الفصل السادس 6
بقلم شيماء يوسف
'' ثمة صوتٌ لا يستخدم الكلمات
فأنصِتْ ''
-جلال الدين الرومي.
تعلقت عيناه بمقبض الباب يراقبه بأنفاس ثقيلة مترقباً أستدارته، يعد الثوانِ منتظراً خروج الطبيبة التى طلت متنهدة من خلف الباب الموصد بعد فترة من الأختفاء تخبره بشئ من الأرتياح :
-(( الحمدلله الأنسة بخير .. كانت نوبة ربو شديدة بس عدت )) ..
تمتم من بعدها فى خفوت:
(( الحمدللــــ..... )) ..
أنتبه لكلمتها كما أنتباهه لحاجته الملحة فى تحرير أنفاسه التى ظلت حبيسة داخل صدره دون وعى منه ، يتسائل متخبطاً ، هل قالت "أنسة" للتو أم تلك هواجس عقله البائس ! ، تحشرجت أنفاسه متسائلاً ومردداً من خلفها فى عدم تصديق ، راغباً فى توضيح أكبر يريح قلبه قبل عقله :
-(( أنسة ؟! )) ..
طالعته الطبيبة أولاً بأندهاش ممزوج بأشفاق ثم قالت فى نبرة ذات مغزى :
-(( أيوة أنسة .. مرات حضرتك لسه بنت يا أستاذ طاهر .. وزى ما قلت هى نوبة ربو مع حمى عملتلها كل المشاكل دى )) ..
توقفت أذناه عن العمل عند كلمة " طاهر" أسمه الذى نطقته كتهمة ، كتشكيك فى قدراته ، تجاهلها وتجاهل معها تلميحها المبطن وكل ما يليه من حروف ثرثر بها فمها ، فهو الان أمام حدث أكبر وأهم ، فرضية جديدة أطاحت بجزء من تحليلاته ومعتقده الراسخ والذى منذ لحظات مضت كان لا يقبل الشك ، جملة واحدة ، قلبت موازين ثباته رأساً على عقب وتركته مشوشاً ، مجبراً عقله على إعادة ترتيب المشهد من جديد بطريقة أوسع وأعمق من الأولى ، أراد التأكد منها ، التيقن أن قوقعة أذنه لم تخذله ولازالت تعمل بكامل كفائتها ، أما عنها هى التى كانت تراقب تباين ردود فعله ومشاعره المنعكسة بوضوح على ملامح وجهه ، يبدو أنها أخطئت تفسيرها فمالت نحوه هامسه على أستحياء :
-(( أستاذ طاهر .. لو فى مشكلة ما .. أتمنى بعد ما الأنســ .. قصدى مدام حضرتك تتحسن تزرونى فى العيادة )) ..
حدجها بنظرة جامدة جعلتها تردف بعدما تنحنحت فى حرج :
-(( عمتاً حمدلله على السلامة .. أنا كتبتلها شوية أدوية تتاخد بأنتظام لحد مراجعة طبيب مختص فى حالتها .. أما عن البخاخ اللى عطتهولها .. فده وقت اللزوم بس .. وياريت تبعد عن أى أنفعال نفسى أو عضوى الفترة دى لحد ما الحالة تستقر )) ..
أومأ برأسه موافقاً فى نفاذ صبر فأستطردت تقول وهى تمد يدها فى أتجاهه :
-(( أتفضل الروشتة .. ومش هأكد على حضرتك تانى .. مرض الأستاذة مزمن وخطير وأهماله ممكن يسبب توقف القلب ووفاة زى ما كان على وشك الحدوث من شوية .. فياريت تهتموا بيه أكتر وربنا معاكم )) ..
سحب الورقة من يديها بجمود ثم اعطاها لمديرة منزله التى ظهرت جواره من العدم متسائلة فى قلق :
-(( طمنى .. خير ؟! )) ..
أجابها بعدم أهتمام وهو يستعد للخروج من مجالها كلياً :
-(( ربو .. طلع عندها ربو )) ..
لطمت قفصها الصدرى بقوة متأثرة ثم هتفت متحسرة بشئ من التأنيب :
-(( ربو !! .. ياعينى عليكى يا بنتى .. وطبعاً كانت هتروح فيها بعد المكان اللى أترمت فيه ليلة كامله )) ..
رمقها بنظرة محذرة أبتلعت لعابها على أثرها ثم هتفت متذكرة تستوقفه عندما رأته يستعد لهبوط الدرج :
-(( طاهر بيه .. نسيت أبلغ حضرتك .. عم ربيع أتصل من البلد وبيقول الدكتور كتبله على إجازة أسبوعين كمان من الشغل .. وعشان كدة هيبعت محمود أبنه ياخد باله من الجنينة بداله لحد ما يرجع بالسلامة وطلب منى أستأذنك )) ..
أجابها فى نبرة خالية حيث تفكيره مشغول بالأهم :
-(( مفيش مشكلة .. وأساليه لو كان محتاج حاجة )) ..
تنهدت برضا بعدما أبتسمت له بأشراق ثم بدءت تنهال عليه بسيل الأدعية اليومى المعتاد عليه ، بينما أنسحب هو إلى خارج المنزل بأكمله يحاول تقرير خطوته التالية .
