رواية في لهيبك أحترق
الفصل الواحد الثلاثون 31
بقلم شيماء يوسف
وَنَشْكُو بِالعُيُون إِذاً ٱِلْتَقَينا.. فَأَفْهَمَهُ بِعَيْنَيْيَ وَيُعْلِم ما أَرَدتُ
أَقُول بِمُقْلَتَيْ أَنِّي مَتَّ شَوْقاً.. فَيُوحِي طَرَفهُ أَنِّي قَدّ عَلِمتُ
وَأَقُول لَهُ لَقِدّ مَلِلتَ بِدُونكِ.. وَعَيْناهُ تَقُول لِيَ وَأَنا أَيَّضا سَئِمتَ
أَقُول لَهُ أَنِي أَتَمَنَّى وَصالَكِ.. وَ عَيَّننَكَ تَقُول هٰذا ما بِهِ حَلَمتُ.
_إبراهيم النظام.
انقضى النهار بضيائه وها قد أقبل الليل بظلامه، وهي لازالت حبيسة الغرفة، رقيده الفراش، حائرة الفكر، شريدة البال، إذ راحت تعيد داخل مخيلتها أحداث الصباح، وتتذكر في شوق كيف غزا بقربه البسيط دفاعاتها، بل وتتلوي حرجًا كلما تذكرت مدى تقبلها لقربه، والأسوأ كيف استلذت بلمسته الناعمة، مع صهد أنفاسه الواقع فوق بشرتها، حركة يديه المتروية فوق خصرها، وأخيرًا تحديق عينيه الصافيتين بخاصتها قبل أن تقرر خداعه، تتمنى لو توقف بها الزمن عند تلك النقطة، أو لو أُتيحت لها الفرصة في إعادة الكرة، ملقية بكامل اللوم على براءتها، فهي الساذجة عديمة الخبرة ومن الطبيعي تأثرها بأي لمسة عابرة، هذا ما أسكتت به ضميرها، قبل أن يلطمها عقلها بالحقيقة الكاملة دون زيف أو تجميل، فهي ليست بالساذجة كُلِّيًّا، وليست تلك بمرتها الأولى التي يحاول رجلًا ما الاقتراب منها، وعلى عكس شعورها الحاضر، وجدت جلدها يشمئز من لمسة سلام عابرة حاول من خلالها خطيبها السابق"محمد"، معرفة مدي تأثيره الرجولي عليها، وكيف ثارت ثائرتها واشتعلت نائرتها لفرض نفسه عليها كما وصفت فعلته، أما اليوم فهي حتى لا تعلم كيف استجمعت إرادتها وذهبت في حضرته، أو كيف استخدمت ساقيها الهلاميتين في السير عكس قبلته، ناطقًا القلب بما لم يقره صراحةً العقل، نعم فهي واقعةً في حبه كطير جريح، نجح أخيرًا في فرد جناحيه في سماء عيناه مسايرًا الريح، معترضًا طريقه نحو السعادة غراب أسود قبيح، ولم يكتف بذلك بل شرع ينقره مستهدفًا جناحاته الضعيفة حتى أرداه أرضًا طريح، فَظَاهِرِيًّا كل ما يفصل بينها وبينه هو ذلك الباب المغلق، أما فِعْلِيًّا فما يقف بينهما حائل، هو ظل أسود عملاق لشبح اَلْمَاضِي الكريه، يدعمه ضعف شخصيتها وعدم قدرتها على المواجهة أو الرفض أو التجريح، وأكثر ما تخشاه إذا أعطته الفرصة للتبرير هي تلك الخصلة اللعينة بها والتي تقيدها وتمنعها من المطالبة بأبسط حقوقها، وستجد نفسها فور تحدثه إليها قابلة لطلبه، قانعة بحجته، فرغم كل ما تملكه من مال وشهادة جامعية ألا أنها تفتقد لأهم شيء، ألا وهو القدرة على قول لا، وفي المرة الوحيدة التي قررت بها الاعتراض سقط والدها صريعًا بسبب جرأتها الغير معهودة، فعادت متقهقرة إلى قوقعة صمتها، وعليه لم تجد حلًا سوي الهرب من مواجهته ورفض محادثته، علها تستطيع الخلاص من تلك الزيجة والحفاظ على ما تبقى من كرامتها المهدرة على يد والدها، هذا ما انتهجته خلال الأشهر المنصرمة وهذا ما تنتوي الاستمرار في فعله حتى يزهد في طلب وصالها ويلفظها
وفي الجهة الأخرى، وتحديدًا خلف الجدار الفاصل بينهم، ظل يحيي يذرع الممر ذهابًا وإيابًا في قلة حيلة بعدما ذهبت كل محاولاته في التحدث معها، أو توسلاته حتى تخرج لتناول الطعام أدراج الرياح، فلم يملك سوى تنفيذ تلك الفكرة الألمعية التي قفزت داخل ثنايا عقله فبادر في تنفيذها على الفور دون تردد أو تفكير، وعليه سار حتى وقف أمام الغرفة المختبئة بها ثم قال في صوت جهوري قوي من خلف الباب المغلق :
-(( علياء لو مش نايمة أنا نازل.. عندي مشوار ضروري لازم أروحه ومش هرجع قبل ساعتين لو حابة تخرجي من معزلك يعني.. هتلاقي الأكل على الرخامة جنب الحوض.. وبالمناسبة أنا حبست زوحلف في الأوضة اللي بنام فيها عشان تكوني مطمنه ))..
تعمد قول الجملة الأخيرة وذكر وجود حيوانه الأليف داخل الغرفة حتى يوفر بمقولته تلك مخبأ أمن له، ويضمن بذلك عدم اقترابها منها، وبعد أن انتهى من حديثه سار في اتجاه باب المنزل يفتحه ثم عاد وأغلقه في قوة قاصدًا وصول الصوت إلى مسامعها، مهرولًا بعدها على أطراف أصابعه نحو الغرفة التي سبق ذكرها يلوذ بداخلها، متمنيًا في تضرع نجاح خطته، وبعد حوالي دقيقتين من الصمت التام واحتباس أنفاسه ترقبًا، جاءه من بعيد معيدًا إليه الأمل، صوت حركة خافتة سرعان ما ميزها كخطوات أقدامها، أخذت في الارتفاع متجهة نحو باب المنزل، تحاول بعد توقف جسدها قبالة الباب فتحه بكلا كفيها أو تحريك مقبضه في محاولة محكوم عليها بالفشل مقدمًا، إذ حرص هو على إغلاق الباب بالمفتاح مرةً ثانية قبل اختبائه، بينما زفرت في استسلام حانق قبل العودة بإدراجها نحو المطبخ متتبعة رائحة الطعام الذكية التي غزت حاسة شمها، وملبية نداء الجوع في أمعائها التي شرعت تصدر أصواتًا متمردة تطالبها في إلحاح بملئها، فلا صوت يعلو فوق صوت الطعام، حتى أنها راحت تلتهم الطعام في تلذذ ولم تنتبه إلى ذلك الظل الذي أخذ يتسلل من خلف ظهرها بعيدًا عن مرأى عينيها في هدوء، قبل توقفه خلفها مباشرةً وعقد كلا ذراعيه أمام صدره، ثم قال في انتصار وابتسامه التسلية لا تفارق عدستيه أو شفتيه :
-(( حلوة الفراخ بتاعتي صح!! ))..
انتفض جسدها وشهقت فزعًا فور سماعها صوته آتيًا من خلف ظهرها، حتى أن قبضتها ارتخت من فوق كوب الماء الذي كانت تحمله تمهيدًا لرفعه إلى فمها، فسقط داخل حوض غسيل الأطباق وتناثرت أشلائه الحادة في كل مكان، رافعًا بفعلته الماكرة تلك المستوى الأقصى لغضبها فصاحت تعنفه في انفعال :
-(( أنت بتعمل إيه!!.. بجد يا يحيى بتعمل إيه!!.. وأنا أساسا بعمل إيه هنا مش عارفة!! ))..
