذا رفعت رأسه تحدق فى ذلك الجالس أمامها ، يتابع بتركيز شديد شاشة هاتفه ، ثم قالت بشئ من المكر تُجرب حظها :
-(( علياء أخت جواد وبنت عم طاهر دى دلوعة البيت كله ، محدش فى العيلة واخد قيمتها ، كلهم يموتوا لو ضفرها أتكسر )) ..
أبتسمت بأنتصار عندما أستطاعت جذب أنتباهه ، حينما رفع رأسه من خلف شاشته يناظرها بأهتمام ، فأردف تكشف عن أوراقها بحقد واضح ، بعدما قفزت من مقعدها وجلست جواره تستطرد بعدائية شديدة :
-(( لو حد عايز يضايق جواد وأبوه وطاهر ، مقدمهوش غير حل واحد ، علـــيــــاء )) ..
ضاقت المسافة ما بين حاجبيه ، يقلب الحديث داخل جنبات عقله ، قبل أن يسأل بأجفان شبهه منغلقة :
-(( قصدك أيه ؟! )) ..
أجابته مندفعة بحماس بعد نجاح حظها :
-(( قصدى واضح مش هنضحك على بعض ، أنا عارفة أنك مش طايق العيلة دى ، ولو عايز تأذيهم أهو الحل قدامك )) ..
سألها رائف بحيرة مستفسراً :
-(( فى دماغك أيه يا رنا ، أدينى تفاصيل ؟! )) ..
أجابته بكره شديد :
-(( وسخها ، دول صعايدة ، وأنت عارف نقطة ضعفهم الوحيدة ، وخصوصاً بقى أن بنتهم المصون كلها شهر وشوية وتتجوز ، نعمل اللى علينا ، ونسيب خطيبها يفضحها ويخلى رأسهم فى الطين )) .
أستدار بجسده ينظر إليها بكليته ، ثم قال موافقاً بعد تفكير عميق :
-(( وماله ميضرش ، سبينى كام يوم أرتبلها )) ..
هتفت معترضة بأستماته :
-(( لا دى سيبهالى أنا ، حطلى بس سيولة تحت أيدى ، وأنا هتصرف )) ..
أبتسم ساخراً ثم قال مخمناً :
-(( شكله حساب قديم )) ..
قالت بغل :
-(( أووووووووى )) ..
قال موافقاً بعدم أهتمام :
-(( وأنا هنولهولك ، المهم عندى النتيجة مش أكتر ، وأنتى وشطارتك معايا )) ..
سارعت تقول بلهفة :
-(( مش عايزة غير كام واحد ينفذ والباقى كله عليا )) ..
مد كفه يصافحها مغمغاً بأنشغال بعدما أرتفع رنين هاتفه معلناً عن أتصال جديد :
-(( متفقين )) ..
مدت كفها هى الأخرى تبادله تحيية الأتفاق ، ثم همست بخفوت متوعدة بعدما أنسحب من أمامها يجيب عن أتصاله بعيداً عنها :
-(( وأنت كمان لما أشوف أخرتها معاك ، ومع اللى وخداك منى دى )) ..
**************************************
فركت كفيها معاً بضيق ، مرة تلو أخرى ، ثم زفرت بنفاذ صبر وهى تجلس فوق أحد المقاعد الحديدية داخل قاعة الأستقبال ، الخاصة بأحدى فروع البنك الأهلى ، حيث عمل زوجها السابق تترقب وصوله ، بعدما فشلت فى التحدث معه عبر الهاتف ، أو الخروج بأية معلومة مفيدة من القسم الخاص بشئون الموظفين ، أو حتى عاملى الأمن بالخارج ، عن موعد حضوره ، خاصةً بعدما يأست فى إيجاد أى طريقة طبيعية للحديث معه غير زيارة بيت والدته ، فكان الحل الأمثل بالنسبة إليها فى تلك اللحظة ، هو عمل زيارة ميدانية فى مقر عمله ، تخيفه بها ، فالكل أنسان نقطة ضعف واحدة ، وهى أعلم الناس بمدى أهتمام زوجها السابق وأستماتته فى الحفاظ على مظهره وسمعته اللامعة البراقة ، لذا جلست تراقب المدخل بتركيز ، إلى أن لمحته بعد ساعة يسير فى الممر المؤدى إلى غرف الموظفين ، وقتها ، هرولت تصيح بصوت جهورى وصل إلى مسامع محتلى القاعة بأكملها :
-(( بدر ، يا بدر ، لو سمحت أقف ثوانى )) ..
أستدار على صوتها المعروف ، ينظر إليها بملامح وجهه محتقنة ، قبل همسه بغضب مستثاراً :
-(( غفران !!!!!! ، أنتى أيه اللى جابك هنا ؟! )) ..