***********************
داخل صرح الشافعى وتحديداً بداخل غرفته صاح رائف مهتاجاً بلوعة فى وجه موظفه :
-(( يعنى أيه أتجوزها .. دى بالذات لا .. ميفوزش بيها .. مش هسمحله المرة دى .. أحنا متفقناش من الاول على جواز .. أزاى يحصل وأنا معرفش !! فين راجلك اللى هناك !! وكان بيعمل أيه وقتها .. )) ..
غمغم كريم يجيبه متوجساً فى خفوت :
-(( يا باشا ملحقناش نعمل حاجة .. الموضوع جه بسرعة فى كام ساعه ومطلعش بره حدود البيت .. هو أتفاجئ زيه زى الباقيين بالمأذون داخل عليه وبعدها مفيش اعلن جوازهم )) ..
كور رائف قبضته ضارباً سطح مكتبه بعنف قبل أن يقول فى غل :
-(( والحل دلوقتى .. كده أكيد عرف أنها مكنتش الليلة دى مع اخوه وهيبدء يدور .. ده طاهر وأنا عارفه .. لازم نتصرف )) ..
سارع كريم يجيبه نافياً فى محاولة منه لأرضاء مرؤسه :
-(( لا يا باشا متخافش .. وحيد قالى من شوية أنها تعبانة وكانوا جيبينلها دكتورة وبعدها دكتور .. وأدوية ودوشه كبيرة .. ده اللى عرف يطلع بيه من الولية اللى بتخدم جوة .. وبيقول كمان أن طاهر مش فى البيت من الصبح )) ..
تسائل مندفعاً بقلق :
-(( تعبـاااانه )) ..
تأمله مخدومه بعدة نظرات متفحصة مضيقاً جفنيه فوقه ثم أجابه بشئ من الارتياب :
-(( أه بيقول هو اللى راح جبلها الدوا بنفسه )) ..
عاد رائف يستفسر متلهفاً :
-(( عندها أيه ؟! )) ..
تقوس فم كريم ثم أجابه فى لامبالاة :
-(( معرفش مهتمتش أسال )) ..
صمت لوهلة ثم أردف يتسائل بمكر وشئ من السخرية لم يعيه الاخر :
-(( تحب أتصل بيه أساله يا باشا ؟! )) ..
حرك رأسه رافضاً فى عدم أهتمام ثم عاد يقول بقلق :
-(( طب هنعمل أيه فى المشكلة اللى طلعتلنا من تحت الأرض دى ! .. أحنا لازم نتصرف قبل ما هو يكتشف حاجة )) ..
سأله كريم بترقب :
-(( الباشا عنده حل ولا أيه ؟! )) ..
سحب رائف مقعده للخلف ثم أجابه مختالاً بثقه بعدما جلس فوقه واضعاً ساق فوق الاخرى :
-(( وأنا من أمتى معنديش حل !! ))
ألتمعت عينيى مساعده بحماس ثم هتف مجاملاً بنفاق :
-(( أيوة بقى يا باشا .. قولى دماغك الألماظ دى فيها أيه )) ..
أجابه بعدوانية بعدما سحب نفساً عميقاً من سيجارته وأخرج دخانه من فمه مشكلاً سحابة أمام وجهه :
-(( ننفذ كلامنا .. عشان تبقى الأشاعة زى الحقيقة )) ..
هتف مستفسراً بشئ من التوجس :
-(( قصد حضرتــ )) ..
أكمل جملته عنه مؤكداً بغل :
-(( أيــــوة .. قصد حضرتى الراجل بتاعنا هناك ينفذ .. عشان لما طاهر بيه يجى يقرب من مدامته يلاقيها مدام )) ..
صمت كريم ولم يعقب فأستدار رائف ينهره بحدة :
-(( واقف عندك مستنى أيه !!! كلمه وقوله ينفذ فى أسرع وقت مادام طاهر مش فى البيت )) ..
غمغم مساعده موافقاً، بقلة حيلة :
-(( حـااا حاضــر يا باشا حالاً أهو )) ..
أخرج هاتفه من جيب بنطاله للتواصل مع "وحيد" أحد فردى الأمن فى فيلا المناويشى والذى يعمل لصالحهما فى التجسس على أخبار غريمه مقابل راتب شهرى مغرى ، أخبره كريم بالخطة كاملة وبعد الأستماع إليه أبعد الهاتف عن فمه قليلاً ليخبر رئيسه الذى كان يتابع الموقف فى صمت :
-(( يا باشا .. بيبلغ حضرتك أنها جوة الفيلا وصعب كده حد يوصلها لأن طاهر بيه مانع أى حد منهم يخطى جوه البيت )) ..
هتف رائف ناهراً بحنق :
-(( يعنى أيه !! مش هنعرف نوصلها !! نفذ بأى طريقة )) ..