سارع بالاندفاع نحوها يتمتم في ندم :
-(( أنا آسف مكنش قصدي أخضك أو أضايقك.. بس أنتِ مأكلتيش من امبارح وضغطك واطي فكان لازم اخرج...... ))..
رفعت كفها إمام وجهه تقاطعه في حدة، وتمنع بذلك اقترابه منها أو مواصلته التحدث إليها، ثم هتفت تقول في اهتياج، ناقمة على ضعفها وعدم مقاومتها له، أكثر من سخطها عليه :
-(( كلكم بتتعاملوا معايا بنفس الطريقة.. بنفس الأسلوب المستفز.. ما هي علياء دي الغبية.. العيلة اللي محتاجة حد يمسك أيديها عشان يعديها السكة.. محتاجة اللي يحط الأكل في بوقها!!.. لا ومش بس كده.. ويمسحه بعدما تخلص عشان هي كائن عويل مش هتعرف تعمل الحركة البسيطة دي!.. وطبعا لازم نختار لها لبسها وحياتها وأسلوبها.. والعريس المناسب عشان قربت ع ال٢٦ وياحرررررام لسه متجوزتش!! فتخيل نعمل إيه!! نجوزها في نفس يوم فشكلت خطوبتها من واحد بيحب غيرها!!.. مش مهمممممم.. المهم نخلص منها ونداري الفضيحة.. المهم اسمها يتلزق باسم واحد أصلًا مش عايزها!! ))
صمتت لوهلة تلتقط أنفاسها اللاهثة من فرط الانفعال، وتسيطر على نبرتها المرتجفة قبل أن تضيف متحسرة في صوت متهدج وإعياء واضح، بينما كفها يعمل في ألية على دفع نثرت الزجاج الصغيرة نحو أحد أركان الحوض تَمْهِيدًا لرفعه ووضع هيكل الكوب الأساسي المنكسر فوق حافة الرخامة جوار ذراعها:
-(( روحي مع جوزك يا علياء.. واسمعي كلام جوزك يا علياء.. أوعى تطلبي الطلاق يا علياء.. جوزك مش هيحترم طلبك وهيحبسك ويقفل عليكي عشان يسمعك كلام معندكيش ربع طاقة تسمعيه؟ مش مهم اتحملي!.. عشان حتى لو حاولتي تعترضي مش هيهتم! .. أنتِ أساسا ملكيش قيمة.. وأحنا بس اللي بنشوف الصح.. احنا بس اللي عارفين مصلحتك فين!! ))..
تراشقت كلماتها المقهورة داخل صدره واحدة تلو الأخرى كما تتراص السكاكين الحادة داخل جذع الشجرة، حتى ظهر ألم اختراقها المعنوي باديًا فوق ملامحه، ولأول مرة منذ سنوات مضت وجد نفسه يقف عاجزًا أمام موقف نفسي مشابهًا، إذ صدمته مشاعرها المكبوتة، والجمه انفجاره كلماتها كالقنبلة الموقوتة، فلم يقو على التفوه بما يعتمل في صدره تجاهها، ولم يقدر على الدفاع عن نفسه وتبرير خطأه أمامها، بل اكتفى بالاندفاع نحوها، يقبض على معصمها ويمنعها من لملمة أشلاء الزجاج المبعثر تمامًا كأفكاره، قائلًا في خفوت حرج :
-(( حاسبي أيدك هتتعوري ))..
دفعت كفه قائلة في نبرة محتدة :
-(( سيب إيدي أنا مش صغيرة ))..
قال في نفاذ صبر وقد انصب كامل تفكيره وتركيزه على حماية يدها :
-(( طب خليني أساعدك ))..
هتفت في إصرار، بينما أصابعها تلتقط قطع الزجاج في إهمال شديد وكأنها تتعمد فعل ذلك :
-(( لا ))..
تراجع للخلف خطوة يراقبها في قلق مقرر إعطائها مساحتها كاملة، قبل أن تصرخ متألمة حيث خدشت إصبعها إحدى قطع الزجاج الصغيرة فسارع يدفع جسدها بعيدَا عن موقع الحادث هاتفًا في تقريع :
-(( قلتلك خليني أساعدك.. مبسوطة لما اتعورتي!! ))..
عادت مندفعة إلى مكان وقوفها الأساسي تزاحم موقع انتصاب جسده بعدما نفضت نثرة الزجاج الضئيلة العالقة بالطبقة السطحية لجلدها، وقد أثار حفيظتها إخفاقها والظهور بمظهر الفاشلة أمامه، لذا هتفت تقول في إلحاح وهي تدفع معصمه في قوة وعنف خارج المغسلة تحديدًا حيث وضعت هيكل الكوب المدبب منذ قليل :
-(( مفيش دم يبقي متعورتش.. ولو سمحت سبني أشوف كنت بعمل إيه!! ))..
ثانية واحدة هي كامل المدة التي استغرقتها في خفض رأسها قبل أن تُعيد رفعها مرة أخرى في لهفة عندما تهادى إلى مسامعها صرخة ألم مكتومة فلتت من بين شفتيه أجبرتها على النظر إليه وتفحص وجهه المتألم كي تستبين سببها، قبل انزلاق عينيها المتسعتان عن أخرهها في قلق إلى معصمه المرفوع ورؤية خط الدم اللزج المنساب فوق جلده والمتدفق من شق عرضي عميق نتيجة لاحتكاك ذراعه بالحافة الحادة لحطام الكوب عندما دفعته نحوه دون تركيز، تلي ذلك شهقة صدمة قوية كادت تصيبها بالاختناق من شدتها، وفترة من الجمود حيث ظلت ملتصقة بالأرضية أسفلها دون حراك، وقد أختفت الحروف فلم تستطيع تشكيلها على هيئه كلمات تامة، توزع بأطراف مرتعدة، ووجنتين شاحبتين، وشفاهيين مرتجفتين نظرها بين وجهه وجرحه حتى عرفت ينابيع الدموع أخيرا طريقها إلى وجنتها، فبدأت تنتحب في صمت وقد أعاد إليها البكاء القدرة على التحدث، فاندفعت تتلمس ذراعه في حذر وخفة، مغمغمة من بين شهقاتها التي أخذت في الارتفاع :
-(( أنا آسفة.. أنا غبية.. أ.. أنا معرررفش عملت كده أزي.. مقصدش والله أنا آسفة ))
همس مطمئنًا من بين شفتيه المذمومتين للأمام متحاملًا على الحرقة التي تضرب جلده :
-(( متخافيش محصلش حاجة.. جرح بسيط ))..
لم يكن واضحًا من رد فعلها التالي أنها تستمع إليه، إذ استمرت تغمغم في هيستريا دون توقف :
-(( أنا مش بني أدمة.. أنا واحدة مبتفهمش.. مبتعرفش تعمل حاجة.. أ أنــا معرفش أزي زقيتك كده!.. مكنتش اقصدك والله ))..
صاح بصوت أقوى من ذي قبل يعيدها به إلى الواقع بعدما مد ذراعه الأخر نحوها يتلمس عضدها، فمن مظهرها الأولي يبدو أنها على وشك السقوط في نوبة هلع :
-(( علياء أنا كويس محتاج بس أطهر الجرح وألفه مش أكتر ))..
أجفل جسدها من لمسته البسيطة وتراجعت على إثرها للخلف مبتعدة عنه، ثم صرخت تدفع يده عنها صارخة في اهتياج :
-(( متقربش مني هأذيك تاني.. زي ما ضايقت بابا ووقع بسببي.. أنت كمان بتنزف بسببي.. كلكم بتتعبوا بسبب تصرفاتي ))..