نفضت خصلاتها من حول وجهها ورفعت رأسها بكبرياء ، ثم قالت بنبرة خالية تعمدت خروجها مرتفعة  :
-(( مادام مش بترد عليا وبتهرب منى ، يبقى هتلاقينى هنا كل شوية ، مش بس مرة )) ..
ألتفت ينظر حوله بتوتر ملحوظ ، يتأكد من عدم أستماع أحد إليهم وأنشغال كلاً بحاله ، ثم قال مغتاظاً من بين أسنانه :
-(( طب أمشى دلوقتى وهكلمك أول ما اخلص نتفاهم )) .
رمقته بنظرة متشككة فأردف يقول بصدق :
-(( ورحمة أبويا هخلص وأقابلك ، وعدتك خلاص )) ..
أرتخت ملامحها وزفرت بأستسلام ، قبل أنسحابها من أمامه وقد قررت أعطاءه فرصة أخيرة ، بعدما أوصلت رسالتها جيداً .

أما على الطرف الأخر ، وتحديداً داخل أحدى غرف الكشف النسائية ، منتهزة فرصة غيابه ، جلست والدته فوق أحد كرسي المرافقة ، وتمددت زوجته على الفراش الطبى ، مستسلمة لِيَد الطبية التى بدءت فى فحصها مباشرةً بأهتمام بعد أستماعها لشكواها ، ومن ثم بعد مرور عدة دقائق ، أنتهت خلالها الطبيبة مما تقوم به ، وعادت تجلس خلف مقعدها الجلدى ، تاركة بعض المساحة الشخصية لمريضتها فى أرتداء ملابسها  ، هتفت والدته تستفسر بقلق واضح :
-(( خير يا دكتورة ؟! ، طمنينى ؟! )) ..
أجابتها الطبيبة بنبرة عملية جادة :
-(( والله كان نفسى أقولك أن كل حاجة تمام ، بس للأسف الجنين مفيهوش نبض )) ..
همست أفنان التى هرولت تقف أمامها بعدما انتهت من هندمة ثيابها :
-(( قصدك أيه يا دكتورررة بالكلام ده ؟! )) ..
أجابتها الطبيبة بأشفاق متأثرة :
-(( مش عايزة أستبق الأحداث ، بس مضطرة أصارحك بالوضع كله ، هديكى شوية أدوية وفيتامينات وأشوفك الأسبوع الجاى ضرورى ، لو فضل الحال زى ما هو ومسمعناش نبض ، هنضطر نجهض الجنين ، ده لو منزلش لوحده )) ..
أرتمت فوق المقعد الوحيد الفارغ بملامح باهتة تستوعب حديث الطبيبة ، شاعرة بالأرض الصلبة التى تقف فوقها ، تنسل كالرمال تحت أقدامها ، لتغوص بعدها فى اللاشئ .
***************************************
دَعْنِى فَقدْ سَأمْتُ عَالَمكُم البَغِيض واكتَفِيّتُ مِنَ الأكَاذِيب
قَدْ ضَعَفَ وَتِينِى مرة ، عَشَقَ من جنسكم وإتَخَذَ لهُ حَبِيب
أحببْتُ المشَاعِر وأعْجَبَنِى حَلُوَ الكَلام وأبهَرَتنَى الأسَالِيب
عَالِقةٌ فِى شِبَاكِهِ أحْيَا ، لا أبْغِى لأَمَلهِ بِى أن يَخِّيب.
لمْ أبْخلْ بَمشَاعِرِى ، وَقبَلْتُ ما يمنَحْنِى بكُلّ طِيب.
فما كَانَ منهُ إلاَّ التَّجَاهُل والبُعد والغَدر المُرِيب.
خَائِنٌ كَانَ ، والخِيانَةُ تِفْعل بالمَرأةِ الأعَاجِيب
تَركْتُهُ غَيرَ نَادِمةٍ ، دُونَ لَوْمٍ أو عِتَابٍ ، دُونَ تَأْنِيب.
لكّنِى أَقْسَمْتُ أن أَحْيَا لِنَفْسِى ، لنْ يَضعَفَ وَتِينِى مُجدداً لِغَرِيب .
لَنْ أَعْشَقَ أو أَكْرَهَ ، لنْ أَبْكِى مُجدداً غَدْرَ الرَّجَال الصَّعِيب .
فَوَداعاً للعِشّقِ ، لِزَمنٍ كُنْتُ فِيهِ لِقَلْبِى أستَجِيب .
وَدَاعاً لِعُمْرٍ ضَاعَ سُدى لَنْ أَنْدَمَ عَلِّيهِ ولَنْ أسْتَسْلمَ للنَّحِيب .
سَأَكون حَواء تَشْرقُ شَّمْسُها ، دَائِماً ولا تَغِيب
عُذْراً ان إدَعيَّتُ إخْتِلافَكَ فلنْ أصُدقَكَ ولإدعَائِكَ لَنْ أسْتَجِيب .