أستمع وحيد إلى صياح رئيسه عبر الهاتف فسارع يقول مقترحاً لأرضاءه من الجهة الأخرى عبر مكبر الصوت :
-(( متخليش الباشا يعصب نفسه أنا عندى حل .. محدش يقدر يدخل البيت من جوة الا أتنين .. أم حسن وربيع الجناينى بلدياتها برضة ودول عشان كبار فى السن وطاهر بيه بيحبهم .. ولحسن حظنا أن ربيع تعبان وهيبعت أبنه يشتغل بداله الكام يوم دول .. ممكن أحنا يا باشا نبدل أبنه بحد من حبايبنا يدخل يخلص الموضوع من جوه ويمشى .. وأكيد أم حسن مش هيهون عليها تسيب أبن بلدها بره .. وكده كده محدش يعرف شكله .. بس هيتبقى نقنع أبن ربيع ميروحش .. وحد من عندنا يمثل أنه هو ))
راقت الفكرة لديه بمجرد أستماعه لها فسارع يجيب مؤكداً بثقة :
-(( بسيطة .. وحيد كل اللى عليك تتأكد من دخول الراجل بتاعنا .. أما الباقى فسيبه عليا .. المهم فى أسرع وقت تجيب شرفها الأرض )) ..
********************
بعد مرور يومان
وقفت فى منتصف غرفتها تتابع رسائل هاتفها الألكترونية التى تصل إليها منذ الصباح بلا توقف ، مشدوهة ، حائرة ومغيبة ، فكل كلمة يرسلها إليها تُحفر داخل ذاكرتها ، وتتركها حالمة ومحلقة مع أبتسامة بلهاء تملئ محياها ، جذب أنتباهها منذ لقائهم الأول بغموضه ولباقته، وأحتل تفكيرها شئ فشئ بإصراره عليها وتمسكه بها ، متناسية فى غيابه وحضرته ، زوجها وطفلتها وكل شئ أخر لا يشمله ، فحديثه يحملها لعالم أخر تطأه راغبة ، وموقنة انها بأستجابتها له أصبحت خائنة ، ولكن معه تكون الخيانة جميلة ، أعادها من أرض احلامها الوردية رنين هاتفها بأسمه المستعار ، فأجابته بنبرة مدللة :
-(( رائف )) ..
همس يقول بنبرة معسولة دون مقدمات :
-(( وحشتينى )) ..
قالت مؤنبة بدلال وقد راقتها نبرته :
-(( مش هتبطل جنان )) ..
أجابها قائلاً بغموض :
-(( أنتى لسه هتشوفى الجنان دلوقتى حالاً )) ..
هتفت مستفسرة بتوجس بعدما أرقها تلميحه :
-(( رائف .. قصدك أيه )) ..
قال والأبتسامة تملئ نبرته :
-(( أنا قدام البيت عندك تحت .. تعاليلى )) ..
صرخت رافضة بفزع :
-(( يا نهار منيل .. رائف عشان خاطرى أمشى قبل ما حد يشوفك )) ..
قال رافضاً بحزم :
-(( المرة دى أستحالة أمشى قبل ما أشوفك .. وأعملى حسابك قدامك خمس دقايق .. لو ملقتكيش قدام عينى هرن الجرس .. وأنا مجنون وأعملها )) ..
صاحت تستجديه متوسلة وهى تركض إلى الأسفل :
-(( لا أبوس أيديك أستنى أنا جاية أهو .. اقفل وهطلع من باب الجنينة اللى ورا .. قابلنى هناك )) ..
أمتثل لطلبها فى حين واصلت هى ركضها إلى الأسفل ومنه إلى حديقة المنزل عندما أستوققها صوت والدة زوجها تسأل بقلق :
-(( رنا يابنتى .. مالك بتجرى ملهوفة كدة ليه ؟!.. حصلت حاجة ؟! )) ..
توقفت عن الركض وقامت بمسح جبهتها وأرجاع بعض خصلات شعرها الثائرة للخلف ثم أجابتها كاذبة بحرفية شديدة :
-(( لا يا أنطى أبداً .. أنا كنت بنزل السلم بسرعة كرياضة يعنى مش أكتر.. عشان زهقانة وحابة أتمشى فى الجنينة شوية بين الخضرة .. عن أذنك )) ..
أومأت السيدة كريمة برأسها متفهمة ثم قالت بود :
-(( البيت بيتك يا حبيبتى .. أعملى اللى يريحك فيه )) ..
أعطتها الأخيرة إبتسامة مقتضبة قبل متابعة سيرها نحو غايتها المحددة خارج حدود المنزل مستغلة غياب الجميع وعلى رأسهم زوجها .
******************
وحيدة ، حزينة ، مكسورة الخاطر و تائهة ، تشعر بروحها مكبلة بقيود غير مرئيّة ، محبوسة داخل زنزانة شفافة من الوعود التى لم تقطعها ، بل فُرضت عليها ، تخشى المضى قدماً وتخاف الأبتعاد ، واقفة فى منتصف الطريق عاجزة ، لا تقوى على الهروب ولا تملك شجاعة الأنسحاب ، تراقب سنوات عمرها تتأكل كالشمعة داخل ظلام شكه وتخبطه ، تنتظر أن يُمن عليها بأعطائها حريتها ، وأطلاق سراحها ، ألتفت تنظر بجمود إلى شاشة هاتفها التى تضيئ ثم تعود وتنطفأ ثم تضيئ ثانيةً بلا توقف ، لا يكل ولا يمل ، فتلك هى شامته الأساسية ، يندفع فى الحديث ، ثم يعود ويتوسل طالباً العفو ، وكم كانت سخية معه ، عامان كاملين من التنازل والتفهم والمراعاة ، قابلهم بالتمرد فلم تعد تنتظر منه شئ ، زهدت حياتها وفقدت إيمانها بالحب ، يخبرها يومياً أنها حبيبته الألاف المرات ، وأنها نجمته الذهبية التى تضوى له ومن أجله ، ولم يعلم أنها أصبحت مجرد غاز ، يتسرب مع كل كسرة خاطر من بين يديه حتى فقدت بريقها ، ولم تعد قادرة على السطوع من جديد ، أهتز هاتفها برسالة نصية أخرى مفادها " حبيبتى .. حباً فى الله أجيبينى " ، تنهدت بوجع وألقت بهاتفها بعيداً عنها وقد أقسمت ألا تذرف دمعة أخرى عليه ، وبعد عدة دقائق تهادى إليها طرق خفيف فوق باب غرفتها ، يليه صوت والدتها تقول بهدوء :
-(( علياء حبيبتى .. أنتى نايمة ولا أيه .. محمد أتصل عليكى كتير ولما مردتيش عليه قلق وأتصل على تليفونى )) ..