ضغط فوق جفنيه في قوة بعدما لاحظ ارتجاف جسدها واصفرار وجهها، مقررًا الركض سريعًا نحو المرحاض ومعالجة جرحه، ثم العودة إليها ومساعدتها على تجاوز أزمتها فهو للأسف يحتاج إلى وقف الدماء أولًا حتى يتمكن من فعل ذلك.
وبعد حوالي عدة دقائق لم يتوقف خلالها انتحابها بل ارتفعت وتيرته، هرول عائدًا إليها بأقصى سرعة ممكنة بعدما نجح في تضميد جرحه فوجدها جالسة فوق الأرضية الرخامية الباردة، تضم ساقيها إلى صدرها وتهمس باكية في حسرة :
-(( أنا مليش لازمة.. كل ما باجي أعمل حاجة بفشل فيها وتبوظ.. عمري ما نجحت في حاجة.. وهو دايمًا كان بيتريق عليا بس عنده حق.. أنا مدلعة ومبعرفش أعمل حاجة صح ))..
أبتلع لعابه في ألم تفاعلًا مع حزنها، ثم أخذ يصر على أسنانه في غيظ، سخطًا وحنقًا على ذلك النذل الأحمق الجبان، حيث فهم بسهولة هوية من ترمي إليه بحديثها، هامسًا في نعومة بعدما جثا أمامها ورفع ذراعه يدلك بأصابعه أسفل عنقها، بينما رفع ذراعه الأخر المصاب في وجهها يطمئنها بحنانه، يبتغي بذلك صرف إحساسها بالذنب وشغل فكرها :
-(( أنا كويس حتى بصي.. الدم وقف كان مجرد خدش مش أكتر أنتِ ملكيش ذنب فيه.. ده غلط ممكن يحصل لنا كلنا.. أنا اللي ماخدتش بالي ))..
صمت لوهلة يراقب رد فعلها إذ نجح في جذب انتباهها وبدا ذلك واضحًا من خلال نظرة الارتياح التي اعتلت عدستيها بعدما رفعتهم نحو ذراعه ورأت الضمادة البيضاء النظيفة تغلفه، ثم أردف يقول في نبرة حانية ولكن حاسمة لا تقبل مجالًا للشك، مستأنفًا تدليك عنقها :
-(( وبعدين أنا شايف قدامي واحدة اتحملت مسؤولية بنت أخوها بدل أهلها اللي انفصلوا.. ومش بس كده دي نجحت فيها وأكبر دليل على كلامي حب وتعلق لينة بيكي.. واحدة شاركت والدتها مسؤولية والدها المريض.. وتعلقه وفخره بيكي باين في عيونه مش محتاج كلام.. واحدة متغرتش بفلوس عيلتها أو استكبرت بالعكس كانت بتنزل تساعدنا في مشروع ملجأ الأيتام لحد ما خلص واستحملت التراب والتعب والشمس من غير شكوى.. الواحدة اللي حكمتي عليها بالفشل دي عرفت تتغلب على موقف خطفها في نفس اليوم.. ودارت خوفها عن باباها وقامت تستقبله بضحكة وهي مصابة بارتجاج عشان ميتعبش رغم أن أيديها كانت لسه بتترعش من الصدمة قدامي.. ولو غيري شاف أنك شخصية ضعيفة أو مدلعة ولا حتى فاشلة فـ دى نظرته في نفسه مش فيكي.. عشان أنا شافي قدامي جوهرة وقعت في الايد الغلط ومش محتاجة أكتر من أنها تقف في المراية وتشوف هي قد إيه عظيمة زي مانا شايفها ))
علا صدرها وهبط في عنف من نوع آخر استقبله هو برضا تام، ثم مررت حدقتيها المشرقتان بوهج محبب فوق وجهه وقد بدأ كامل جسدها يرتخي تحت لمسته الناعمة، ثم فجأة شعرت بالبرودة تسري بأوصالها فور توقف أنامله وكأنه كان يجاهد لإيصالها إلى بر الدفء، ثم دفعها خارجًا فور خطها عتبته دون سابق إنذار، فهمست تستجديه الاستمرار متوسلة :
-(( لا متوقفش ))..
اعتلي ثغره ابتسامة تلبية واسعة ثم عاد يداعب جلدها في نعومة وترو بعدما جلس قبالتها في وضع أكثر راحة وقربًا، يحاوط خصرها بذراعه الآخر ويدفع جسدها في اتجاهه فأصبح بذلك مَلَاحِمً لها، لا يفصل بينهم سوي إنشات بسيطة محاها بأراحة جبهته فوق خاصتها هامسًا في حشرجة :
-(( نفسي أقوالك حاجات كثير ونفسي أعمل حاجات أكتر.. لو بس تسمحي لي! ))..
تقلصت رئتيها بسبب قربه حتى بات دخول الهواء إليهما مهمة شبهه مستحيلة، ثم همست اسمه بأنفاسها اللاهثة من بين شفتيها المرتعشة :
-(( يحيي! ))..
تنهد في حرارة يراقب مفتنونًا اللون الأحمر الزاحف فوق وجنتيها، ويتلمس بشفاهه الحرارة المنبعثة من بشرتها، هامسًا في شوق :
-(( صوتك حلو آوي يا عالية.. متعرفيش قد أيه حلمت أسمعه منك بالطريقة دي من غير تأنيب ولا ذنب ))..
ارتعشت أهدابها وثقل جفناها أسفل قبلاته الخفيفة الناعمة التي طفق يوزعها فوق شطر وجهها، تستقبل صهد عاطفته في استسلام تام فحتى وإن وجدت إرادتها المسلوبة لمقاومته، لن تجد صوتها أو قوتها لإيقافه، بينما طافت أصابعه الطويلة في توق شديد الجانب الأخر، قبل أن ينزلق بشفتيه الناعمتين إلى ثغرها يحتضنه في شوق طال انتظاره، يرفض الابتعاد عنها وكأنه قد وجد أخيرا راحته وسلامه، حتى قطع اتصالهم الحسي قبل الجسدي رنين هاتفه في اتصال ملح، تجاهله للمرة الأولى حتى الثالثة، رافضًا تحرير أو إفلات شفتيها، حتى دفعته هي بأكف مرتجفة في طلب ملح من رئتيها للهواء، ثم غمغمت تطلب في خجل :
-(( يحيى رد ممكن يكون حد من أهلي عايز يطمن عليا ))..
انحني برأسه يطبع قبلة مطولة فوق جبهتها كعلامة موافقة، قبل أن يخرج من جيب ردائه الخلفي هاتفه وينظر في شاشته متأففًا، ومجيبًا على الطالب في سأم بعدما ضغط فوق مكبر الصوت، وحاوط ظهر زوجته بذراعه يأسرها تحسبًا :
-(( خير يا جيداء ))..
هتفت تقول في لهفة فور سماعها صوته :
-(( يحيى ألحقني ضروري محتجالك ))..
حدث ما توقعه إذ شرعت علياء في دفع جسده بعيدًا عنها ولكنه استبقها بلف ساقه هي الأخرى حول خصرها فأصبحت مكبلة بأطرافه :
-(( في ناس متبعاني بالعربية من بدري.. ولما ركنت ودخلت الكافية دخلوا ورايا وبعدها لقيتهم بيحاوطوني ويجروني لمكان مهجور ورا الكافيه ))
قاطعها يقول في عدم اهتمام :
-(( أكيد ليهم علاقة بالناس اللي أنتِ شغالة معاهم.. ولا فكراني مش عارف أنك شغاله مع ناس مشبوهة! ))..
وصلهم عبر مكبر الصوت بعض السُبات الخارجة، يليها صوت صراخ، قبل أن تقول في ذعر :
-(( الناس بتجري ورايا عشانك.. بيقولوا بسبب الورق اللي أنت مخبيه عن واحد اسمه نادر ))..