فَكُلكُم أولادَ آدم ، إن عَشقْناكُم نَتَلَظى بِنارِكُم ونَحْتَرق باللّهيب .
( خاطرة سأكون )
راقب ملامحها المتجهمة الجامدة منذ وصولها بتركيز ، ورغم ذلك قرر أستئناف عمله المؤجل داخل الموقع منذ البارحة ، والأنتهاء منه أولاً ومراجعة كافة بنود المرحلة القادمة مع مهندس الموقع ، ثم بعدها إنضم إليها حيث كانت تجلس شاردة الذهن فى أحد الأركان البعيدة نسبياً يسألها بخفة :
-(( دى هرمونات حمل برضة ؟! ، ولا أسباب أخرى سيدى القاضى ؟! )) ..
أبتسمت بخفوت ثم أجابته ساخرة :
-(( نعم أسباباً أخرى سيدى الرئيس )) ..
أتسعت أبتسامته هو الأخر ثم قال بنبرة متهكمة :
-(( معرفش ليه قلبى بيقولى أنه عارف مين الأسباب الأخرى دى )) ..
تركت المقعد وأنتصبت تقف أمامه ثم قالت بأحباط يشوبه بعض المرح :
-(( أهو أنا عملت كبسة مخبرين على الأسباب الأخرى فى الشغل الصبح ، ومستنية بقالى كام ساعة على ما جنابه يكلمنى عشان ننهى الموضوع )) ..
فتح فمه معقباً ، ثم عاد وأغلقه ، عند أستماعهم سوياً ، إلى صوت غاضب يهتف من خلفهم :
-(( الله الله يا ست الصون والعفاف ، هو دة الشغل اللى كنتى دايما مشغولة فيه ؟! )) ..
ألتفتت تنظر إليه بحنق ، ثم قالت بازدراء واضح :
-(( أيه ده فى إيه !! ، أنت بتكلم مين كدة ، ثم أنت أيه اللى جابك هنا من الأساس ؟! وعرفت العنوان أزاى ؟! )) ..
تجاوزها بدفعة خفيفة من يده أرتدت للخلف على أثرها ، ثم قال موجهاً حديثه لجواد الذى تابع فعلته بغضب أرتفعت وتيرته ، عندما قام بدر بلكزه هو الاخر فى منتصف كتفه :
-(( لا كلامى مش معاكى ، كلامى مع البيه ، اللى مقضيها وهو عارف أنك فى شهور العدة ، يعنى لحد دلوقتى على ذمة راجل )) ..
ضغط جواد فوق شفتيه بقوة ، يحاول منع كفه من التهور ، ولكم أنفه بفمه ، ثم قال محذراً بنبرة شبهه هادئة :
-(( نزل أيدك أحسن ، وأعرف أنت بتتكلم مع مين وبتقول أيه ، وبلاش تخريف )) ..
صاح بدر يقول بأهتياج وهو يشير بيده للفراغ من حولهم :
-(( لا أنا عارف بقول أيه وكويس ، مش نايم على ودانى ، وعارف أن الهانم دى ، مقضياها معاك لف وتوصيل من ساعة الطلاق ، بس على جثتى حد يــ...... )) ..
لكمة قوية سددها جواد إلى أنفه وأخرى بجانب فمه جعلت الأخر يترنح فى الهواء ، قبل أن يقول محذراً بقوة :
-(( حط لسانك جوة بوقك ، ومتجبش سيرتها أحسنلك يا جبان يا واطى )) ..
أنحنى بدر بجزعه ، يمسح على عُجالة بعض الدماء السائلة من طرف شفتيه ، ثم قال مستفزاً من أمامه :
-(( زعلت عليها ومش متحمل الحقيقة ، ولا عشان جربت تـــ....... )) ..
صرخت غفران تمنعه من الأسترسال بأشمئزاز واضح ، بينما عاد جواد يسدد لكماته فى كل مكان تصل إليه يده ، صارخاً بأنفعال بعدما فقد السيطرة على أعصابه :
-(( أنت بتقول كدة على مين يا ***** ، دى أم أبنك !! ، سامع يعنى أيه !!! ، لو عندك ذرة رجولة واحدة متخوضش فى عرضها يا *** )) ..
صرخت من جديد تستوقف جواد ، فى حين تراجع هو للخلف يستوعب الفخ الذى وقع داخله ، بينما أعتدل بدر فى وقفته ، يسألها بأنفاس لاهثة :
-(( يعنى أيه كلامه ده !! ، أنتى حامل )) ..
حركت رأسها يميناً ويساراً بذعر ، تستمد العون من جواد الذى أخذ يلعن نفسه فى صمت على أندفاعه وتهوره ، أما عن بدر فبعدما يأس فى الحصول على جواب يُريحه ، هتف يقول بنبرة قوية قاطعة :
-(( سواء حامل أو لأ أنا رديتك لذمتى ، ومن اللحظة دى أنتى مراتى )) ..



تعليقات