زفرت بضيق وهى تتحرك وتفتح باب الغرفة لوالدتها ثم أجابتها كاذبة بتبرير واهن :
-(( لا يا ماما التليفون شكله كده صامت وأنا أندمجت فى رواية ومأخدتش بالى منه )) ..
قالت والدتها متفهمة وهى تمد لها ذراعها بهاتفها الخاص :
-(( طب يا حبيبتى ولا يهمك .. خدى تليفونى ردى عليه عشان شكله قلقان أوى )) ..
سحبت علياء الهاتف من يدها على مضض ، ثم أجابت هامسة بجمود :
-(( ألو ))..
-(( علياء .. حبيبتى .. يا روحى .. كنت هموت لو مردتيش عليا .. أنا أسف .. أنا غبى ومبفهمش وعندك حق فى أى حاجة تقوليها أو تعمليها فيا )) ..
كان هذا صوته الذى هتف به متباكياً لأستعطافها وعندما لم تعقب أردف يقول بنعومة :
-(( مش عايزة تردى عليا .. طب أنا محضرلك مفاجأة .. أنا حجزت ونازل الاسبوع الجاى خلاص )) ..
همست مستفسرة بشك :
-(( حجزت ؟! )) ..
أجابها بنبرة خفيفة مرحة :
-(( أيوة حجزت .. عشان حبيبتى وحشتنى أوى ومش قادر أبعد عنها أكتر من كدة )) ..
صمت قليلاً منتظراً تعقيبها وعند تأخره أردف يقول متسائلاً بعتب :
-(( ولا أنا موحشتكيش زى مانتى وحشتينى ؟! )) ..
أجابته بفتور :
-(( أكيد .. تيجى بالسلامة يا محمد )) ..
أجابها واعداً بأشتياق :
-(( الله يسلمك يا روح محمد .. أستنينى حبيبتى أنا جايلك )) ..
**********************
تابعه بعينيه وهو غارقاً فى ملفات المراجعة التى أمامه قبل أن يهتف مازحاً بخفة ملطفاً للأجواء :
-(( عوداً حميداً قريبى العزيز .. شايف نفسيتك جاية ع الجواز أهو .. لدرجة أن بقالك يومين مروحتش بيتك )) ..
رفع طاهر رأسه ينظر إليه مزدرياً من بين الملفات المتراكمة ثم قال حانقاً بأمتعاض :
-(( لو شايف دمك خفيف قولى أقدملك فى برنامج مواهب أحسن .. وبعدين مش عارف أنت قاعد لدلوقتى ليه ؟! .. مش عندك بيت المفروض تروحه )) ..
أبتسم جواد ملئ فاه وقد أسعده حقاً رؤية شريكه هادئاً بعد عناء عايشه لأكثر من خمسة أشهر من التوتر المتواصل ثم قال مدعياً الضيق ومستغلاً العرض :
-(( تصدق أنا غلطان أنى قاعد مستنى معاك الراجل .. عندك حق أنا ماشى فعلاً .. مراتى وبنتى أولى بيا )) ..
هتف الأخر مستفسراً بقلق :
-(( تفتكر هيتأخر ؟! )) ..
أجابه جواد مطمئناً بثقة :
-(( يتأخر أيه يابنى دول أجـــانب .. يعنى تظبط عليهم الساعة .. وده بالذات .. أنا هروح ألم حاجتى وأتحرك .. وأنت ربنا معاك )) ..
أومأ طاهر برأسه موافقاً بينما ظلت عينيه مسلطة فوق باب الغرفة بعد خروج جواد ، منتظراً دخول مساعدته الشخصية فى أى لحظة معلنة عن حضوره، وبالفعل قبل الموعد المحدد بينهم بدقيقة واحدة ، دلفت سكرتيرته ومن خلفها ضيفه المرتقب حيث لديها تصريح مسبق بأدخاله لحظة وصوله ، تحرك طاهر من مقعده أستعداداً لأستقباله ، بينما هتف البلجيكي بعربية جيدة وهو يمد ذراعه نحو طاهر الذى ألتقطها داخل خاصته مرحباً :
-(( مرحباً سيد طاهر .. بداية أعيد تعريف نفسى أمامك .. أنا التحرى الخاص maxime robin .. يمكنك مناداتى بماكسم فقط )) ..
أبتسم طاهر مرحباً وقائلاً بنبرة رجل أعمال متمرس :
-(( أهلاً بيك سيد ماكسم .. أتمنى تكون أقامتك مريحة )) ..