شحب وجهه وأهتز الهاتف داخل يده نتيجة لارتجاف كفه ولم يعقب، بينما أردفت هي تهمس متوسلة في فزع :
-(( أبوس أيديك متسبنيش.. أنا بحاول اهرب منهم بس هما محاوطين كل المكان ومش عارفة أوصل لعربيتي.. ))..
صرخة أخرى عالية اخترقت أذنيهم، تلاها صوت لطمة قوية ميزها بوضوح، صادحًا بعدها صوت خشن يقول في تهديد موجهًا الحديث إليه :
-(( هات الورق بتاع القضية واحنا هنسيبك ونسببها في حالكم ))..
رفع يحيى نظره يطالع بأحداق زائغة علياء التي همست تستفسر في رهبة بعد انقطاع الاتصال :
-(( إيه اللي بيحصل بالضبط!! ))..
أجابها في عُجالة بعدما ركض نحو غرفة مكتبه يبحث عن بعض الأوراق الهامة وتبعته هي كظله :
-(( هفهمك بعدين ))..
صمت لوهلة ثم أردف يقول في توجس وهو يقلب بعض الأوراق التي أخرجها بين أصابعه :
-(( عالية أنا لو نزلت دلوقتي!! ))..
تفاجئ بها تقول في عقلانية إذ استمعت إلى المخابرة الهاتفية كاملة :
-(( رغم أني مش فاهمة حاجة بس لو تسليمك الأوراق ده هيحميها ويحميك روحلها ))..
هرول يطبع قبلة شاكرة فوق جبهتها وفمها وكلتا وجنتيها، ثم تمتم يقول مُمْتَنًّا في عشق نضحت به عيناه :
-(( هسلمه عشان أمانك أنتِ مش حد تاني.. وهسيب باب البيت مفتوح وتليفونك على الكومود أهو ))..
أشار بعينيه نحو مقصده ثم استطرد يقول في نعومة هزت دواخلها :
-(( مش هجبرك على أي حاجة ولا حتى أنك تسمعيني.. بس بترجاكي تستني لحد ما أرجع عشان لازم أقوالك حاجة مهمة.. اعتبريه آخر طلب ليا ))..
حركت رأسها موافقة رغم الحيرة وقلة الفهم البادية فوق ملامحها، تراقب في قلق انسحابه من أمامها شاعرة بقبضة قوية تعتصر قلبها عند سماعها جملته الأخيرة، داعية خالقها سِرًّا أن يعيده إليها سالمًا وأن يخطأ حدسها.
****************************
جلست القرفصاء فوق أريكتها المفضلة تهز ساقها في توتر، بينما تقضم بأسنانها أظافر أصابعها في عصبية زائدة بعدما حاولت جاهدة صرف تفكيرها في شتى الاتجاهات وفشلت، ترفع الهاتف ثم تتذكر فحوى رسائل التهديد المبعوثة إليها، فتسارع بإلقائه بعيدًا عنها وكأن هناك شبحًا مخيف باغتها بالظهور فجأة من خلف شاشته، قبل أن تعود وتلتقطه من جديد في تردد، تكاد تموت يأسًا لسماع صوته دون وجود سبب مقنع لتلك الرغبة المتملكة منها منذ الصباح الباكر، مدعومة بذاك الإحساس المقيت بالذنب المحتل كافة دهاليز عقلها ويظل يهمس ويهمس دون توقف معاتبًا إياها على تركه ينتهي من إجراءات استلام ودفن طليقته بمفرده دون عرضها المساعدة ولو من باب المجاملة والذوق بعد أن وصل إليها جَلْيًٌا من خلف نبرته الباهتة مدى حزنه ووحدته حتى وإن كان يتظاهر بالصلابة أمامها وأمام الجميع، ألا تُغني تلك الذريعة!، ومن ثم من ذا الذي يحتاج إلى مبرر للقلق على رفيقه!، نعم رفيقه حتى وإن كان عمر صداقتهم لا يتعدى سوى أشهر قليلة ولازالت في طور النمو، ولكن يكفيها وجوده جوارها في كل المواقف التي وجدت بها نفسها تقف وحيدة تائهة، ولم تربت على كتفها سوي يده، ولم يحتوي ضعفها سوي تفهمه، ثم أن عمر الصداقة الحقيقية تقاس بالمواقف، الشدة، والأزمات، وليس بالأيام والليالي، وبهذا التبرير الذي خلقه عقلها رفعت سماعه الهاتف تخابره وتنظر مضطربة أجابته التي جاءتها بعد الرنة الرابعة وقد أحصت عددها حَقًّا، يقول مرهقًا :
-(( ألو.. ))
تنحنحت عدة مرات ثم قالت في ارتباك جديد العهد بها :
-(( ألو جواد.. بعتذر لو أزعجتك.. بس بتصل برحمة أطمن عليها تليفونها مقفول.. وهي كانت قايلالي رايحة الشركة عندكم النهاردة.. ينفع تطمني عليها لأن الوقت أتأخر وهي لسة مرجعتش؟ ))..
كانت هذه كذبة لعينة منها، فهي تعرف تمام المعرفة أن رفيقتها بصحبة زوجها، وإن لاح اسم طاهر في الأفق فذلك يعني الأمان التام بالنسبة إليها، فقط تمنت أن تكون نبرة صوتها طبيعية بشكل كافِ لإقناعه، وقبل أن تغوص في شعور أخر من التأنيب أتاها صوته يقول في بساطة :
-(( لا متقلقيش.. احنا بس خلصنا الاجتماع والمراجعة متأخر ولست متحركين من شوية.. وتلاقي رحمة نست تفتح تليفونها بعد الاجتماع.. عَمَّتَا هي مع طاهر المفروض هيوصلها.. يعني حتى لو تأخرت مش عايزك تقلقي ))..
حركت رأسها عدة مرات موافقة في بلاهة لم تعتدها، وكأنه يراها من خلف الشاشة!، حَقًّا ما بالها اليوم ترى نفسها غارقة بين ثنايا أمواج متلاطمة في بحر التصرفات والرغبات الحمقاء!، صرت فوق أسنانها في غيظ، ثم قالت بعدما سعلت في خفة غير ضرورية وقد ارتأت في سكوته فرصة مناسبة للحديث :
-(( أحم.. جواد عايزة اعتذر لك أني بلغتك بالخبر الصبح وسبتك لوحدك.. بس كان عندي محكمة وأنت عارف صعب أسيب مرافعة ومحضرش ))..
حسنًا، ها هي تكذب للمرة الثانية في أقل من ستون ثانية، يبدو أن اليوم هو يوم المفاجآت بالنسبة إليها، أو يمكنها تسميته بيوم إعادة اكتشاف الذات، بينما قال هو في نبرة خالية قاطعًا المجال على مزيد من التحليلات النفسية العميقة المسيطرة على أفكارها :
-(( وجودك مكنش هيفرق في حاجة أنا كنت متوقع ده يحصل في أي لحظة بعد رفض الاستئناف.. يعني إعدامها كان مسألة وقت.. وبعدين كثر خيرك أنك متابعة قضية ملكيش فيها وكنت بتبلغيني كل حاجة أول بأول.. أهم حاجة عندي دلوقتي لينة وازاي أحميها................ ))..