أجابه الرجل بود حقيقى :
-(( نعم للغاية .. فالبلد هنا رائع وحميمى بشكل خاص .. على كلاً أختصاراً للوقت .. دعنا نتحدث عن التفاصيل مباشرةً .. أعتقد وعلى حسب ما فهمت من السيد جواد .. نحن بصدد التحرى فى قضية قتل تم الحكم فيها مسبقاً )) ..
أومأ طاهر برأسه أعجاباً بعمليته ثم بدء يقول شارحاً بأستفاضة :
-(( بالظبط .. القضية أتفتحت من حوالى خمس شهور .. والحكم النهائى بعد الأستئناف من ٣ ايام .. هتلاقى التفاصيل كلها فى الملف اللى قدامك زى ما طلبت .. معاه كل الأدلة والتقارير وأقوال الشهود والمتهمة .. يعنى ملف كامل تقدر تبدء بيه )) ..
فتح الرجل الملف ينظر بداخله للحظات ثم قال مستحسناً بعدما وضع الملف داخل حقيبة يده وأعتدل فى وقفته أستعداداً للمغادرة :
-(( جيد .. جيد للغاية .. سأبدء قرائته منذ الليلة ثم أخبرك متى ومن أين نبدء البحث )) ..
تنهد طاهر بحماس فهو بالفعل منذ هداه تفكيره إلى اللجوء لخدمات مختص ذو سمعه جيدة فى مجال التحقيق الخاص يشعر أن جزء من سلامه عاد إليه ، ودع ضيفه ثم غمغم متوسماً بأمل :
-(( أتمنى نوصل للجانى والحقيقة فى أسرع وقت )) ..
************************
أنقبض صدرها وتجهّمت ملامحها بمجرد أستماعها لوقع خطوات أمام باب الغرفة ، ورغم علمها المسبق بهوية الزائر ألا أنها لا تملك سوى الذعر فى كل مرة ، فوجودها بغرفته وداخل فراشه كفيل بجعلها تضرب بتعليمات الطبيب عرض الحائط فيما يخص البعد عن التوتر والقلق ، متوسلة يومياً إلى مدبرة منزله بنقلها إلى غرفة أخرى غير تلك التى تحمل رائحته مجازياً ، لا حرفياً ، فاللحقيقة ومنذ أخبرهم الطبيب المختص بضرورة أبتعادها عن أى مهيجات لحالتها المرضية مثل العطور والأدخنة ومثيلاتها حرصت أم الحسن تمام الحرص على أخفاء كافة العطور من المنزل بأكمله وليست فقد غرفته ، مع مسح الغبار وتغير شرشف الفراش مرتين يومياً ، أما عنه هو فلم تلمح حتى طيفه منذ تلك الليلة ، كأنه تبخر فى الهواء ، وكم تحمد الله على ذلك ، فمجرد التفكير برؤيته ثانية ، يجعل دقات قلبها تتعالى ، قاطع شرودها صوت أم الحسن يهتف بخفة بعدما وضعت صينية الطعام فوق الفراش جوارها :
-(( يلا يا ست الكل عشان الغدا .. وبعده ميعاد الدوا .. مش عايزين نهمله زى ما الدكتور أكد علينا )) ..
ألتمعت عينيى رحمة بأمتنان حقيقى ، فتلك السيدة الجالسة قبالتها والتى لم يجمعها بها سوى لقاء واحد تعتنى بها كما لو أنها طفلتها ، فهى تشرف على مواعيد دوائها ، وتتأكد من قياس حرارتها ، إلى جانب حرصها على تغذيتها ، حتى أستعادت عافيتها وعاد إليها جزء من تورد وجنتيها ، فقد كانت تعاملها بأدمية ، ولقد مضت أشهر عديدة منذ عاملها أحد كأنسانة ، وليست باغية سافكة للدماء ، بينما ظلت الأخرى تتأملها وهى تتناول طعامها ولازال فضولها يداهمها من وقت لاخر ، شعرت رحمة بأنظارها المسلطة عليها فهتفت تقول بود :
-(( عايزة تسألى حاجة صح ؟! )) ..
أبتسمت بحرج وتوردت وجنتيها وكأنها قبض عليها متلبسة ثم غمغمت تقول بنبرة خجلة :
-(( متأخذنيش يابنتى .. بس بصراحة شكلك مش غريب عليا .. وبحاول أعصر دماغى وأفتكر شفتك فين قبل كده مفيش فايدة )) ..
تجهمت ملامح رحمة وحل الضيق محل المرح ثم أجابتها هامسة بخفوت :
-(( أنا رحمة )) ..
قطبت أم الحسن جبينها بعدم فهم فأردفت رحمة تقول بخزى :
-(( أنا رحمة .. اللى أتهمونى فى قضية .. أحم أنتى عارفة .. قصدى أخوه .. عمـ.. )) ..
تركت جملتها ناقصة فى حين فرغ فاه الأخرى بصدمة ، راقبت رحمة ردات فعلها بأهتمام ، ثم وجدت نفسها تهتف بصدق :
-(( بس والله ما قربت منه .. أنا مظلومة زيى زيه ويمكن أكتر .. معرفش بقولك كده ليه .. أنا لحد دلوقتى عمرى ما دافعت عن نفسى قدام حد .. بس يمكن عشان فكرتينى بحنان ماما .. اللى ماتت قبل ما تعرف أن بنتها بريئه وشريفة .. فعشان خاطرى متاخديش عنى فكرة وحشة )) ..
تهدج صوتها فى جملتها الأخيرة وبدءت عبراتها تتساقط عنوة من داخل مقلتيها ، فى حين تابعتها أم الحسن وقد رق قلبها لتلك الطفلة التى وضعتها فى خانة والدتها ثم قالت بحنو بعدما ربتت فوق كفها مطمئنة :
-(( متخافيش .. ربنا مبيسبش حق مظلوم .. بكرة ربنا يرجعلك حقك تالت ومتلت .. بس أنتى متبطليش تقولى يارب )) ..
أنفرجت أساريرها ومسحت دموعها بباطن كفها وهى تغمغم من خلفها برجاء :
-(( يارب )) ..
قاطع حديثهم السامر ، طرقة واحدة فوق باب الغرفة جعلت رحمة تتأكد من أحكام غطاء رأسها قبل أن تنتفض واقفة بتأهب قبل دخوله للغرفة بخطوات جامدة ، تنحنحت مدبرة المنزل ثم أنحنت بجسدها ترفع صينية الطعام من فوق الفراش قبل تسللها إلى خارج الغرفة تاركة كل طرف يقف فى مواجهة الأخر ، كانت رحمة هى أول من قطعت الصمت قائلة بجمود :
-(( لو سمحت .. أنا مش عايزة أقعد هنا )) ..
أجابها بلا مبالاة دون حتى النظر إليها :
-(( وأنتى شايفانى ماسك فيكى !! )) ..
أهتزت قدميها فى حركة عصبية ثم اردفت تقول بنبرة متشنجة :
-(( وعلى فكرة .. أى مصاريف دفعتها .. خلال اليومين اللى فاتوا دول للدكتور أو العلاج .. هردهالك .. بس لما تفرج عنى وتسيبنى أخرج من هنا وأشتغل )) ..
تقوس فمه بوضوح متهكماً ثم أجابها مستفزاً بأستهزاء :
-(( دروس تمثيلك محتاجة تتحسن .. أشتغلى عليها شوية )) ..
غمغمت مندفعة بنبرة متقطعة :
-(( أنــ أنـت إنسـان قليل الذوووووووق والأحترام )) .. وصدقنى الأوضة اللى رمتنى فيها بالنسبالى أحسن من هنا .. على الأقل مش هضطر أشوفك فيها )) ..
هدر صوته القوى هاتفاً بقوة جعلها تنتفض فجأة بذعر :
-(( أم حسسسسسسسن )) ..
هرولت مدبرة منزله تصعد الدرج ملبية النداء وقائلة بأنفاس لاهثة :
-(( موجودة .. أومرنى )) ..
قال بغضب وهو يشير بأصبعه نحو تلك التى أنكمشت على نفسها :
-(( الأوضة اللى جنب أوضة ربيع عرفاها )) ..
اومأت أم الحسن برأسها عدة مرات إيجاباً دون تعليق فأستطرد هو يقول آمراً بجمود :
-(( تقعد فيها .. ولحد ما أبن ربيع يوصل .. تشتغل شغله )) ..
صمت لوهلة رافعاً رأسه نحوها ثم أستطرد يقول مستهزءاً وهو ينظر إليها بأستهانة:
-(( مادام حابة الشغل .. ورينى )) ..
لم تجد مدبرة المنزل ما تتفوه به سوى نظرة أعتذار رمقت بها رحمة التى سارت جوارها رافعة رأسها بكبرياء ، فأن كان يظن أن أمره ذلك سيُحنى جبهتها ، فهو حتماً واهم .
************************
هتف جواد مستفسراً وموجهاً سؤاله لوالدته التى كانت تقف داخل المطبخ واضعة اللمسات النهائية فوق طعام العشاء بعدما بحث عنها فى الأركان :
-(( ماما .. أومال رنا فين مشفتهاش )) ..
أجابته والدته بأنشغال :
-(( مش عارفة والله يا حبيبى .. هى من ساعتين كدة قالتلى هقعد فى الجنينة برة .. بس شكلها خرجت .. لأنها من ساعتها مظهرتش .. ولما أتاخرت قلقت وبصيت عليها هناك ملقتهاش )) ..
-(( هخرج أروح فين يعنى يا طنط !!! .. الكلام اللى حضرتك بتقوليه ده مش كويس أبداً )) ..
كان هذا هو صوت زوجته الذى هتف من خلفه معترضاً ببراءة ، رفعت السيدة كريمة رأسها تنظر إليها من فوق كتفها ثم قالت مستنكرة بأستغراب :
-(( وأيه المشكلة يعنى يا بنتى لما تخرجى !! .. وفين كلامى اللى مش كويس )) ..
أجابتها باكية ببراعة :
-(( لما حضرتك تتهمينى قدام جواد وفى غيابى كمان أنى خرجت من غير إذنه يبقى بتهنينى طبعاً .. ودى حاجة أنا مقبلهاش على كرامتى أو كرامة جواد )) ..
هتف هو ناهياً الجدال بينهم بحزم :
-(( رنـــا .. خلاص .. أكيد ماما مش قصدها المعنى اللى فى دماغك ده )) ..
هتفت والدته من خلفه مبررة ومدافعة :
-(( والله يا حبيبى ماقصد .. أنا أتكلمت عادى )) ..