أخذ قلبها يضرب في عنف بين صدورها كمن يبغي التحرر من سجنه فور ذكره سيرة طفلته الصغيرة الرائعة، وراح خيالها الخصب يسحبها دون وعى منها داخل صورة حية مجسدة لعالم مثالي يجمع ثلاثتهم معًا، حيث تركض هي في حرية واستمتاع داخل إحدى المروج الخضراء وتركض أمامها صغيرته بصوت ضحكاتها المرحة الرنانة مطاردة إحدى اليرقات اليافعة، في تناغم تام مع تغريد طائر الكناريا المحلق فوق رؤوسهم، بينما يجلس هو على مقربة منهم يتابع في سعادة لهوهم المحبب إلى قلبه، متجاهلة بنفس يائسة جرس الإنذار الصادع من مكان ما في نهاية عقلها ويخبرها بأنها أضحت في منطقة محظورة وعليها التراجع قبل فوات الأوان، قبل أن يعيدها إلى أرض الواقع هتاف صوته يسألها في استنكار :
-(( ألو.. غـفــرررران.. سمعاني ))..
سارعت تجيبه في شرود :
-(( معلش.. ماخدتش بالي كنت بتقول إيه ))..
قال مازحًا في عادة لم يَتَخَلِ عنها :
-(( بقالي ساعة بنادي.. طب بدل ما أتكلم ع الفاضي نبهيني أنك مش عايزة تسمعي ))
غمغمت معتذرة في حرج كمن قُبض عليه متلبسًا بالجرم المشهود :
-(( أنا آسفة عندك حق.. بس كننـــ.......... ))..
هذه المرة جذب انتباهها أصوات صياح قادمة من الخارج سرعان ما ميزت إحداها فور سماعه فهتفت تغلق معتذرة في لهفة :
-(( جواد أنا آسفة بس تقريبًا في خناقة في الشارع وحاسة إني سامعة صوت مصطفى أخو رحمة.. هروح أشوف ))..
قال في قلق :
-(( طب محتاجة أجيلكم.. كده كده أنا في الطريق مع لينة هخرجها شوية تغير جو؟! ))..
اجابته وهي تركض نحو النافذة تتأكد من صدق ظنونها قبل أن تقول في لوعة وقد هرولت نحو باب المنزل ومنه إلى الشارع، إذ صدق حدسها :
-(( متقلقش هشوف واطمنك،.. ولو في حاجة هكلمك على طول ))..
أنهت المكالمة في التزامن مع وقت وصولها إلى موقع التنازع ثم صاحت تسأل في تأهب وذعر بعدما دفعت بعض الرجال المتجمهرين من حوله يحاولون فض الاشتباك القائم، ووصلت إليه :
-(( في إيه!!.. مالك يا مصطفى؟!.. بتتخاتق مع مين هنا؟ ))..
أجابها في اهتياج وهو يشير مزدريًا برأسه نحو الجهة المقابلة له :
-(( ده واحد ***** سمعته بيتحرش ببنت معدية.. ولما بقوله عيب كدة مش عاجبه وبيغلط كمان! ))..
صاح الصبي الأخر يقول بصوته الرفيع المتناسب تمامًا مع حجم جسده وسنه الصغير إذ يبلغ في أقصى تقدير السادسة عشرة من العمر :
-(( وانت مالك!.. دي خطيبتي وانا حر معاها.. انت بتتحشر ليه يا ****** ))..
حاول مصطفى الإفلات من الجمع المحاصر جسده بنية الانقضاض عليه من جديد دون جدوى، فالكثرة تغلب الشجاعة، وعدد أيدي الرجال القابضة على ذراعيه وكتفيه تفوق قوته، بينما أندفعت غفران تقبض على ياقة المعتدي تجذبه من خلالها وتقول في نبرة محتدة عالية لا تحمل المزاح :
-(( ولا.. متفكرش أننا ساهلين.. أنا محامية وعندي جمعية خيرية وموقع وناس كثير.. يعني أقسم بالله لعملك محضر دلوقتي ولو شاطر توريني رجولتك اللي بتشطر بيها ع البنات سامع ولا أقول كمان؟! ))..
تراجع الفتى قائلًا في استسلام جرح كرامته المراهقة :
-(( قوليله هو اللي بدأ يشتمني ))..
تدخلت بعض الأصوات الذكورية الخشنة من قاطني المنطقة تقول في عقلانية لمنع تفاقم الأمور :
-(( خلاص يا أستاذة حصل خير.. وأنت يا مصطفى اطلع مع الأستاذة وهو عرف غلطه ومش هيكررها ))..
جذبت غفران ذراع مصطفى الرافض التحرك من مكانه تجبره على السير معها، حيث توقف يراقب الحركات البذيئة التي يقوم بها ذلك الطفل من خلفهم نكاية به، قبل اختفاءه من أمام ناظريهم، وقتها هتفت غفران تقول معاتبة :
-(( ينفع كده يا مصطفى.. قلبي وقع في رجلي لما سمع صوتك تحت.. أنت أمانة عندي مينفعش التهور ده.. وبعدين افتكر أختك قبل ما تتخانق مع حد )).
تأفف في حنق ثم هتف مدافعًا عن موقفه في شراسة :
-(( يعني عايزاني أشوفه بيتحرش بواحدة واسكت؟!.. وبعدين ده عيل كداب البت مش خطيبته دي كانت عيلة صغيرة معدية.. ولولا إني لحقته كان زمانه مد أيده عليها ))..
توقفت عن السير تطالعه بإعجاب وقد راقها رد فعله الشهم، تحاول السيطرة على لمعة الفخر التي غلفت عدستيها حتى لا يظنها راضية بشكل صريح عن فعلته، ثم قالت في نبرة شبهه طبيعية بعدما ربتت على كتفه :
-(( خلي بالك من نفسك.. الدنيا الفترة دي مش أمان.. بلاش تهور عشان خاطري.. ومفيش داعي نحكي لرحمة عشان متتخضش هو عيل سيس وجري ))..
أومأ برأسه موافقًا عن الجزء الأول من طلبها في عدم اقتناع، فقد رآه مجرد موقف عابر وانتهى ولا يستدعي كل ذلك القلق، متفقًا معها تمامًا عن الشق الخاص بشقيقته، متابعًا سيره خلفها ينظر في وداع إلى المباني العتيقة المتراصة في شموخ من حوله حيث أن الليلة هي الليلة الأخيرة لهم في ذلك المنزل كما اتفق مع شقيقته على الانتقال.
*******************************
يظل المرء طوال حياته يكابر في عناد زائف فعل ما يشتهيه حتى تأتيه اللحظة الفاصلة، وقتها يدرك كم كان أَحمَق حين أصر على إضاعة فرصه الراحلة!.
صرير مرتفع يكاد يصم الآذان نتيجة احتكاك مكابح السيارة بالأرضية، يليه دوى اصطدام هيكل السيارة الأمامي بالخرسانة المسلحة ذات الارتفاع المنخفض، تبعه طقطقة عالية لبدأ تهشم الزجاج الأمامي، وأخيرًا صخب اندفاع الغاز داخل الوسائد الهوائية أمامهم ومن حولهم، كل ذلك حدث في أقل من الدقيقة، قبل أن يعم السكون المكان، حتى من صوت أنفاسه التي اختفت رُوَيْدًا رُوَيْدًا من حولها، ولم يَتَبَقَّ سوي همهمات ضعيفة خافتة خارجة من شفتيها المرتعشتين يصاحبها في وتيرة متزايدة ومتوقعة لهاث أنفاسها وقتذاك، وقد أعلنت رئتاها عليها العصيان، وما بين عجزها عن التقاط الأنفاس وبين هلعها خوفًا عمن يجلس جوارها دفعت بأكف مرتجفة القماش الرقيق اللزج (النايلون) للوسادة الهوائية من حول جسدها، مستأنفة إزاحة ما يقابلها في طريق يدها إلى جسده هو الأخر حتى تتمكن من رؤيته، بينما شفاها لا تتوقف عن الهمس بأسمه من بين شهقاتها المتتالية الباكية :
-(( طاهر.. طاهر.. لا.. عشان خاطري رد عليا ))..
للوهلة الأولى وربما بفعل الصدمة لم يصله صوتها ولم يقو على التحدث أو الحركة، ومن ثم وبعد لحظات عندما بدأ يعي ما حوله، تهادى إلى قوقعة أذنه بوضوح نحيبها الخفيض والممزوج بلهاثها المرتفع، تزامنًا مع شعوره بتحريك كفها فوق جسده كي تتأكد من سلامته، وقتها همس يقول في ضعف :
-(( أنا كويس متقلقيش ))..
قالت وقد واشكت على الإغماء من فرط الذعر والانفعال إضافةً إلى انقباض رئتيها :
-(( أن ن.. أنــت آااااخـ.. خدت الضربـة كلـ.. كلاالها ناحيــتك ))
إبعد في بطء شديد وبقدر ما سمحت له قدرة ذراعه وقفصه الصدري المتألم، قماش الوسادة الهوائية من أمام جذعه ومن حول خصره حتى يستطيع التحرك، ثم قال في وهن بعدما أحتضن كفها وضغط برفق فوقه مطمئنًا :
-(( أنا كويس الخبطة مكنتش جامدة.. والمخدات خففت الضربة.. وبعدين سرعتنا مكنتش عالية متخافيش ))..
ضغط فوق شفتيه بعدما صمت فجأة في قوة، إذ باغته الألم على حين غرة بضربة شديدة في منتصف قفصه الصدري مما أجبره على التوقف عن التحدث حتى يتجاوز ذروتها، قبل ابتلاعه لعابه في صعوبة لم تخف عليها، فسارعت برفع يدها تتحسس جانب وجهه وجبهته وتتأكد من خلوهم من الدماء أو الإصابات الظاهرية، مغمغمة في إنهاك شديد لدرجة إنها لم تعد تقوى على النطق بأحرف كلمة متواصلة دون التريث لسحب عدة أنفاس من فمها :
-(( لا مــش كـو يـس.. أ.. أنــا الس.. سببـب ))..
رفع ذراعه يمسح فوق رأسها مهدهدًا وقد أنهكه ذلك الفعل البسيط، ثم سأل في حنو وقد غفل عن الاطمئنان عليها :
-(( أنا كويس والله.. شكلها بس كدمة قوية.. المهم أنتِ كويسة ))..
حركت رأسها مؤكدة في نصف إيماءة حيث تمكن منها ضيق النفس بشكل تام، فارتخت على أثره يدها من فوق وجهه واستحال لون بشرتها إلى الزرقة فسارع في تلهف وقد أندفع فجأة الأدرينالين إلى سائر جسده فور شعوره بخطر الاختناق يداهمها، يبحث عن حقيبة يدها ولحسن حظه كانت قابعة في المسافة الضئيلة ما بين مقعده ومقعدها فقام بفتحها وإخراج بخاختها الطبية، وبمجهود خارق استطاع رفع ذراعه نحو فمها ودفع البخاخ داخله قبل ضغطه فوقه في ضعف تاركًا رذاذه يتخذ مجراه المعروف إلى حيث جهازها التنفسي لتوسعة انابيبه، ثم انتظر يترقب في قلق حتى عادت ملامحها إلى عالم الأحياء، وقتها فتح على مهل باب السيارة وخرج منها الهوينى يُقيم مدى سوء الوضع، حامدًا ربه سِرًّا على الوسائد الهوائية التي قام بتركيبها فور شرائه السيارة تحسبًا، وعلي حسن قراره في تقليل السرعة حينما بدأت مناوشاتها الهوجاء تشغله عن القيادة، ولولا ذلك لما كان واقفًا فوق قدميه الآن، مقررًا بعد فترة من التفكير إخراج هاتفه وطلب المساعدة من سائقه الخاص، قبل أن يتوجه نحو باب السيارة الأخر حيث تجلس هي، يفتحه ويسحب كلتا ذراعيها نحوه بعدما جلس القرفصاء أمام بابها المفتوح، يسألها في حنو بعد أن أصبحت في مواجهته، إذ استدارت بجسدها نحوه مستجيبة لحركة ذراعه في جذبها تجاه جلسته، ثم أنزلت قدميها فوق الأرضية الأسفلتية خارج حدود السيارة وطأطأت رأسها أرضًا في خزي واضح ترفض رفع عينيها في مواجهته غير قادرة على التحكم في مجرى دموعها المنهمرة :
-(( بتعيطي ليه؟!.. في حاجة وجعاكي؟! ))..
حركت رأسها نافية في بطء، بينما شهقات بكائها تزداد إرتفاعًا، فزفر مطولًا ثم أستطرد يسأل من جديد في إرهاق واضح ولازال يحتضن كفيها داخل كفيه :
-(( طب بتعيطي ليه؟ ))
انخرطت في نوبة قوية من النشيج وقد تعاظم شعورها بالذنب بفعل لمسته الحنونة ونبرته المهتمة الناعمة، مما دفعه إلى سحب جسدها إلى الخارج ولف ذراعيها حول خصره بعد انتصابه واقفًا، متجاهلًا الألم الذي عصف بعضلات صدره فور إسناد رأسها فوقه، وظل يضمها إليه ويمسح فوق ظهرها حتى هدأت نوبة بكائها وقتها عاد يسأل من جديد :
-(( لو هديتي ممكن اعرف بتعيطي ليه كل ده!.. احنا الحمد لله كويسين ))..
إجابته في نبرة مختنقة محتفظة بآثار البكاء بين طياتها، وقد عادت طفلة تخشي مواجهة والدها بما أجرمته حتى لا تُعاقب :
-(( عشان أنا السبب في اللي حصل ))..
رفعت رأسها تنظر إليه للمرة الأولى بأعين منتفخة وأنف قرمزي من كثرة البكاء، ثم سألته في حيرة بعدما ابتعدت عنه مسافة قليلة حتى يتسنى لها رؤيته بشكل أوضح :
-(( أنت عملت كده ليه؟! ))..
سألها في عدم فهم :
-(( عملت إيه؟! ))..
أشارت بوجهها نحو السيارة ثم قالت شارحة :
-(( ليه حودت بالعربية يمين ))..
أجابها في بساطة وكأنه يخبرها عن حالة الطقس أو الساعة :
-(( عشان الخبطة متجيش فيكي ))..
رفرفت بأهدابها المحتفظة ببقايا دموعها في دهشة، ثم همست مستفسرة في عدم تصديق :
-(( عشاني!!.. كنت هتضحي بنفسك عشاني!! ))..
أومأ عينيه مؤكدًا في نظرة لا تحتمل التشكيك ولم تكن حركاته أو نبرته تزيد عن الضرورة بسبب الألم المتزايد داخل أضلعه كلما مر الوقت، فأردفت تقول مستنكرة :
-(( بس أنا مش أهم منك ))..
قاطعها معترضًا في محبة :
-(( أنتِ ليه مش عايزه تصدقى أنك أهم من النفس اللي بطلعه ))..
هالتها جملته وصدمها إيثارها على حياته، بل هالها الموقف ككل وألجمها فعله قبل حديثه، وبعد فترة من التحديق به في ذهول، همست تقول مؤنبة، تتمنى داخلها لو أتخذ تلك المرة من مصارحتها حلًا بديلاً عن الصمت، فإما التحدث الأن أو السكوت للأبد، وبعد معايشتها فكرة خسارته، لم تعد تنتوي الهروب أو التأجيل، حتى وإن كان معناه أن تبدأ بالتحدث أولًا متنازلة عن فكرة سياسة النفس الطويل أو كبريائها الأنثوي :
-(( وعشان كده خالفت وعدك معايا وسبتني كل الشهور اللي فاتت دي مفكرتش حتى تسأل عليا مرة ))..