ضربت الأرض بقدميها غيظاً ثم هتفت منتحبة ومستأنفة مسرحيتها الهزلية ببراعة فنان متمرس :
-(( أيوة طبعاً .. مانت لازم فى كل مرة تيجى عليا .. حتى لو الحق ليا .. عمتاً تصبحوا على خير )) ..
أنهت تمثيليتها وركضت نحو غرفتها واضعة يدها فوق قفصها الصدرى شاكرة الحظ على وقوفه جوارها ، فَعِدَّة دقائق أخرى من التاخير كانت كفيلة بكشف أمرها كله .
********************
راقبته بأفتتنان وهو ينتهى من إغلاق أزرار قميصه ذو الماركة الغالية كعادتها فى كل مره يكونا معاً سوياً ، ثم وعندما أوشك على أرتداء حذائه ، أنحنت بجسدها أمام قدمه لتساعده فى ارتدائه ، هتف بدر مستفسراً بضيق بعدما أنحنى هو الأخر بجسده نحوها ، واضعاً كلتا ذراعيه فوق كتفها ليرفعها إلى مستواه :
-(( أنتى بتعملى أيه ؟! )) ..
أجابته خاضعة :
-(( بساعدك تلبس الجزمة يا سى بدر )) ..
أبتسم من تلقائيتها فى الجواب ثم قال بهدوء بعدما جذب كفها إليه ودفعها برفق للجلوس فوق الفراش :
-(( أفنان أنتى مراتى مش خدامة .. يعنى مش مطلوب منك تلبسينى أو تقلعينى .. أنا كبير كفاية عشان أعمل كل ده بنفسى .. تمام ؟! )) ..
حركت رأسها موافقة بخنوع فعاد يهتف من جديد بقوة :
-(( لا مش عايز سكوت عايز أسمع .. متفقين ؟! )) ..
قالت مغمغة بخجل :
-(( حاضر يا سى بدر اللى تشوفه )) ..
أزدادت أبتسامته المرحة من مطالعته لأحمرار وجهها الفطرى قبل أن يقول مصححاً :
-(( أسمى بدر .. بلاش سى بدر دى كمان )) ..
قالت مندفعة دون تفكير :
-(( حاضر يا سى بدر .. يوووووه )) ..
أشاحت بوجهها إلى الجانب الأخر بعيداً عنه بحرج ، بينما دوت ضحكته عالياً وهو يرى تخبطها جلياً أمامه ، فهى بريئه فى كل شئ ، كطفل صغير ، تتلقى تعليمها الأول فى الحياة على يده ، تنهد مطولاً ثم قال مودعاً بعدما توقف على حافه باب الغرفة من الخارج:
-(( خلى بالك من نفسك )) ..
تمتمت محبطة بنبرة خافتة :
-(( حاضر يا سى بدر متقلقش )) ..
تفحص ملامحها ثم سألها مستفسراً بأهتمام بعدما لاحظ جمودها فى الأجابة عليه :
-(( مالك يا أفنان ؟! )) ..
أجابته كاذبة :
-(( مليش .. سلامتك من كل شر )) ..
ألتوى فمه مفكراً ثم هتف محذراً وضاغطاً على حروف أسمها :
-(( أفنااااااان .. مبحبش كده !! )) ..
أندفعت تقول مفسره ومدافعه عن نفسها قبل هروبها داخل الغرفة وأغلاق الباب خلفها :
-(( كان نفسى تقضى معايا الليلة .. عشان بتوحشنى )) ..
حك فروة رأسه بأنتشاء بينما الأبتسامة المنتصرة تملئ وجهه قبل استئنافه لطريقه نحو الخارج .
وفى داخل المنزل ، جلست غفران تحاول الوصول إليه وهى تحرك ساقها بعصبية شديدة ، فمنذ الظهيرة وهى تحاول التحدث معه دون جدوى ، زفرت براحة بعد أستماعها لخطواته داخل المنزل ثم هتفت مستفسرة بقلق :
-(( بدر .. أنت فين كل !! بكلمك من الصبح مش بترد .. أتأخرت ليه ؟! )) ..
نظر حوله وإليها باستغراب قبل أن يقول مندهشاً ببرود :
-(( متأخرتش ولا حاجه !!. ده ميعادى كل يوم .. أنتى اللى جايه بدرى. بس )) ..
تجاهلت تلميحه المبطن قافزة إلى السؤال الأهم :
-(( طب ليه مبتردش عليا )) ..
أخرج هاتفه من جيب ردائه ثم فتح شاشته ووضعه أمام وجهها قائلاً ببساطة :
-(( سايلنت من الصبح .. نسيت أفتحه واليوم عدى من غير ما أستخدمه )) ..
صمت لوهلة يخلع خلالها جاكيته ثم عاد يسألها من جديد وهو يلقى بسترة بذلته الرسمية فوق طاولة الطعام بعشوائية :
-(( مقولتليش جيتى بدرى ليه النهاردة .. أعتزلتى المحاماة بعد ما الراجل إياه ده حبسك )) ..
صاحت هاتفة بغيظ:
-(( متفكرنيييييش .. واحد قليل الذوق والأدب .. وبعدين هو مين عشان أعتزل بسببه .. أنا بس وقفت قبول القضايا الفترة دى .. ووزعت شغل الجمعية على البنات .. عشان ميعاد الحقن .. أنت عارف وقتها لازم راحة تام )) ..