لم تكن نبرتها محتدة أو مرتفعة كعادتها رغم الحزن الواضح بها، ولم تكن عدستاها تطلقان شرارها المعتاد ككل مرة تقف بها قُبالته، بل كانت ناعمة هادئة تلمع بمزيج من العتب والحنان، فلم يشعر سوي وهو يسأل معترفًا في عجز :
-(( رحمة.. أنتِ لسة عندك شك أني بعمل كل حاجة ليكي وعشانك حتى لو هتزعلك مني!!.. ده أنا حتى غيرت من شكلي عشان تكوني مرتاحة!!.. معقول مفهمتيش ده لوحدك؟!.. ))
نبض قلبها، بل قفز من مكانه وهي تتراجع عفويًا للخلف عنه مصاحبًا حركتها العشوائية شهقة مندهشة خافتة فلتت من بين شفتيها، بينما تعمدت تسليط أنظارها فوق وجهه وداخل عيناه تتأكد من صدق ملامحه وحديثه، وبعد أن اتخذت وقتها كاملًا في استيعاب جملته والحملقة به في بلاهة، همست تسأله في تيه أحمق :
-(( عشاني!!! ))..
حرك بؤبؤ عينيه في تململ واضح وتجعدت ملامحه في سخرية، ثم تشدق مجيبًا في تهكم أغضبها :
-(( لا عشان السكرتيرة اللي عندك ))..
طغت شعلة غضبها على شعور الإنهاك المتمكن من كافة خلاياها، فسارعت تقول محذرة في حدة ففي وضعهم الحالي أخر ما تود سماعه هو سيرة إمرأة أخرى تقال على لسانه :
-(( متستهبلش! ))..
هتف يعقب في نزق ولم ينكر خفقة الفرح التي أصابته فور استشعاره غيرتها :
-(( وأنتِ متستعبطيش!!.. أنا مشاعري واضحة وصريحة من الأول مش محتاجة افكرك بيها.. أنتِ اللي صممتي تمشي وتبعدي بعد ما صارحتك بحبي من غير حتى ما تبصي وراكي.. أنا رميت كل أوراقي قدامك.. مش بس أوراقي كمان كرامتي!!.. وركعت قدامك اترجاكي نبدأ من جديد وأنتِ اللي رفضتي إيدي الممدودة.. ومكتفتيش بكده.. ضربتي في وشي أسوأ حاجة ممكن راجل يتصارح بيها أو يسمعها.. إني بفكرك بواحد تاني بتكرهيه.. حتى لو التاني ده توأمي الميت ))..
صاحت معترضة في استنكار وقد انفلت عقد الكلمات من لسانها :
-(( ومين قالك إني مندمتش!!.. مين قالك إني مكنتش عايزه أرجع من أول ما خطيت برة باب الأوضة!!.. مين فهمك إني صممت أمشي مش عشانك!! ))..
صمتت لوهلة تبتلع لعابها وتبلل شفتيها الجافتان ثم أردفت تقول في نبرة متهدجة وحسرة وكأن كلماتها تأن وجعًا منها :
-(( أنا مكنتش عايزه أبعد عنك خطوة واحدة حتى بعد اللي مرينا بيه في الأول.. ولو كان في لحظة في حياتي أسوأ من لحظة صحياني جنب جثة عمرو والدم مغطيه.. فهي لحظة رفضي ليك بعد ما اعترفتلي بحبك.. بس أنا كمان إنسانة.. كان نفسي أعيش معاك حياة طبيعية لما اكون أنا طبيعية وأقدر اتخطى اللي حصل.. وإني أدخل بيت جوزي وأنا رافعة رأسي وأيدي في أيده مش وأنا مجرورة عشان يستجوبني ويعرف مني مين قتل أخوه وإزاي ولما الظروف اضطرته أتجبر يتجوزني مؤقت ))..
سحبت نفسًا عميقًا تحافظ به على توازن رئتيها وتمنع اختناق العبرات من الطفو سطحًا وفرض سيطرتها على نبرة اعترافها ثم استطردت تقول في حشرجة وتيه :
-(( أنت متعرفش أنا عشت الأيام دي أزاي!!.. عارف كام كابوس مريت بيه في ال٧ شهور دول وصحيت لوحدي من غير ما ألاقيك بتقولي انك طاهر مش عمرو وإنك عايش؟.. عارف كام مرة اتخنقت وملقتش أيدك تلحقني بالبخاخ وتطلب مني اتنفس بالراحة؟.. عارف كام مرة كتبت في مذكراتي عنك؟ ))..
أطلقت ضحكة مريرة قبل استئناف عتابها وقد فقدت السيطرة على إيقاف دموعها فتركتها تنهمر كيفما شاءت هي وسيل كلماتها المتدفق :
-(( مش كام مرة.. أنا أساسًا مبكتبش غير عنك.. عارف أنا كنت بنام على أمل أن بكرة ممكن يجي والاقيك قدامي زي ما وعدتني مش هتسبني.. وبقوم الصبح على أمل أن النهاردة تكون قررت تزورني واشوفك.. ده انا كنت بمشي في الشوارع أبص في وشوش الناس يمكن ألمحك.. وبركز مع كل رقم عربية تعدي جنبي أو قدامي يمكن تطلع بتاعتك.. وبليل كنت بقف في شباك أوضتي لحسن تعدي صدفة من تحته أو تكون افتكرتني فتسأل جواد ويدلك على طريقي.. ويوم ورا يوم لا أنت جيت ولا أنا تعبت من البص في وشوش الناس.. بس اقتنعت أن كلمة بحبك اللي قلتها مكنتش حقيقة يمكن كانت اعتياد على وجودي مش أكتر ))
لعن في صوت مرتفع وأطلق عدة سبات خارجة لم يتكبد حتى عناء إخفائها فوصلت إلى مسامعها بوضوح تام، وقد كبله حديثها وجعله يشعر بضآلة حجمه وحقارته، فقد كانت كلماتها كحمم البركان كلما تدفقت من فمها، كلما أصهرت ما بداخله وأخذت في طريقها احترامه لذاته وقراراته، فخره بحكمته، وقناعته بفعله الصالح لأجلها، أراد الاعتراف بضعفه أمام ذكرى حديثها عن شقيقه، وبأن فكرة وقوفه حائل بينهم كالسوس الكريه ظل ينخر في عقله حتى أفقده قدرته على التفكير السليم فيما يخص علاقتهم، بينما ضغطت هي فوق شفتيها بقوة قائلة في خفوت بعدما أطلقت تنهيدة حارة حرقت أحشائه :
-(( أنت عارف أن لحد إمبارح كنت مستنية منك أي تبرير.. أي كلمة تدل على إنك لسه متمسك.. مانا تعبت من كل الأعذار اللي حطيتهالك في خيالي وماصدقت أشوفك واسمع منك عذر حقيقي بدل الأحلام اللي عايشة فيها ))..
ضجت أنفاسه في صدره، كما ضجت الدماء الحارة بجسده حتى أصم طنينها أُذنيه، ثم رفع كلا ذراعيه يمسح بعنف فوق وجهه وقد تعدي ألمه النفسى في تلك اللحظة ذاك العضوي، ورغم استحقاره عذره إلا أنه همس يقول في منقصة :
-(( أنا مبعدتش بمزاجي ولا سبتك.. ومخلفتش وعدي معاكي يوم واحد.. كنت كل يوم حواليكي.. أنا اختفيت من قدامك بطلب من يحيى.. بس ده مش معناه إني مكنتش معاكي لحظة بلحظة وعارف بتعملي إيه وفين ومع مين ورتبت كل خطوة خطتيها لحد ما ظهرت قدامك.. وبعادي عنك كان ضروري لعلاجك النفسى.. رحمة أنا اللي طلبت من يحيى يتولى جلساتك النفسية مش غفران.. أه عارف أنه مش مبرر.. ودلوقتي ويمكن من قبلها ندمت أني سمعت كلامه ومصممتش أفضل معاكي خطوة بخطوة في علاجك بس ساعتها كنت زي المضروب على دماغي.. كلامك أنك كل ما بتشوفيني بتفتكري عمرو وأنه واقف بينا خلاني مفكرش صح.. ده خلاني اكره حتى ملامحي.. ولما يحيى طلب مني إني أبعد عنك طول الفترة الأولى من جلساتك لقرب الشبهه بيني وبين أخويا طلبه جه على هوي غروري.. ولو كان اللي هقوله في عزاء ليكي فأنا طول الفترة دي مرتحتش ليلة.. انا يادوب كنت بدأت أفوق من صدمة خسارتي لعمرو بيكي.. لقيتك أنتِ كمان اخترتي تبعدي عني.. فعشت وجع الفراق مرتين في أقل من سنة ))..
ختم تبريره بزفرة عاجزة مطولة قبل أن يضيف في إصرار غاضب :
-(( ده مش دفاع عن نفسي لأن طاهر أشجع من أنه يبرر غلطه.. وأنا غلطان أساسًا أني سمعت كلام ال*** يحيى.. وعشان كده انا مستعد لأي عقاب منك.. إلا الطلاق لأنى مش هطلق مهما حصل.. فشوفي إيه يرضيكي ))..
تقابلت نظراته المصممة بنظراتها المتعبة الحائرة ودت لو أذاقته مرار الفراق، لو جعلته يعايش شعور شهورها العجاف وما مرت به، وما بين غرقها في فكرة الانتقام منه ورعبها من هاجس فقدانه، حركت رأسها يمينًا ويسارًا في يأس، ثم قالت ساخرة بعدما أرتفع جانب ثغرها بنصف ابتسامة شجن :
-(( لو كان عقابك هيعوض انتظار الشهور اللي فاتوا كنت عاقبتك.. بس للأسف عقاب اللي بنحبهم معناه عقاب لنفسنا.. وفي الأخير دي غلطتي إني حبيتك ))
قلبك هو بوصلتك الأولى، فاتبعها...
زفر في اختناق محاولًا تجاهل ذلك الهاجس القوي المنبعث من دفين أعماقه ويخبره دون توقف عن وجود شرك ما يحاك من خلفه، ويزداد انتشارًا بداخله كلما اقترب من وجهته المنشودة كغيمة رعدية صيفية امتدت تفرض سيطرتها فوق السماء الصافية فاستحال لونها إلى السواد المبرق، حتى إذا جاءه صوت مسجل تحديد الموقع يخرجه من شرود تفكيره ويخبره عن وصوله وقتها، أوقف محرك سيارته على بعد ثلاثة أمتار من المكان المتفق عليه، ثم اخرج هاتفه يضغط على جهة الاتصال المعنية وانتظر حتى أتاه صوتها من الطرف الآخر تسأله في قلق :
-(( يحيى!.. حصل حاجة ولا إيه؟! ))..
رفع يده الحرة يمسد بإبهامه وسبابته جبينه المجعد قبل أن يسألها في استنكار :
-(( مالك يا غفران.. اتخضيتي ليه؟.. ولا علياء كلمتك ))..
قالت مفسرة دون التخلي عن نبرتها المضطربة :
-(( لا.. بس جتلي مسج غريبة من شوية.. فافتكرت أنها اتبعتتلك أنت كمان ))..
رد يسألها في فضول وعينيه تجول الفراغ من حوله بحثًا عن أي حركة غير طبيعية أو ربما كاميرة مراقبة خفية :
-(( فيها إيه؟! ))..
إجابته في تخبط بعدما أطلقت تنهيدة مشوشة :
-(( مفهمتش منها حاجة.. مكتوب هتوصلك هدية كمان شويه.. تفتكر ده معناه إيه! ))..
سحب نفسًا عميقًا يهدأ به ضجيج دمائه المتدفقة إلى قوقعة أذنه ويدفع به الثقل الجاثم فوق صدره، ثم بدأ يقص عليها ما حدث دون الإغفال عن ذكر التفاصيل الصغيرة، فهتفت تسأله في تشكيك :
-(( يحيى.. أنت شاكك في جيداء؟! ))..
همس مؤكدًا في خشونة :
-(( في حاجة غلط.. لو عايزين يخوفوني فـ علياء أولى وهي الورقة الصح.. ليه يروحوا لحد علاقتي مقطوعة بيه من زمان وهما عارفين أني هتحرك عشان مراتي أكتر من أي حد.. ومتقنعنيش بالعكس لأنك عارفة كويس أننا متراقبين ))..
لقد بدأت الأمور تخرج عن السيطرة حَقًّا وذلك المجرم المُدعي أبو المجد لم يكتفِ باستغلال اليتيمات حديثي السن في ترويج أعماله غير المشروعة بل أزداد تجبره ووصل حد التهديد والترويع، وقد نالت نصيبها منه في المرة الأولى وفقدت بسببه جنينها لمجرد وقوفها قبالته والآن يتلاعب برفيقها، ومن يدري ما الذي ينتوي فعله به، فمضمون الرسالة وتوقيتها بالتوازي مع استنجاد جيداء أطلقت العنان لعقلها في تخيل أسوأ السيناريوهات الممكنة، بينما زم يحيى شفتيه للأمام وضيق عينيه مسلطًا نظره الثاقب فوق خيال ما ظهر فجأة يلوح من بعيد ويتضح شَيْءٌ فشيء كلما اقترب منه، تلاه عدة أطياف تخرج من كل حدب وصوب تحاصر سيارته، فالتوى ثغره بنصف ابتسامة وقد تأكدت ظنونه والفخ المنصوب إليه، ثم قال في عُجالة :
-(( غفران اسمعي مفيش وقت.. أنا هنزل أدبهم الورق دلوقتي.. لو حصلي حاجة خلي بالك من علياء ))..
صرخت تستوقفه متوسلة في لوعة :
-(( لا.. أبوس أيديك متحسسنيش بالذنب وأني ورطتك معايا.. دور عربيتك وارجع لبيتك ومراتك.. يحيي لو ليا عندك أي غلاوة.. سيبهم وامشي هما مشكلتهم معانا مش مع جيداء فمش هيأذوها.. متضيعش نفسك ع...... ))..
قاطعها قائلًا في إصرار :
-(( اتاخرت مبقاش ينفع.. أنتِ الوحيدة اللي عارفة معايا مكان الورق الأصلي فين.. مش هوصيكي ))..
أنهى حديثه بالضغط فوق زر الإغلاق، ثم ترجل من السيارة بابتسامة شجاعة ربما تكون مزيفة، مراقبًا تجمهر عدد من الرجال عراض البينة حاملي الأسلحة البيضاء حوله، ثم قال في استخفاف :
-(( مش محتاج أسأل المخطوفة فين صح.. بس فين الكبير بتاعكم عايز أعرف منه حاجة قبل ما أسلم الأوراق ))..
تقدم أحدهم نحوه وكان طوله يتجاوز الستة أقدام يعلن عن نفسه في خيلاء :
-(( أووومر ))..
فتح فمه وعندما هم بالتحدث أوقفه صرخة أنثوية مستنجدة لصوت يعرفه جيدًا يليه ظهور جسدها المترنح تركض نحوه في لهفة أربكت حساباته، فتمزيق ملابسها وتهرتل مظهرها يوحي بتعرضها لمضايقات فعلية، الأمر الذي دفعه إلى التحرك نحوها يلتقط جسدها بين ذراعيه في إشفاق، ولم ينتبه لذلك الفحل الذي باغته من الخلف بضربة قوية من عصا خشبية فوق رأسه أسقطته صريعًا أرضًا في الحال، قبل أن تنهال فوق جسده باقي الضربات على مشهدة من قريبته ومن كانت يومًا رفيقة دربه.