أومأ برأسه موافقاً بأرتياح وطارداً من عقله تلك الهواجس القلقة التى تسيطر عليه ، بينما واصلت هى حديثها متسائلة بتفكير :
-((أه على فكرة ميعاد كشفى بعد بكرة .. هتيجى معايا ولا أيه ؟! ))
أجابها مؤكداً بعزيمة :
-(( أيوة طبعاً هاجى معاكى .. أنا عمرى ما سبتك تروحى لوحدك قبل كده )) ..
أشرق وجهها بأبتسامة رضا ثم غمغمت قائلة بأمل :
-(( أنا متفائلة المرة دى .. وحاسه بجد أن ربنا هيكرمنا )) ..
غمغم من خلفها بخفوت متمنياً المشيئة ، لائماً نفسه على حالة الفتور التى أصابت قلبه ، فمنذ لقاءه "بأفنان" ، لم يعد يتحرق شوقاً لأنجاب طفل منها هى ، زوجته الأولى .
***********************
كان مجرد طفل صغير ، تجاوز العاشرة من عمره منذ أشهر قليلة مضت ، يجلس بداخل غرفته الخاصة فى أحدى دول الخليج شديدة الحرارة محاطاً بألعابه الصبيانية ، وبجواره تجلس مربيته ذات الملامح الأسيوية ، بينما والده يجلس فى أحدى غرف الأستقبال يتحدث مع صديقه فى موضوع ، يبدو أنه هام للغاية ، من أنفعالات والده التى تصل إلى مسامعهم بكل وضوح ، ومع مرور الوقت وبعد الفشل فى الوصول إلى حل يرضى كلا الطرفين ، أحتد النقاش بينهم وتعالت أصواتهم بهتاف والده الذى أنتفض من مقعده يقول صائحاً بحدة :
-(( يعنى أيه يا عزززز !!! أنت بتهددنى ؟! )) ..
أجابه صديقه بنبرة أنفعالية مستاءة :
-(( تهديد أيه يا أيمن !! بقولك خد بالك من تصرفاتك لأنى شايفها غلط .. وكده ميصحش .. تقوم تتهمنى أنى بهددك ! )) ..
أجابه أيمن الشافعى مندفعاً بحقد :
-(( أيوة بتهددنى .. لما تبقى جاى فى بيتى عشان تقولى شهاب أشتكى لأنور وهيدخل فى الموضوع .. وخاف على أكل عيشك تبقى بتهددنى يا عز .. ومش بس كده .. ده أنت كمان أخدت صفهم .. ومادام أخدت صفهم يبقى أنسى أن ليك صاحب أسمه الشافعى )) ..
زفر عز الدين مطولاً بأسى بعدما تأمل أنفعال صديقه ثم قال بهدوء نسبى منسحباً بعدما يأس فى أقناعه :
-(( هى وصلت لكده !! .. أنا غلطان أنى جيت أتكلم معاك بالعقل .. وخليك فاكر وفاهم كويس كلامى يا أيمن .. هى بقت فى حماية أنور )) ..
-(( رائف باشا .. يا بــاشــا )) ..
فتح عينيه على الحاضر ، على وجه مساعده الذى كان يتأمله بغرابه ، حدجه رائف بتلك النظرة الحانقة ثم هتف يتسائل بنفاذ صبر :
-(( خيــــر !! )) ..
أجابه كريم مستنكراً رد فعله الجامد :
-(( بقالى ساعه بنادى عليك يا باشا وأنت مش هنا )) ..
تنحنح عدة مرات ثم أعتدل فى جلسته تاركاً الماضى خلفه ثم قال بضيق :
-(( أخلص .. عايز أيه ؟! )) ..
أجابه مساعده بنبرته المختالة عند نجاحه فى تنفيذ أمر ما :
-(( الموضوع إياه .. خلص يا باشا .. خلاص أتفقت مع إبن الجناينى طبعاً من غير ما يعرف ليه وعشان مين .. هو أول ما سمع سيرة السفر وأنه يهج من هنا وافق على طول .. ومن بكرة .. الراجل بتاعنا هيدخل يخلص )) ..
أومأ رائف برأسه موافقاً ثم قال مؤكداً بحقد :
-(( عايز شغل نضيف .. يعنى مفيش مانع لو ظهر مرة ولا أتنين وهو بيحتك بيها قدام طاهر .. عايزه يصدق أنها سهله لأى حد .. وخلى التانى ياخد باله كويس .. رحمة مش سهله .. لو فاكر أن المهمة بسيطه يبقى غبى ))..
صمت لوهلة ثم أردف يقول متنهداً :
-(( أنا عارفها كويس )) ..
طمأنه مساعده هاتفاً بثقة :
-(( متخافش يا باشا .. أنا برضه عاشرتها وعارفها .. وفهمته كل اللى حضرتك طلبته .. هو عارف هيعمل أيه .. لو وصلنا متأخر وكانوا أتجوزوا فعلاً .. هيخليه يشاغلها قدام عيونه عشان طاهر يشك فيها متقلقش )) ..
غمغم رائف متوعداً بكراهية شديدة :
-(( خسارة فيه .. بس أنا مش هخليه يتهنى بيها طول مانا عايش )) ..